اللحظة…في عرض فانيا / د. منصور نعمان
مسرحية (فانيا) وهي امتداد لاسم المسرحية الشهيرة (الخال فانيا) لمؤلفها الروسي (انطوان تشيخوف) قدمت مؤخرا في واحدة من قاعات مدينة أربيل وسبق أن قدمت في مدينة السليمانية، فطاقم العمل أبدى رغبته بعرضها لجمهور المدينة، وقد أخرجها الفنان (كاميران رؤوف).
إن نبض الثقافة وحرص المثقفين أن تقدم عروضهم على نطاق واسع، كسر جمود الأزمة المالية التي حددت مسار العروض، مما اضطر المسرحيين إلى التوقف، إلا ما ندر، عبر عروض تلتمس الرغبة الجامحة بالتواصل، وهذا العرض ينتمي إلى هذه الفئة الباحثة عن النبض الحقيقي للحياة الثقافية. إن الفن يشكل حاجة كبيرة للحياة السوية، لا بوصفه تعبيرا عما يشغل الفكر الإنساني حسب، وإنما توسيعاً للإدراك الجمالي، وتشغيلا للخيال وأحيانا مراجعة للذات المتذوقة. من خلال ما تقدم يمكن التطرق إلى العرض، واكتشاف سريته.
في البدء يمكن القول، أن المكان يؤسس في ضوئه العرض المسرحي، سواء صممه المخرج أم شخص معني بالتقنيات، ويمكن قراءة العرض من خلاله، والعرض أسس على قطع أثاث بسيطة مع ثلاثة مستويات يتحرك الممثلون عليها محاطة بالأشجار التي توشك أن تكون جرداء.
وهو دال لمدلول فكري يتسم بالوضوح، وأن التصميم المكاني يوحي بواقعية العرض والتناول، فنحن أمام عرض واقعي، في الحركة والميزانسين، وندرك الواقعية النقدية التي يشتغل عليها المؤلف، فضلا عن تفرده في بنية نصوصه الكبيرة والصغيرة، إلا أن المخرج وقبل بدء العرض يواجه الجمهور بأن النص معد باسم (فانيا) وقد تمت الاستفادة من نص (الخال فانيا وبستان الكرز)، وعند هذه النقطة سنتوقف، ونطرح تساؤلات حول النص الأصلي للمؤلف ونص العرض، وثمة عدد من النصوص وهي على التوالي نص: المؤلف، الممثل، التقني، المخرج و المتلقي.
ومعنى ذلك إن المخرج، في ضوء رؤيته الفكرية والجمالية، التي ستخرق نص المؤلف، وتحدث خلخلة في بنيته، في كيفيات يرتئيها ليؤسس بنية عرض تتقصد رؤية المخرج وأحيانا تقترب منها. إن الرؤية تأتي بمعنى منظور عام يشكل استراتيجية فلسفية وفكرية وجمالية، تستوجب تشكيل عالم جمالي يتسم بالمرونة والإقناع والاشتباك مع المتلقي الذي سيؤسس نصه، عبر سلسلة القناعات والدفاعات التي يجتهد العرض بزلزلتها، لهذا تتنوع الآراء وتختلف قناعات المتلقين وإن أشادوا بالعرض، فإن الاختلاف يعني الزاوية التي وقف عندها المتلقي وهو يقرأ العرض.
وخلال متابعة العرض، لم تكن ثمة متغيرات كبيرة ماعدا، موقف البروفيسور، بكونه أصر على البيع، أما في النص الأصلي للمؤلف، فإنه يتراجع، ويبقى الوضع على ما هو عليه، وهو أمر ينتمي إلى الروح التشيخوفية، ورؤيته للكون والعالم والحياة، وهو ما يسري في النص دون التماع، لكنه مؤثر ومتغلغل، وكأننا نستمع لوجع الأبطال وهم يتكسرون ويتهشمون ويئنون بأوجاعهم. إلا أن رؤية المخرج كانت بالتشديد على البيع، وإتمامه. من هنا كانت الرؤية الإخراجية بأن البيع أمر مفروغ منه، على الرغم من الاصطراع بينهم، إذا هي رؤية في النص الأصلي، لا تكون إعدادا. أما استقدام وباخين من نص بستان الكرز وزجه في النص الأصلي، فضلا عن كونه غير مؤثر، ولا ضرورة له. أنا لست مع جعل النصوص الكبيرة بقدسية فارغة، ولست ضد أن نجرب في كتابة النص، لكن تحت مجهر الرؤية لا الإعداد، التي تتيح تشكيل العالم المتخيل من جديد، أي أن يكون المخرج دراماتورج العرض، من أجل إعطاء فرصة للنصوص القديمة أن تحي بيننا من جديد، فمن الصعب بمكان أن يكون شخص معدا لنص عملاق مثل تشيخوف أو شكسبير أو برشت…الخ. بل ينبغي وجود دراماتورج.
أما من حيث بنية العرض، فإن الأجواء اتسمت بواقعية الأداء التمثيلي، في الانفعال والحركة، وتوظيف المؤثرات الصوتية، تدعيما للجو، وجعل العزف الحي لأحد العازفين يواكب العرض، لتعميق الجو العام، ويمكن الإشادة بلحظتين تسترعي أن الانتباه هما: لحظة إشهار الخال لمسدسه على البروفيسور لقتله. ففي النص الأصلي للمؤلف تكون عدة إطلاقات يطلقها الخال لكنه لا يصيب الهدف، وكأن المؤلف أراد للخال أن لا يصيب البروفسور، انسجاما مع منظوره، بوصف أن العالم لا يتغير مهما انفعلنا، والأمر ذاته حدث في العرض، لكن اللحظة، كانت بعملية تسليط الضوء على محاولة القتل وتحويلها إلى حركة بطيئة (سلوموشن)، وعلى حين غرة تحولت هذه اللحظة من لغة مسرح إلى لغة سينما. وكانت أجمل ما في العرض إخراجيا، وأداها الممثلون بدقة كبيرة وبوعي، وشكل اندفاع الخال البطيء وكأنه يزحف وهو يهم بالانقضاض، وحركة الممثلين معه، فقد تغير التكوين والإيقاع، وسينوغرافيا المشهد، فكانت خرقا إخراجيا للنص. وبذلك كانت لحظة استثنائية، تكثف ثقافة ورؤية المخرج لهذا العالم المتخيل، وبالوقت ذاته يتقصد المتلقي الجالس لمتابعة العرض.
مما يدفع للتشديد على هذه المسألة، كونها تؤشر، كيفية الاشتغال الإخراجي، عندما يكون المخرج يمتلك منظورا. إلا أن الأمر اختلف حين ننظر إلى لحظة أخرى، كان لها من القوة ما لها إلا أن العجالة وعدم التأني أثرا على فاعليتها.
لقد جاءت في نهاية العرض، إذ يسحب مرتفع يشكل جزءاً من أرضية المكان، فتظهر هوة عميقة سرعان ما تتوهج باللون الأحمر، وذلك إشارة إلى الدم والدمار والاقتتال، من خلال شكل فني، أريد له أن يستنطق فكر المتلقي، من أن البيع، سيؤدي إلى نهايات لا تحمد عقباها. ولكن جمال هذه اللحظة كان بتنفيذ مرتبك و سريع، مما أفقدها التأثير المطلوب، فمرت بسرعة، من غير أن يكون فيها إشباع كاف، بحيث يتمكن المتلقي من الانتباه إليها، بوصفها إشارة تقرأ برمزية عالية، إلا أن عدم دقة التنفيذ افقدها طاقتها التأويلية، جعلها تبدو مربكة، زلقة.
إن العناية باللحظة التي تخترق سياق العرض، سواء عن طريق زجها في الحدث، أم مجاورتها له أو تحويلها إلى شكل ولون فني آخر، تساوي العرض برمته، لأن العرض وجماله إنما هو مجموع تلك اللحظات، التي تبث بوصفها رسائل تستوقف الفكر والجمال.