نص مسرحي: "التاعس والناعس"/ تأليف: عز الدين جلاوجي
اللوحة الأولى
(عند جذع شجرة كبيرة يظهر أحدهما نائما…ضجيج وأصوات يصل بعضها من بعيد…بعد لحظات يصل أحدهما في ثياب العمل وقد بدا عليه الجهد والتعب… يدخل البيت البسيط المتواضع ثم يعاود الخروج…ينشر ثيابا مغسولة على حبل مربوط بين شجرتين… يتحرك النائم.. يفرك عينيه.. ويجلس مكانه..)
الناعس: (يتثاءب بعمق )عدت يا تاعس؟
التاعس: (يجيبه وهو منهمك في عمله)وأنت لا تعرف إلا النوم، صدق من سماك ناعس.
الناعس: ( يتكئ على مرفقه، حاكا عينيه بيمناه) وهل تريدني أن أخيب ظن والدتي -يرحمها الله-؟ أنا اسم على مسمى يا صاحبي، وأنت…
التاعس: (يقاطعه وقد أكمل عمله واستدار إليه) صدقت وأنا تاعس اسم على مسمى، اللعنة على من سماني كذلك.
الناعس: (يضحك بتثاقل) لعلها أمك، إما أنها كانت غبية، وإما أنها كانت تنظر بمنظار الغيب
التاعس: (يجلس قريبا منه مطرقا وقد بدت على ملامحه أحزان) ليتها أمي يا صاحبي. (يصمت وقد اشتد حزنه)
الناعس: (يتفرس فيه لحظات، ثم يقترب منه) ما هذا الحزن يا صاحبي؟ كأنك تخفي سرا خطيرا
التاعس: (يقف وإلى جواره يقف الناعس متثاقلا) فقدت والدي قبل ميلادي بشهرين، وفقدت والدتي بعد ولادتي مباشرة، ولم يبق لي من الأهل أحد، فاحتضنني الجيران، الذين سموني التاعس (يغرق في حزن عميق، فيما يغرق الناعس في الضحك)
الناعس: صدقوا، وماذا يمكن أن يسموك غير ذلك، فعلا أنت قمة التعاسة ومنبعها في هذا الوجود، هل هناك من يفقد أباه وأمه دفعة واحدة، ويولد عاريا من كل عاطفة؟ (يصمت لحظات، يخطو خطوات غارقا في التفكير)هل تؤمن مثلي أننا نولد أشقياء أو سعداء، وأن الأقدار ترسم لنا ذلك منذ الأزل؟ وأن علامات ذلك تظهر منذ صرختنا الأولى في الوجود؟أؤمن أن الإنسان بعمله يستطيع أن يغير واقعه، وسأغير واقعي، سأصنعه بعرق الجبين المكتوب في الجبين يلحق ولو بعد حين يا صاحبي نحن الذين نكتب أقدارنا، ونومك لن يؤدي إلا إلى تعاستك (يقترب منه مغيرا الحديث وعلى وجهه ابتسامة الهزأ) قل لي.
التاعس: اسأل.
الناعس: لم عدت اليوم سريعا على غير عادتك؟
التاعس: تعبت.. كرهت.. ألست بشرا؟
الناعس: أحسنت هذا قرار جميل دعك من هذا التعب؟
التاعس: ماذا تقصد؟
الناعس: (يمسكه من يده بلطف) أتسمعني يا صاحبي؟
التاعس: دون شك.. كلي آذان صاغية.
الناعس: (يمط أذنيه ويجلسان متقابلين.. يتنحنح قائلا) أنت ترهق نفسك كثيرا وتجد في العمل أكثر من أي إنسان آخر.
التاعس: (يرتب هندامه معتزا بنفسه) هذا صحيح.. أكبر عامل في هذه المدينة هو أنا، العمل عبادة، ألم يقل الأولون أن العمل عبادة؟ ألم يقولوا اعمل في صغرك لكبرك، واعمل لكبرك لقبرك؟
الناعس: ولماذا تعمل؟
التاعس: لماذا أعمل؟ لماذا أعمل؟ (ظهر مضطربا وقد فرت منه الإجابة، فيضحك الناعس باستهزاء )
الناعس: أرأيت لم تجد الإجابة الشافية؟
التاعس: (يجمع قواه متحديا وقد تغيرت ملامحه) بل وجدتها
الناعس: ما هي؟
التاعس: كيف أستريح، أنا أطلب الراحة، ألم تسمع ما قال الأوائل؟ اعمل في صغرك لكبرك، واعمل لكبرك لقبرك.
الناعس: ماذا قلت؟ كي تستريح، ومتى تستريح؟
التاعس: متى أستريح؟ متى أستريح، حين أكبر.
الناعس: يا سلام حين تكبر، وهل يجد الإنسان راحة حين يكبر وقد تقوس ظهره وضعفت عظامه وهاجمته الأمراض من كل حدب وصوب؟
التاعس: وإذن متى أستريح في رأيك؟
الناعس: استرح الآن، أنت تعمل لتستريح، استرح الآن.
التاعس: استريح الآن.. أستريح الآن؟! وهل ذلك ممكن؟
الناعس: طبعا طبعا.. وما المانع؟
التاعس: أرأيت ذلك السلم؟
الناعس: (يقترب من سلم كان منتصبا بالقرب منهما، له جهتان للصعود والنزول) نعم رأيته، ما دخل السلم في حياتنا
التاعس: الحياة تشبه هذا السلم
الناعس: لقد صرت يا صاحبي فيلسوفا، لم أفهم قصدك
التاعس: لا فلسفة ولا هم يحزنون، الدنيا كالسلم بالضبط، تأمل ماذا سأفعل
الناعس: (يقوم بصعود درجات السلم والنزول على الجهة الأخرى)
التاعس: (يصفق) أهنئك وأخيرا تحركت، حتما ستتخلص من كسلك
الناعس:لا تتفلسف كثيرا وافهمني، الدنيا كالسلم، تصعد لتنزل، ومادمت ستنزل فلم تتعب نفسك في الصعود
التاعس: (تظهر الدهشة عليه، يحملق في السلم مرددا في نفسه) أصعد، أهبط، صحيح، مادمت سأهبط فلماذا أصعد؟
الناعس: (يسير خطوات حائرا، ثم ينتبه فجأة من حيرته)إذن تريدني أن أستريح الآن؟
التاعس: هو ذاك، لقد فهمت أخيرا الدرس
الناعس: ومم نعيش؟ ماذا نأكل وماذا نشرب؟ وماذا….
التاعس: أنت أعمى البصيرة حقا
الناعس: ما دخل البصيرة فيما يضمن حياتنا؟
التاعس: ألا تراني أنا؟ انظر إلي.
الناعس: (يقترب من التاعس وهو يضرب براحة يده على صدره) بلى أراك.. أنت أمامي بلحمك وشحمك (يقترب أكثر حتى يكاد يلتصق بالتاعس) تأكد جيدا من أنك تراني
التاعس: (يتلمس جسد الناعس بكلتا يديه في أماكن مختلفة وقد فتح عينيه جيدا) أنا أراك، وأحسك، وألمسك، وأشمك
الناعس: جميل جميل، هل تراني أعمل؟
التاعس: (يبتعد من الناعس نافرا) أعوذ بالله، أبدا أنت والعمل كالملائكة والشياطين، أنت في الشرق وهو في الغرب، شتان يا صاحبي شتان، ما أبعد الثرى عن الثريا يا صاحبي وذا….
الناعس: (يقاطعه بصرامة) أحسنت أحسنت يكفي كدت تصير شاعرا
التاعس: لم أفهم مرادك يا ناعس
الناعس: هل تراني مت جوعا يا صاحبي التاعس؟
التاعس: بل أنت في صحة جيدة
الناعس: (يضرب على صدره وبطنه، ويظهر عضلات يديه) أحسن منك…
التاعس: صحيح والله أنت أحسن مني، عضلاتك قوية، ووجهك ممتلئ (يلمس جسده مقارنا بينه وبين الناعس)
الناعس: ( يفاجئه سائلا) وكيف أحصل على غذائي وكسائي؟ (يضطرب التاعس متمتما دون أن يجيب) أحصل على طعامي وكسائي وأنا نــائم
التاعس: صدقت.. نائم ملء جفونك.. ولكن..
الناعس: (يقاطعه بقوة) ولكن ماذا أيها الغبي؟ لماذا تفلسف كل شيء؟
التاعس: صدق من قال تفلسف الحمار فمات جوعا.
الناعس: أنا لم أمت جوعا منذ ولدت.
التاعس: (وقد تغيرت ملامحه يجيب صاحبه بصرامة) لأنك تأكل من جهدي أيها الغبي..أحسنت.. ما عليك إلا أن تستريح.. تخلد للراحة التامة.. وسيسوق الله لك تاعسا ليخدمك.
الناعس: ( يتراجع عن اندفاعه وقد بدت عليه الحيرة) أستريح فيسوق الله لي تاعسا ليخدمني؟
التاعس: أكاد أقتنع..صدقت..أنت محق والله..لست وحدك من قضيت ما مضى من عمرك متطفلا علي.. الأرض ملأى بالمتطفلين في عالم النباتات والطيور والحيوانات.. وملأى بالأغبياء الأشقياء مثلي، يا ألله ما أشقاني ما أغباني
الناعس: (يقترب من صاحبه وقد تغيرت ملامحه انبساطا) هل تدري؟
التاعس: ما الذي أدريه يا ناعس؟ لقد قلبت لي كل الموازين.. لم أعد أميز بين ما هو خير وما هو شر، ما هو حق وما هو باطل.
الناعس: أنا أحلم أن أكون أميرا.
التاعس: (يندفع نحو صاحبه وقد هزته الدهشة، يمسح أذنيه بأصابعه) ماذا قلت، ماذا قلت؟ أميرا؟؟؟
الناعس: (يعيد الجملة ببطء وتجزيء) أنا.. أحلم.. أن.. أكون.. أميرا.
التاعس: (يفتح عينيه إلى آخرهما اندهاشا) أميرا دفعة واحدة؟ (يغرق في الضحك وهو يشير للناعس بسبابته) هههههه… ماذا قلت؟ أمير؟ ههههه، أمير؟ كدت تقتلني ضحكا يا مجنون
الناعس: (تتغير ملامحه فجأة، ويشتد قلقه وغضبه) بل ملكا عظيما.. ملكا تخضع له الرقاب وتركع له الهامات.. وترتعد له القلوب..
التاعس: (تزداد مفاجأته فيتظاهر بالولاء للملك) أمرك يامولاي، نبايعك على السمع والطاعة في السراء والضراء (يبقى الناعس جامد الملامح غير مبال باستهزاء صاحبه، يغير التاعس ملامحه إلى الجد قائلا) أنت تحلم بالمستحيل.
الناعس: ليس في الحياة مستحيل يا تاعس.. يا أتعس خلق الله أجمعين، ليس في الحياة مستحيل، كل الحقائق التي تراها أمامك كانت أحلاما، يكفي أن تحلم، والبقية على حظك.
التاعس: وهل يمكن أن أكون أنا أيضا ملكا؟
الناعس: ممكن جدا
التاعس: (يقفز فرحا) لقد أفرحتني.. أفرحتني.
الناعس: ولكن بشرط
التاعس: (ينكمش في مكانه مصدوما) ما هو؟ لقد صدمتني يا صديقي.
الناعس: أن تؤمن بذلك بعمق
التاعس: (يتردد متلعثما) ولكنـ..نـ لكن؟؟ نعم نعم أنا مؤمن بها.
الناعس: أرأيت؟ أنت متردد، ألم أقل لك؟ لقد رسخ في ذهنك أنك ستبقى تعيسا، وحتما ستبقى كذلك.
التاعس: (يشتد خوفه، فيقترب من الناعس يترجاه ) لا لا أرجوك أرجوك، لقد آمنت بك، آمنت بما تؤمن به تماما
الناعس: جيد جيد ياتاعس جيد..
التاعس: (يتقدم من الناعس حتى يكاد يلتصق به)أنا تحت أمرك وطوع إشارتك
الناعس: جيد، دعنا الآن نحلم
التاعس: بماذا سنحلم يا ناعس
الناعس: (يردد في سره) يا رب ما فلحنا بالحقيقة فهل نفلح بالحلم؟ وإذا صرت ملكا حاكما عظيما ماذا ستفعل؟
التاعس: (يندفع مجيبا دون تفكير) وهل هذا يحتاج إلى سؤال؟
الناعس: لم أفهم
التاعس: (يحمل عصا كانت مهملة على الأرض ويجلس جانبا على صخرة، كأنه ملك على عرشه)شعبي العزيز، سأملأ البلد عدلا.. سأحارب الظلم وأشيع الخير والمحبة والفضيلة.. سأفرغ خزائن المال وأوزعه على الرعية كلها..كلها.. سأحول الجميع إلى جيش من….
الناعس: (يقطع عنه أحلامه غاضبا) يا لك من غبي! كفى جنونا كفى كفى.
التاعس: غبي؟؟ مجنون؟؟ مجنون؟؟
الناعس: (يمسكه من يده ويوقفه بقوة ) اسمع ياتاعس سأقص عليك قصة..
التاعس: قصة، قصة؟ لن نخرج اليوم من الأحلام والقصص، هات يا صاحبي إني أسمعك وأمري لله.
الناعس: فيما مضى كان لملك شعب كسول
التاعس: شعب ناعس.
الناعس: هو بالضبط
التاعس: (يضحك سخرية) وأنت منهم؟ من مخلفاتهم؟
الناعس: دعك من هذا يا تاعس، المهم أن الملك قد جمعهم في صعيد واحد وخيرهم بين أن يعملوا أو يرموا في البحر.
التاعس: واختاروا العمل طبعا؟
الناعس: يا لك من غبي.. بل اختاروا البحر.
التاعس: اختاروا البحر؟
الناعس: ومضت بهم الباخرة إلى البحر.
التاعس: جميعا؟
الناعس: أجل كلهم جميعا.
التاعس: ارتضوا البحر على العمل؟
الناعس: وفي أعالي البحر اعترض ملك آخر الباخرة وعلم بقصتهم، فدعاهم إلى العيش ببلده رغم اشتراطهم الخلود للراحة، فلما سمع ملكهم بالأمر لحق بهم لأنه بقي في مملكته دون رعية يحكمها وراح يسعى لإعادتهم
التاعس: هذا الملك أصيل
الناعس: لكنهم رفضوا
التاعس: عجبا! رفضوا؟
الناعس:نعم يا تاعس رفضوا فتجاذبهم الملكان.
التاعس: (يطوي يديه متعجبا) ومع من ذهبوا يا ناعس؟
الناعس: عادوا مع ملكهم.
التاعس: الحمد لله أقنعهم بالعمل؟ هذه هي الحقيقة، لا معنى لحياة دون عمل، العمل سر الحياة وروحها يا ناعس ألم أقل لك؟ ألم…
الناعس: (يزم فمه وقد ضاق من طول حديثه) صمتا يا تاعس، لا تتسرع أرجوك، تعتقد أن الناس جميعا تعساء مثلك.
التاعس: وإذن؟ لماذا عادوا؟
الناعس: بشرط أن يعمل هو.. ويخلدوا هم للراحة.
التاعس: (متعجبا) ماذا قلت؟ يعمل هو ويخلدون هم للراحة؟ أي صاروا هم الملك وهو الرعية؟
الناعس: بالضبط.
التاعس: (يمطط شفته السفلى في حيرة) سبحان مغير الأحوال.
الناعس: لنعد لما كنا عليه يا تاعس.
التاعس: كيف سنصير ملوكا؟
الناعس: هذا أمر تجاوزناه
التاعس: آه نسيت، لم تخبرني ماذا ستفعل أنت حين تصير ملكا يا ناعس، أم أنك ستفرض على الجميع النوم والراحة؟
الناعس: هذا أمر تجاوزناه أيضا يا تاعس.
التاعس: إذن أي موضوع سنناقش؟
الناعس: لقد قررت السفر.
التاعس: قررت السفر لماذا؟
الناعس: (يشرع في جمع أغراضه التي سيحملها معه) لأصير ملكا.
التاعس: ولماذا لا تصير ملكا هنا
الناعس:ا نبي في قومه يا غبي.. قومك يحسدونك.
التاعس: صدفت، فلنسافر
(يجمعان أغراضهما وينطلقان)
*****
اللوحة الثانية
(يدخل الرفيقان مدينة كبيرة وقد ظهرت عليهما علامات التعب والإجهاد من طول السفر والترحال.. تتناهى إلى الأسماع أصوات ضجيج ونقاشات حادة تصل من بعيد ثم تبدأ في الاقتراب رويدا رويدا…جمع من الناس يحملون لافتات… جموع أخرى يحملون هراوات وسيوف)
التاعس: (يتملكه الخوف الشديد فيتوقف عن السير، يضع أغراضه، يمسك بالناعس) علينا أن نغادر بسرعة يا صاحبي هيا هيا…
الناعس: (يدفعه بقلق)ويحك يا تاعس ما دهاك؟
التاعس: لقد قذفت بنا في فم أسد جائع
(يصلهم من بعيد صوت تهديد: سنقتلهم، سنقتلهم.. ينكمش التاعس ملتصقا بالناعس الذي يظهر أكثر تماسكا، يرتفع صوت آخر بل نذبحهم كالخراف.. تختلط الأصوات، أصوات تهديد وأصوات ضرب وجر.. اللعنة عليهم اللعنة، اللعنة عليكم).
التاعس: (يندفع فارا وقد اشتد خوفه، يعود حيث يقف الناعس يحمل أغراضه ويجره فلا يتمكن من ذلك يتركه مغادرا) سأعود يا صاحبي من حيث جئت، ابق هنا إن شئت، أنا ذاهب أنا ذاهب.
الناعس: (يمسك به يعيده إلى مكانه)رويك رويدك
التاعس: إلى متى؟ حتى نذبح كالخراف؟
الناعس: هذه فرصتنا يا صاحبي
التاعس: فرصتنا للموت
الناعس: يا لك من غبي! انتهاز الفرص يكون حين تعم الفوضى، ألا تراهم يختلفون ويقتتلون؟ وحين يقتتل الأغبياء، يقفز الأذكياء على ظهورهم لتحقيق أهدافهم
التاعس: ماذا تخطط؟ صرت تخيفني
الناعس: دعنا نسألهم يا صاحبي
التاعس: وعم تسألهم؟ ألست تسمعهم؟ إنهم يهددون بقتلنا بل بذبحنا.
(يرتفع صوت آخر فيه بحة سنمص دماءهم.)
الناعس: (يقترب من شخص دنا منهما سائلا) ما الذي حل بالمدينة وناسها؟ كأنما فشا فيها السعار.
(يكشر فيهما الشخص دون أن يجيب ويبتعد عنهما مهرولا وهو يستل سيفه)
التاعس: (يتأمله بحيرة قائلا) أعوذ بالله لقد تحولوا جميعا إلى كلاب.
الناعس: ولكنك تراهم بشرا.
التاعس: إني أراهم كلابا.. انظر.. اسمع.. إنهم ينبحون.
الناعس: على مهلك.. هاهو آخر نسأله عن السر.
التاعس: ماذا تسأل؟ الأمر واضح واضح. (يقترب منهما شاب ملوحا بعصاه، يختفي التاعس وراء الناعس الذي يعترض سبيله سائلا )أرجوك ما الذي….؟
الشاب: (يهجم عليه ماسكا بتلابيبه مهددا) أنت منهم، واضح أنت منهم (يخنقه بشدة)سنسحقكم كالحشرات (ينظر للتاعس مختفيا خلف صاحبه) وأنت أيها اللعين، وتتظاهران بالحياد
التاعس: (يجيبه مرعوبا) نحن غريبان.. غريبان يا سيدي ( يتركهما الشاب ويسرع مبتعدا، يتنفس التاعس الصعداء كأنما كان تحت الماء)الحمد لله لقد نجونا هذه المرة فلنرحل أيها العنيد لنرحل بسرعة بسرعة (يقبل كهل من بعيد على ملامحه حزن، يجر التاعس الناعس من ذراعه خائفا)أرجوك لنغادر بسرعة
الناعس: لم الخوف ونحن غريبان؟ لا دخل لنا فيما وقع.. أو سيقع.
الكهل: (يسمع كلامهما فيتدخل مجيبا بحزن) لكن النار تأكل الأخضر واليابس.. والفتنة تحرق القريب والغريب.
التاعس: (يتشجع قائلا)أرأيت؟ ألم أقل لك؟
الناعس: (ينزع منه ذراعه صائحا فيه) لن أخرج ولتحرقني النار.
التاعس: (يندفع نحو الكهل يترجاه)أخبره سيدي أرجوك، أخبره بما ينتظرنا
الكاهل: لقد عمت الفتنة كامل المدينة.. الباقي فيها مقتول والخارج منها مقتول.
التاعس: (يضرب على جبهته بكفه حسرة وندما) أسمعت ما يقول؟ أسمعت؟ يا ويلي ما أحمقني حين صدقت كلام أحمق مثلك، يا ويلي، كنت هانئا مطمئنا آكل من عرق جبيني، جئت أسعى وراء الوهم، آمنت بغبائي ما لا يؤمن به إلا المجانين.
(يشتد الصخب فجأة وترفع أصوات مهدده (سنقتلهم.. نذبحكم.. نمص دماءكم..) تقترب الأصوات سريعا)
التاعس: (يلتصق بصاحبه)لقد وصلوا وصلوا، هيا أرجوك لنغادر المكان سريعا.
الناعس: (يدفعه بعنف) لن أغادر المدينة، قلت لك لن أغادر المدينة ولو قتلت عد معي واسترح كما كنت، سأخدمك ما حييت (يلتفت إلى الكهل مستفسرا) بالله عليك يا سيدي أخبرنا بما وقع في المدينة؟
الكهل: ألم تسمعوا بعد؟ لقد مات الملك.
الناعس: يرحمه الله… كلنا نموت.. لكني لا أرى مظاهر للحزن.
الشاب: (يندفع بينهم فجأة في حماسة وتحد) فلتموتوا..
الناعس: المهم ان نكون نحن الخلف.
التاعس: (يجيب) فعلا معك حق، وأنتم أحق.
شاب ثان: (يفاجئه) بل نحن
التاعس: (يبحلق فيه مرعوبا وقد هزته المفاجأة) وأنتم أحق وأجدر.
الشابان: (يتخاصمان) بل نحن أحق وأجدر.. بل نحن أحق وأجدر
الناعس: (يندفع يفصل بينهما)يا جماعة يا جماعة ما هكذا يكون الخلاف
التاعس: وما دخلنا نحن؟ فلنغادر.
(يزداد عدد المختلفين وترتفع أصواتهم متخاصمين، يصرخ الكل فيهم (ياقوم حكموا العقل.. الفتنة نار.. والنار شر وشنار. ) يبتعد عنهم الناعس بصعوبة وقد كادوا يعصرونه (صدقت.. صدقت…) يبتعد الطرفان عن بعضهما.. )
الشاب الأول: (يصيح) لن نقبل إلا بالملك.
الشاب الثاني: (يرد عليه ملوحا بعصاه في وجوه خصومه) بل الملك لنا.
الناعس: (يقف بينهم) يا قوم تعقلوا وأفهمونا القصة… (تختلط أصواتهم فلا يفهم منها شيء، يوجه الناعس سؤاله للشاب الأول) أفهمنا أنت القصة، ما الذي وقع؟
الشاب الأول: مات الملك.
الناعس: علمنا يرحمه الله
الشاب الأول: يجب أن نختار خليفة له.
الناعس: عين الصواب.
الشاب الأول: ولنا طريقة في ذلك يعرفها العام والخاص.. توارثها الأحفاد عن الأجداد وعملنا بها قرونا من الزمن.
الشاب الثاني: (يقاطعه) ولكن هذه الطريقة ظالمة منحت الملك لهؤلاء عقودا.
الناعس: هل يمكن أن تفهماني هذه الطريقة، إن كانت خيرا استمروا فيها، وإن كانت شرا بحثنا معكم على طريقة جديدة، أليس كذلك يا تاعس؟
التاعس: (يسر إليه في قلق) وما دخلنا نحن؟ دعنا ننجو بأنفسنا ونعود إلى ديارنا
الناعس:اسكت عليك اللعنة، إنها فرصتنا لنركب على ظهور هؤلاء الأغبياء
الكهل: (يقبل شيخ وقور من بعيد، فيلتفت إليه الجميع صامتين، فيما يتشجع الكهل فيندفع قائلا)الرأي الحكيم أن نبقى على ما ورثناه من الأجداد.أليس كذلك أيها الشيخ الحكيم؟
الشيخ: (يهز رأسه) بلى… بلى… صدقت لن نحيد عن إرث الآباء والأجداد، لقد أعزنا الله بنهجهم، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.(يهمهم الجميع مؤيدين الشيخ، فيما ترتسم علامات الحيرة على التاعس والناعس)
الناعس: (الذي يندفع مستفسرا) وما الذي ورثتموه من الأجداد؟
الشاب الأول: (يندفع بحماس) أن يجمع الناس في صعيد واحد ويؤتى بغراب مقدس يحمله أكبر أهل المملكة ثم يدفع به في الجو ليحط على أحد الحاضرين فيكون ملكنا وسيدنا.
الناعس: الجميع دون استثناء؟
الشاب الأول: الجميع.. الجميع دون استثناء.. الكبار والصغار.. النساء والرجال.. وحتى الغرباء أيضا.
الناعس: (يشرق وجهه ابتهاجا ويصيح) ما أعظم هذا الموروث! لأجدادكم أعظم منكم وأذكى، والله الذي لا إله إلا هو، والذي نفسي بيده، ما وجدت طريقة عبقرية مثلها أبدا، أنتم مدرسة، مدرسة عظيمة في تنظيم شؤون الحكم، لا بد أن تتمسكوا بإرث الأجداد، ولا بد أن تنشروه في العالم أجمع.
التاعس: (يقترب منه مندهشا، يسر في أذنه)مالك ياناعس تحولت خطيبا متحمسا هكذا؟ ماذا يعنيك أنت من أمرهم؟
الناعس: اسكت يا تاعس.. أعدك إن صرت ملكا أن أجد لك عملا يستمر ليلا ونهارا.
الشيخ: (يقطع على الجميع كلامهم فينصتون إليه)أدعو كل سكان المدينة إلى الحضور الآن في صعيد واحد، فقد حان وقت إطلاق الغراب المقدس، وليخرجوا إلى هذا اليوم المبارك في زينتهم وأفراحهم، ليبارك الله مسعانا، ولتكن قلوبهم صافية ومشاعرهم تجاه الغراب طاهرة (ينشط الناس في التوافد على المكان وقد تغير كل شيء فيهم، ومالوا إلى الصمت والتضرع بأدعية تتحرك بها شفاههم. بعد زمن يقف الشيخ في مكان مرتفع وبجواره شاب يحمل غرابا معصوب العينين، يتأمل التاعس المشهد في دهشة كبيرة، يسر للناعس)
التاعس: لو يقع الغراب علي لحققت حلمي في إقامة العدل بين هؤلاء المساكين ( ينتظر ردا من صاحبه الذي ظل يتابع المشهد، ثم يستمر في الحديث) وسأقضي على هذه العادة الخبيثة.
الناعس: (يلتفت إليه غاضبا) تصل بها إلى الملك ثم تقضي عليها لتحرم غيرك؟ يا لك من أناني.
التاعس: وأنت ماذا تفعل حين تصل إلى الحكم؟
الناعس: حين يختارني الغراب سأرسلك سفيرا.
التاعس: (يقبله بحرارة) الله ما أعظمك! ما أكرمك! (يتغير مزاجه ويبدو عليه الغضب)كنت أنتظر أن تجعلني نائبك، رئيسا للوزراء
الناعس: أنا أعرف ما يليق بك، أنت تصلح أن تكون سفيرا مفوضا فوق العادة
التاعس: شكرا شكرا، أنت أخي حقا، أين تبعث بي سفيرا؟ في أي دولة؟
الناعس: إلى جمهورية القبر.. وإن شئت إلى مملكة الجحيم.. اسكت اسكت للشيخ ما يقول.
(يتمتم الشيخ بكلمات غير مفهومة ثم يطلق الغراب.. تتعلق به العيون يرفع بعضهم أكف الضراعة.. يحلق الغراب لحظات ثم يقع رأس أحدهم ويعود الطيران لحظات ليحط على رأس الناعس.. ينظر الجميع إليه بدهشة منتظرين طيران الغراب دون جدوى، يحيط به الجميع يرفعونه ويهتفون:( عاش الملك.. يحيا الملك.. عاش الملك.. يحيا الملك.. عاش الملك.. يحيا الملك..) يبتعد الجميع تاركين التاعس وقد سمرته الدهشة لحظات)
التاعس: (يفطن فجأة فلا يرى أحدا حوله، ينطلق صائحا) يا ناعس.. يا ناعس.. يا ناعس.. خذني معك يا ناعس (لا أحد يرد.. يجهش بالبكاء الحار.. يجثو على ركبتيه) ما أحقر الدنيا! ما أحقر الصدف! أقضي معظم حياتي عاملا جادا وأبقى تعيسا.. ويقضي هذا الحقير معظم حياته ناعسا متطفلا لينصب ملكا عظيما؟ (يرتفع صياحه)عليك اللعنة أيتها الحياة… عليكم اللعنة أيها الجبناء الأوغاد التافهون.. عباد الغراب (يسقط أرضا دون حراك)
*****
اللوحة الثالثة
(في قصر المملكة يظهر الناعس في زي الملك يجلس على عرش ضخم في تعال وأبهة.. حواليه يقف الجنود للحراسة مدججين بالأسلحة… وأمامه يقف جمع من كبار القوم في صمت تام.لحظات يدخل الشيخ وبيده أوراق وخلفه مساعدون، يركعون إجلالا للملك، يشير إليهم فيستقيمون)
الملك: (يقف يتجه إلى الشيخ بالسؤال) بما عدت أيها الشيخ؟
الشيخ: بكل ما يرضيك مولانا، لقد طبقت تعليماتك حرفيا
الملك: أعدها علي من فضلك
الشيخ: بالنسبة للتعليم، غيرنا مناهجه ومواده جذريا، لن يتعلم أبناؤنا من الآن فصاعدا إلا فن المدح، نريد جيشا من الإعلاميين والشعراء والخطباء يتقنون فن المدح وقد رحبت الرعية بعبقرية مولانا وحرصه على مصلحة الأمة.
الملك:حفظ الله رعيتي لا نريد إلا مصلحتها
الشيخ: (يشتد حماسه، فيشرق وجهه وينطلق كالخطيب وهو يلوح بيده شارحا) قلت لهم بالضبط ما قلت يا مولاي، قلت لهم لا يجوز أن نرهق جيل المستقبل بناة الوطن وحماته بما يفسد عقولهم، كما لابد أن نبعد عنهم التيارات الهدامة التي تدفعهم إلى الحقد والنقد وكثرة السؤال، المدح هو غايتنا وهو هدفنا، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله.
الملك: أحسنت أحسنت، والعمل؟
الشيخ: فعلا سيدي ومولاي، طبقنا تعليماتك حرفيا، لا عمل اليوم إلا في ساعات الصباح، الأمة بحاجة إلى التقارب والتحابب والتزاور، لتشتد ألفتها ومحبتها، العمل الكثير مجهد للنفس، مرهق للبدن.
الملك: سلمتم، سلمتم
الشيخ: الله! لقد هلل الجميع لعبقرية مولانا
(يصفق الجميع اعترافا بعبقرية الملك، ينسحب هو عائدا إلى عرشه، يجلس عليه متباهيا، يتناهى إليه أصوات ضجيج خارج القصر، فيصيح في الشيخ)
الملك: كأني أسمع ضوضاء خارج القصر، ما الذي يحدث أيها الشيخ؟
الشيخ: (يبتسم مطمئنا وهو يقترب خطوات من الملك)لا تهتم يا سيدي الملك، مئات من شعراء يتدافعون عند الباب علك تتكرم فتسمح لهم بمدحك يا سيد الملوك.
الملك: (يشير بيده في غضب)اصرفهم لهم الويل، وهل أسمع إليهم كل يوم؟ لقد وصفوا كل شيء في، وكل عضو من أعضائي، ألا يشبع هؤلاء من الهذر، رغم أنهم لم ينالوا منا غير ابتسامات
الشيخ:لا يريدون سيدي إلا رضاك، رضاك غايتنا جميعا
(يلهج جميع الحاضرين بصوت واحد كأنهم يتغنون: (رضاكم، رضاكم، رضاكم رضاكم)
الحاجب: (يدخل عليه راكعا، فيسكت الجميع ويلتفتون إليه) سيدي ومولاي.
الملك: (يشير إليه بالرفع من ركوعه) زائر سيدي
الملك: (يهتم للأمر، يعتدل في جلسته، يعدل تاجه) من أهل رعيتي؟
الشيخ: (يقاطعه و كان يجلس في مكان قريب منه) كل الرعية قدمت تهانيها وولاءها سيدي ومولاي.
الملك: من هو إذن؟
الحاجب: رفض أن يعرف بنفسه…
الملك: (يقف غاضبا)هل يجرؤ اللعين؟
الحاجب: في البداية سيدي ثم…
الملك: ثم ماذا؟
الحاجب: ثم.. ولكنه يا سيدي…
الملك: انطق عليك اللعنة.
الحاجب: نعم سيدي (يضطرب وتخون العبارات) و.. و.. و.. و.. و……
الملك: (يشتد غضبه فيصيح في حراسه)اقتلوا الزائر والحاجب (يهرع إليه الحراس)
الحاجب: (غير أنه أسرع يقاطعهم) لقد ادعى يا مولاي أن سيدي الملك ظالم
الملك: (يوقف بإشارة من يده اندفاع الحراس ويسأل الحاجب مرة أخرى) هل يجرؤ اللعين؟
الحاجب: وزعم يا سيدي أن ما فعلته ضد المتمردين جور وطغيان.
الملك: الويل لهذا الأفاك.
الحاجب: وأنك دعي متطفل لا تفقه شيئا.
الملك: وبماذا أجبته؟
الحاجب: أكدت له يا سيدي أنك أعظم الخلق.. وأنك أحكمهم.. وأنك أرحمهم.. وأن ما فعلته من قتل المتمردين الأوباش هو عين الرحمة والعدل.
الملك: فقط؟
الحاجب: وأكدت له يا سيدي الملك أن الغراب المقدس أعرف بمصلحتنا منا، وأن اختياره لملكنا الجديد إلهام من الله العلي القدير.
الملك: أحسنت لك رضانا.. ادخل هذا الزائر اللعين (يخرج الحارس ويعود بعد لحظات بالتاعس الذي يقف وسط الإيوان وقد بدت الدهشة عليه.. يتأمل صاحبه وقد تغير كلية.. يفرك عينيه، يومئ إليه الجندي بالركوع فيركع يواصل الملك حديثه غير آبه بصاحبه، يتجه الملك بالحديث إلى الشيخ) وما رأيك أيها الشيخ الحكيم؟
الشيخ: لا حكيم غيرك يا سيدي..
الملك: لقد تجرأ هذا الغريب وطعن في ملككم
الشيخ: الولاء لك يا سيدي، الطعن في الملك طعن في الغراب
(يضج الجميع مستنكرين، ويستمر التناوب بينهم وبين الشيخ كأنهم في حضرة إله جبار (نعوذ بالله من الطعن في الغراب.والغراب يا سيدي هو أول حكيم علم الإنسان ما لم يعلم.. الولاء للغراب.. الولاء للغراب. لقد عجز الإنسان أن يستر عورته فعلمه الغراب. الولاء للغراب.. الولاء للغراب. وعلم الغراب لادني.. علم الغراب وحي من عرش الله.. الغراب أول من أوحي إليه.. الولاء للغراب.. الولاء للغراب..الغراب لا ينطق عن الهوى.. الولاء للغراب.. الولاء للغراب.. وقد اتخذناه هادينا على مدى الحقب.. ولاء للغراب.. الولاء للغراب))
الملك: (يتأثر بما يسمع فيندفع بحماسة)الولاء للغراب.. الولاء للغراب.. أقيموا للغراب في كل زاوية من المملكة تمثالا عظيما…وهذا أول تمثال أقيمه في قصري..(يكشف الغطاء عن تمثال غراب عن يمينه)واتخذوا من يوم تنصيبي ملكا عليكم عيدا أسموه عيد الغراب، وازرعوا حبه في القلوب.. وأعلنوا أني خصصت صندوقا أسميته صندوق الغراب يضع فيه كل فرد من الرعية نصف مدخوله (غمغمة استنكار وسط الجميع، يضرب الملك بعصاه على الأرض، فيسكت الجميع) هل أسمعكم؟
الشيخ: (يرد مسترضيا)لا حكيم غيرك سيدي.
شاب: (يتدخل مقاطعا) ولكن يا سيدي الملك.
الملك: (يشير بعصاه للشاب غاضبا) جزوا رأس هذا المتمرد اللعين (يجر بعض الحرس الشاب، فيلهج الجميع بالولاء في صوت واحد مرتفع (الولاء للغراب.. الولاء للغراب.. عاش الملك.. يحيا الملك.. عاش الملك.. يحيا الملك.. عاش الملك.. يحيا الملك).. يبتسم الملك رضى بما سمع، فيشير إليهم بالانصراف) أما الآن فيمكنكم الانصراف.. (ينصرف الجميع فيما يبقى التاعس مندهشا لا يحرك ساكنا كتمثال بارد) ما رأيك يا صديقي العزيز؟ (يلزم الصمت ولا يرد.. يشير إليه بيديه ثم يخضه) قل لي.. ما رأيك يا صديقي؟
التاعس: (يستمر في دهشته وهو ينظر إلى أبهة القصر) ولكن هذا مستحيل مستحيل يا صاحبي.. مستحيل.
الملك: ليس هناك مستحيل يا صديقي، كل شيء ممكن، والمستحيل وهم نضعه قيدا في أعناقنا.
التاعس: هل يمكن للإنسان الناعس المتطفل الفاشل أن يصير ملكا؟
الملك: وهــا أنت ترى.
التاعس: يأمر وينهى؟ وتحنى له الرؤوس وتسجد له الجباه؟
الملك: وهــا أنت ترى.
التاعس: لا أكاد أصدق يا ناعس، لا أكاد أصدق.
الملك: ولماذا لا تصدق؟
التاعس: الملوك عظمة وعبقرية وسمو كأنهم من جنس الملائكة؟
الملك: ومن أدراك يا تاعس؟
التاعس: نراهم جميعا هكذا، كل الناس يرونهم هكذا.
الملك: لأنكم تعساء يا صاحبي، الرعية.. دائما تعيسة.. وبتعاستها ترى العظمة في هؤلاء.. ولكن تأكد أنه لا أتفه من الملوك.
التاعس: وعلام عزمت في حكمك هؤلاء التعساء؟
الملك: (يضحك مقهقها، وهو يربت كتف التاعس) لقد بدأت في استعبادهم.. سأمعن في إذلالهم وإهانتهم حتى أحولهم كلابا تُجوَّع وتهان لتتبع وتطيع.
التاعس: أما لو حكمتهم أنا، آه لو حكمتهم؟ (يعض يده متأسفا)
الملك: وما عساك تفعل؟
التاعس: سأملأ البلد عدلا.. سأحارب الظلم وأشيع الخير والمحبة والفضيلة.. سأفرغ خزائن المال وأوزعه على الرعية كلها.. كلها.. سأحول الجميع إلى جيش من….
الملك: لو أراد الله لهم خيرا لوقع الغراب عليك يا صاحبي.. أما مادام قد وقع علي فإن قدر الله قد سبق بعقابهم وهلاكم.
التاعس: ولكن جزاء الإحسان الإحسان.. وهم نصبوك عليهم ملكا.. رفعوك مكانا عليا لم تكن تحلم به أبدا.
الملك: أنت مخطئ يا صاحبي.. إن الذي نصبني ملكا هو الغراب.. وأمة تؤمن بالغراب وتفوضه في اختيار حاكمها أمة ليست جديرة بالاحترام…هيا هيا نخرج لأعرفك على رعيتي وأكشف لك بعضا من طغياني وجبروتي هيا (يهمان بالخروج.. عند الباب يتراجع التاعس) لم نكصت على عقبيك يا صاحبي؟
التاعس: (غاضبا وهو يصيح) قلبي يرفض ظلمك وطغيانك.
الملك: ويحك ماذا تقصد؟
التاعس: لن أسكت عن ظلمك، الساكت عن الحق شيطان أخرس
الملك: ثم ماذا؟
التاعس: وأنك مجرد ناعس، تافه، متطفل.
الملك: أرجو يا صاحبي أن تؤجل فكرتك إلى وقت لاحق وأنصحك لا تتعب نفسك لأنك خاسر
التاعس: ولماذا أؤجلها؟
الملك: من الغد سأمنحك فرصة لتكون ملكا عليهم، وأرجو أن تطبق فيهم إصلاحك، ولننظر النتيجة.
التاعس: (يندهش فتجحظ عيناه، يقترب من الملك)هل أنت صادق سيدي الملك، أشكرك أشكرك
الملك: (يتمتم بكلمات لم يسمعها التاعس) فجأة صرت سيدك الملك أيها التافه، سنرى
الناعس: ماذا قلت؟ تحدث نفسك؟
الملك: لا شيء، لا شيء.
التاعس: (يتمتم بكلمات لا يسمعها الملك)لا شيء لا شيء، سأعصف بك قريبا، هذه الأمة لن تبقى نائمة
الملك: بماذا تتمتم؟
التاعس: لاشيء، لا شيء
الملك: إذن، دعنا نذهب الآن، سنبيت معا، منذ الغد أنت ملك هذه البلاد وسيدها ( يدخلان من باب خلفي)
*****
اللوحة الرابعة
(القصر ذاته،غير أنه تخلى عن كثير من مظاهر الزينة، بدا العرش كرسيا عاديا، وبدا الملك دون صولجان ولا تاج. جمع من الوجهاء يقف قريبا منه سكوت مطأطئي الرؤوس كأن هما شديدا ألم بهم. يدور الملك جيئة وذهابا وقد بدا عليه الإحباط الشديد، يضرب جبهته أحيانا، يزفر أحيانا أخرى.تتعالى الأصوات من خارج القصر متقطعة ترتفع أحيانا وتخفت أحيانا أخرى، تصل بعض عباراتها إلى الآذان (الغراب هو.. العمل.. فليسقط.. يحيا الملك… يحيا الملك.. نريد إسقاط)
الملك: (يتوقف وسط الحاضرين لحظات يمطط شفتيه قائلا )أيها الإخوان أنا في حيرة من أمري، أردت لهذه الأمة الخير، أردت لها الرقي والتقدم، أردتها أن تكون في طليعة الأمم جميعا، وأنتم تعرفون أن ذلك لن يتحقق إلا بطريقين اثنين لا ثالث لهما: العلم والعمل، وهما أخوان متلازمان حتى في نوع الحروف، أما الكسل والجهل فلا يؤديان إلا إلى التخلف، وما كنتم فيه هو الضلال المبين كنتم تلهثون خلف السراب، خلف الأوهام خلف القشور.(يلزم الجميع الصمت، يتوجه الملك إلى الشيخ بغضب وقد رآه مطرقا) قل تكلم أيها الشيخ الحكيم، لم أنت ساكت أخرس، ما رأيك؟
الشيخ: الغراب يا مولاي
الملك: يا قوم هذه خرافة، عقولهم أرقى وأسمى من الغراب، إن هو إلا طائر بليد (يضج القوم بالاستغفار وقد بدا عليهم الغضب)أنتم يا شيخ تختارون قائدكم بعقولكم
الشيخ: أستغفر الله العظيم، بل يختاره الغراب يا مولاي.
الملك: لا تقدم لكم إلا بالعلم والعمل
الشيخ: أعزنا الله بالغراب يا مولاي فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله
الملك: ولكن يا شيخ، ولكن يا قوم
الشيخ: نحن لن نخون أجدادنا، ستبقى على نهجهم أبد الآبدين، عليه نحيا وعليه نموت وفي سبيله نجاهد وعليه نلقى الله
الملك: هل توافقونه يا قوم على ما يقول؟
الشاب: (يسكت الجميع فيتشجع هو منهم) إن أردت أن تكون منا فعليك أن تقرأ موروثنا وتحسن عقيدتك المنحرفة، وتترك ما أنت فيه من بدع وخرافات
الملك: (يندفع إليه غاضبا) ماذا تقول يا أحمق؟ ما ذا تقول؟ لك الويل والثبور
(تتعالى الأصوات من خارج القصر بشكل مزلزل ولكنه منسجم ومتناغم نريد إسقاط النظام، نريد إسقاط النظام، نريد إسقاط النظام…. يهرع الملك إلى الباب وقد هزته المفاجأة، يدور في هياج ساعيا بين الباب ومن حوله، لحظات يدخل عليه الناعس في كامل زينته، وقد لبس التاج وحمل الدرة الذهبية، يركع له الجميع، وتسكت الأصوات من الخارج، يشير لهم بيده ليرفعوا من ركوعهم، يهرعون لإعادة الأبهة إلى القصر، خاصة عرش الملك المحاط بالحراس، يجمد التاعس في مكانه يتابع المشهد، يحييهم الملك بيده )
الملك: شكرا لوفائكم يا شعبي العظيم، شكرا لوفائكم
الشيخ: كدنا نختنق يا سيدي، شعبك يطالب بإعادة الشرعية إلى الحكم، لقد أحس أن حريته قد سلبت منه، كدنا نتحول إلى عبيد، إلى آلات منتجة
الملك: لقد ولى عهد العبودية إلى الأبد، فلتنعموا يا شعبي العظيم بالحرية، إكراما لوفائكم وإخلاصكم أمنحكم أسبوعا من الراحة، غنوا فيه وارقصوا وروحوا عن نفوسكم، فإن النفوس إذا كلت عميت (يتقدم التاعس إلى الملك وعلى وجهه حيرة شديدة، يهم بالحديث غير أن الملك يعترضه مقاطعا) قد أذنت لكم في الانصراف أيها الأوفياء، انصرفوا انصرفوا (ينطلقون يغادرون القصر وقد علتهم البهجة، يوقف الملك الشيخ) وزع على شعرائنا ما يسرهم ويكفيهم من بيت المال
الشيخ: حاضر مولاي الملك حاضر
(ينصرف الجميع فلا يبقى إلا التاعس والناعس، ينطلق قريبا من العرش)
التاعس: ماذا أرى يا صديقي الناعس، ماذا أرى؟
الملك: (يغضب ويثور في وجه التاعس) احترم نفسك والزم مكانك بعيدا، أنا جلالة الملك
التاعس: حاضر حاضر جلالة الملك، أفهمني ما الذي وقع للناس؟
الملك: سأخيرك بين أمر من ثلاثة، إما أن تهجر هذه البلاد إلى غير رجعة، وإما أن تخرج إلى الشوارع وتنادي فيها، نريد إسقاط الشعوب، وإما أن..(يتردد زمنا في الحديث متأملا التاعس ثم يواصل) وإما أن، وإما أن أقتلك
التاعس: (يندفع ثائرا في وجه الملك) بل لن يهنأ لي بال حتى أقضي عليك، وأعيد الحق إلى نصابه
الملك: إذن أنت حسود لدود، لقد جنيت على نفسك (يصرخ طالبا الحراس)أيها الحراس.
الحراس: (يقبلون سريعا مدججين بالسلاح مرددين بصوت واحد) لبيك مولانا لبيك سيدنا، بالروح بالدم نفديك، بالروح بالدم نفديك.
التاعس: (يصرخ فيهم محرضا على الملك) لا تأمنواه، إنه مجرد لص حقير، مجرد ناعس متطفل مخادع.
(يلقي عليه الحراس القبض تحت صراخ الملك، واستجابة الحراس بصوت واحد)
الملك: جروا هذا اللعين إلى السجن.
الحراس: لبيك مولانا لبيك سيدنا.
الملك: وفي الغد جزوا رأسه أمام الملأ ليكون عبرة لكل المغفلين.
الحراس: لبيك مولانا.. لبيك سيدنا.
التاعس: (يصرخ فيهم وهو يحاول التملص من قبضتهم) مالكم هل انقلبت الدنيا يا قوم؟ هل انقلبت الدنيا؟
الملك: (يقهقه قائلا)يا له من حسود غبي! ومتى استقامت الدنيا؟ متى استقامت الدنيا متى؟ متى؟
التاعس: (ينتبه إلى نفسه، ينظر في اتجاهات مختلفة قائلا) صدقت، صدقت، ومتى استقامت الدنيا؟ (ينفلت من بين أيديهم وينطلق مبتعدا، يسير كجندي سيرا صارما مرددا)النظام يريد إسقاط الشعوب، النظام يريد إسقاط الشعوب (ينطلق خارجا، وخلفه يندفع الحرس وقد أشار إليهم الملك أن لا يلمسوه، في حين ينطلق الملك إلى باب جانبي)
الملك: (مرددا وهو يضحك) أههه، لقد جن الرجل، النظام يريد إسقاط الشعوب، النظام يريد إسقاط الشعوب
(خارج القصر تتعالى الهتافات معلنة فرحها بعودة الملك)
*****
** عز الدين جلاوجي (الجزائر)