المسرح و مبغى أوديب / محمود عواد
كل الاهـتمامات المخيالية الجمالية على طول الحراكية الانتاجـية عاشـت مقـاربات متباعدة بمنجزها, والمسرح مثلاً يمكن عدّه صاحب الحدث التجسيدي الأول في الدفـع باتجاه المغايرة والمراهنة على المقدرة في قتل اللغة أو تذويب الحاجز بين الفن والحياة, والملاحظ بنهم متابعتهِ تلك الممارسات الفنية, سيجد اعتمادها الوعي الأدائي الجماعي , في الوقت ذاته كان الاشتغال على فردية التـجربة والـذات من سمات فعاليات مابعد الحداثة في الغالب ؛ لأنّ الحداثة أدركت زوال وعيها نتـيجة وهم البقاء على أنها مقدسة بـما قد أُنجر بزمانيتها ,بخلاف مرحلة وعي المابعد التي قد تميزت في تأسيـسها اللعبي في مغادرتها النسق والخـروج إلى مساحة أشمل تُغذى باللاشكل , وتوافر ذلك يعني هدم السياج الفاصل بين الـمرسل والمُستـقبل, وبحسب الجدول الذي وضعه (إيهاب حسن) للتمييز بين الحداثة ومابعدها, نجـده يُـرجع تصنيفه البُعد الحداثي أنّه قائم على الشكل (متصل ومــقفل ), بينما المابعد يُعطيها سمة اللاشكل أي اللعب في منطقة المقتطع والمفتوح, ولو اعتمدنا استعارة تصنيفاته وعملنا على حِرشة عرض أوديب للمخرج (عباس رهك), من الأكيد أننا سنصل إلى مغازلة الخيط السرابي لآليات وكوامن العرض. والوصول إلى شيفرات الممارسة ستبدأ من فهمنا معنى الاقتراح, ولماذا سعى رهك تثبيته في كل مفاصل العرض؟, وهـل ابتغى بذلك تأكيد خصوصيته بفقدان شكل الاعـتياد؟, أم سعى إلى اقتراحه المعركة مع مـقدسات مسرح العلبة ليدخل في جدل ينبثق مـن رؤى الواقع بإفلاته الزمام واقتناصه الحدث ليُنشئ جـدل محركه الأول والأخير إذاعة بيان يؤمن بمشاعية العُقد في وطن غارق بطواعينَ باتت تمارس انقلاقاتها إدهاشاً منفلتاً, معتمداً تقنين الفوضى لإنضاج أُخر, حيث كل نقلةٍ مكانية جاءت لتعطي بحسب تواصلي أدائياً معها اختصارات بزمانية اللحظة بوصفـها مـرحلة تُدار مـن قبل محاكاتها للحدث المستعار أداءً, ولربما كان يريد بتنقلنا الانتقام من الزمانية بلهاثنا وراء أمكــنة لا ندري ما سينتظرنا بداخلها, فبدءاً من معمل الطابوق المهدوم ذاك المكان الذي تحوّل إلى غاليري وباءات تداخل فيها الأثر والمؤثر, والطقوسية العالية بيّنت فداحة الانخسافات الإنسانية لتكون بمجملها تابعةً لسلطةٍ فَقدت السيطرة على دواعي شفقتها فتحوّلت إلى توحدات تُعايش الفرد,إذا ما فكر الخلاص منهـا لا يفـوز سوى بتناول لذّته كوابت سقوط في دوامية القمع ,أما الرجم فقد أتى بتـخابثٍ عالٍ من مخـزونات المـأزق الديني لكن التوظيف رسم ملامح غطت بوعيها عللى المباشرة البائـنة بهـوس ممارسة الرجم ومنجدها تمثّل باستدعائه البدلة، لنتساءل لماذا بالذات ” بدلة زفاف ” ولـم يأت بثوبٍ عادي؟, كذلك أكياس الحصى. فإنني بمجرد رؤيتها واستلامي لواحد منهن أُثيرت بداخلي أكثرمن حيرةعن كيفية التعامل مع سبع حصوات، ولأنني أعرف أنّ مخرج كرهك ليس من عاداته السذاجة, وكي أصل إلى حـلٍ يُفلتـني من فخٍ محتمل أدركت حافة سكون الضحية, حيث الأغلب رجموا لكنني امتنعت عن الفعل وعاد الجميع إلى الحافلة وأنا غارق في التأويلات, عــــلّني أصطاد سبباً يؤهـلني الاحتفاظ بالكيس لأثبت عـدم غبائي.
فعـروضٌ كهذه لا ينبغي الخروج منها من دون مشاركةٍ في الرؤى وتطعيم غياب التراتبية بالمشاكسات, وبما أن الثـيمة الأدائية لا النصية أتت متشظية بفعلها ومدوّرة بأجوائها الروتينة لتقول أنّ المخرج قد اقترح عدم رمي الحصى لغرض استغلالهنّ برجم دوامية الـروتين العراقي, وإلاّ ما معنى ملء كـل كيس بـسبع و بالـزينة واللون نفسهما, بينما اصطباغهن باللون الأحمر يُحـيلنا إلى تساؤلٍ يُـجاب علـــيه يومياً في نشرات الأخبار حيث القتل الطائفي والتصفيات بين العراقيين أنفسـهم, ولم يكتف العـرض في إنهاك الثوابت اليوتوبيه الفنية, فما حدث في بناية المحافظة أثبت درامية الحــياة اليومية غير الملتفت إليها بمجهرية الذات الفنية, وإن أخفـقت في تقديم فنانها فهي براء,إنما الخلل يكمن في من تجاذب معها باستعلاء ولم يتمغنط ومقتنياتها بكولاجية الظل,ل أن الفـنّ حدثاً حياتياً قائم على كولاجات تجميعية لظلٍ يتعقب وجوده بتثوير جانب المناشدات العاجزة عن التوقف والانقطاع, وفي العـودة إلى رصد ما حدث في بناية المحافظة حتماً سنتلمس إضفاء ثقافة “الجمهور الممثل” فـهناك أذاب الفعل كل حواجز الشكل بمعايشة المضمون وصار كلٌ من محله يؤدي فوضاه في لعبة اقترحتها لا نمطية العرض, إذ عندما أُعلـنَ حلول وقت الصلاة راح الجمهور يُصلي كلٌ مقترح قبلته, ولا تأويل لهذا غيــر اللامبالاة في الظرفيتين وبشطـبها مَلمح لتوجيه صفعةٍ للمسرح تقول باحتراق الخشبة بدون جوانية سَيّنمة الفعل المسرحي بالمكان وأظـن الرسالة قد وصلت لمن يمقـت التعلـيب, وسَيّنمة الفعل المسرحي ظهرت على أصرح وجه عند الانتقال إلى القصـر البابلي لتتصاعد شهوة التوق في معرفة المجهول والمخرج معنا ينتظر على باب أوديب المـؤمل فتحه ليتبادر إلى ذهن العرض نهايته, لكن ثمة ما يمنعني مـن المغادرة, وبرأيي هـذه هي الدكتاتورية المطلوب توافرها مع كل تظاهرة إبتداعية, لأنك لا تعلــم ما ستُفاجأ به ومازال سُـمي بمقترح فما يلزمني سوى التنقيب عن الدهشة في أضيق زاوية, التي بتفكيكها ستُدرك اتساعها بعيون مغلقة كما هو الحال لدى (كوبريك) , نعم فالإحالات بمشغل (رهك) اللامصنف اتسمت بطابع الرصد بفص عين ميت مُعلـقة بفضاءات الظلمة الإنسانية, وهنا أدخلنا العرض في لعبة أدهى من سابقتها. فكان المتلقـي يتجول بين جدران القصـر بصفته الفاحص لذاته المستلبة مـن خلال المعاينات الفاقدة للتـراتبية وبعبـثه الـيومي راح يشاهد طواعينه بالقفـز تتبعاً للوحات التي توزعت موضوعاتها بين الجوع والـقتل والأمراض والجنس الذي هيمن على أداءات داخل القصر منذ اللوحة الأولى , فعمـليـة التهام الخـبر وشرب الـدم أعطت أفقاً غرائزياً شـدت أواصر الأداء باللاوعي حتى عند المتلقي, وأصبح ممكن أيضاً ملاحـقة اللوحات بدوشة أو انتظام . وثمـة ما يجـب التفطن نحوه؛ وهو ما فهمته لحظة اعتلاء صوت الجمـهور بالتـهليل علّ أوديب يستجيب وينتهي العذاب, أن لكل جمهور تجليات أدائـية على المُجسد تــمــتين صلـتها بقتل اشتراطات الظرف؛ وهذه توريطة لا يـمكن الفكاك منها غير من يقترح ظرفيـته, واقتــراح الظرفيات لا يتم إلاّ بتبني ما هو كوني ذاتياً, أو عـلى الأقل استـدراجهُ لمنـاطق المأزق الـذاتـي , وبلد كـالعراق بات يمثل ملهم المآزق الكونية,وعرقنة نص مثل أوديب يُعـدّ مجـازفة تلهمنا القول بأن العراق بما حلت به من مـجازر تجاوز العقد الكونية أجمعها, والعمـوديات من العُقد منحت المخـرج فرصة التلاعب The physiology المشترط حدوثه بالإفادة من تـراكمات الخطايا ليقلب الحاسة عضـواً بفطانة وعيه, كأنه يقترح تأثيم الحاسة بالعضو, بفرويدية وحشية مُحرضها الصدفة التخريبية الناهشة لجـسد نبضنا الوجودي ,ولكي نجاوز اللذّة في تشخـيصاتنا الأوديبة لابد مـن الإشارة إلى الدراماتورج (تمار ميثم) الـذي لامسَ مع العرض بأكمله, وإن جاز لي تسميته فهو السمسار الفعلـي للعرض وبينما المـؤدين الآخــرين فكانوا بمثابة غانيات ظل لمبغى اسمه المخرج .