من التلقي النصي.. إلى التمسرح الركحي/ د. الغزيوي بوعلي
“حمان الخربيطي” ـ الرواسي” للمؤلف: حميد الرضواني
وحدة اللغة والفكر
لا شك أن العالم الذي نعيشه اليوم، عالم يكتنفه الغموض، والإبهام، وراح كل فنان يبني العالم كما يحلو له، مما يعطي لهذا الخطاب إمكانية كبيرة لتوسيع مدارك أفق النقد والتأويل،لأن التحليل لهذا الخطاب قد انفتح عل فضاءات متنوعة، ومناهج متعددة، مما أعطى لهذا الخطاب لكي يكون نسقا فكريا يوحد بين الفكر والواقع، ويرفض كل تجربة لا تستند على مبادئ هذا الفن الموازي، باعتبار هذا الأخير عتبة مفتوحة قابلة أن تستوعب الشروط الاجتماعية والنفسية والجمالية فهذه العتبات الخارجية تهدف إلى منح القارئ جملة من الأخبار عن طريق أدواتها ومفاهيمها الخاصة، وبذلك يصبح النص الموازي فضاءا يلخص المضمون ويعلن عن محتواه.
ولتحقيق هذه الأطروحة وجب علينا الوقوف عند العنوان باعتباره أرضية الانتباه، والاشتهاء، والاستفزاز حيث ينبئ ويكشف عن اللا مفكر فيه، فعنوان الكتاب للمؤلف حميد الرضواني يحكي عن بدائل وإيحاءات ودلالات نصية، تعطي تفسيرا لكل بداية ونهاية، وتحقق توازنا موازيا ينبئ بمقصدية الكتابة التمسرحية فالبنية التركيبية للعنوان والقائمة على اللاتوازن، وهذا لا يمنع منحه إبراز تناقضات الشخصيات التي تكشف عنها الأحداث أثناء القراءة التأويلية فالشخصيات -حمان- في مواجهة واقعة المتناقض، يهدف إلى تحطيم الثابت ليزرع المتحول، ولينشد الأفق المستحيل.
الصورة:
إن الصورة كما ذكرنا تعد من عتبات النص الكبير، حيث تحيلنا عن الدواخل والجواني وتقربنا إلى البراني، لأنه الايحاءات الرمزية والألوان خلقت تراسلا حواسيا من خلال جانب التشخيصي الغير الطبيعي، وأمست هذه الصورة كما ذكرت طقسا من طقوس الارتواء والتشظي الذاتي للمؤلف.
بهذه الصورة نستخلص أنها علامة توحي بدلالات متعددة، وتتوحد مع مضمون المؤلف لتقديم التناقض الواقعي. إنها نص بصري، ولغة ايروتيكية تحمل أنوية نصية تراثية تريد الاخبار عنها بالبصيرة وليس بالبصر. فهذه الألوان الداكنة والمفتوحة تجعلنا نطرح العديد من الأسئلة حول موضوع ومضمون الكتاب، لأنها خالفت قانون العنوان بارتباطها الايحائي ذات المنحى الدائري الغير الكلاسيكي، فالصورة بدورها أصبحت كتابة جديدة عند المؤلف.
المؤلف:
يعتبر اسم المؤلف من العناصر التداولية التي تعمل على مخاطبة القارئ الواقعي، والضمني فتعمل على جذبه وذلك بعلاقة مناصصية Paratextuelle فحضور الاسم يفتح أفقا جديدا بطريقة التي تشكل مخزونا سرديا بالنسبة للذاكرة المسرحية. هكذا يتجلى هذا الحضور في التذكير بهوية المؤلف من طرف عبد الكريم برشيد، وعبد الرحمان بن زيدان، وابراهيم الدمناتي كحافز دلالي يتمثل المؤلف كمؤسس لمحترف فاس للفنون العرض والتي عكست ركاما مسرحيا ساير من خلاله مختلف التحولات والتوجهات المسرحية، والرغبات في تطوير الكتابة المسرحية العربية، وذلك للتعبير عن صراع موجه وبين قيم تحاول الثبات في مواجهة صنوف المجتمع والتاريخ والسلطة النصية لتنجذب امام إغراءات وصولية والتسلط الطبقي دون وجود شروط موضوعية مبنية على أرضية صلبة. فدينامية النص وتغيير وضعيات الشخصيات وتنوع المسار السرد-لوجي جعلنا نستخلص أنه حميد الرضواني لم يخضع للتسلسل المنطقي السائد في الكتابة المسرحية، وهذا ما سيشكل من هذا المولود الجديد ثورة جديدة للملحون، والمسرح، إنها الخلاص من المصير الكلاسيكي لبناء قارة تراثية، تعبر عن ذاتها بذاتها لا بالتراث، ولا عن التراث.
رهان المؤلف:
إن رهان المؤلف لا يكتسب دلالته إلا من خلال ادراجه في السياق النصي والتلقي، والإنتاج البصري، فهذه الارساليات الايحائية نلمحها من خلال مقاطع نصية (ص16-17-18)، وبعض تمفصلات المادي للنص. هكذا تصبح الاحداث سلسلة متراصة تتحرك الشخصيات داخلها، باعتبارها محطات يتحول فيها الملحون إلى وضعية مسرحية، الشيء الذي يخلق دينامية تمسرحية بذاتها وحسب سيرورتها في الواقع، وهذا يمكن تسميته بالمتن المسرحي. فعدم التطابق الزمني بين المتوليات السردية التمسرحية، جعل زمن الحكي لا يكزن مرجعا للأحداث، بل هو ترسيخ تاريخي للتراث القديم.
لقد حرص الرضواني على ابراز المؤشرات الزمكانية لتستعين بها في سرد قصائد الملحون بطريقة تمسرحية ليؤطرها على الخشبة، وذلك بتقنيات فنية وحبكة،ولغة تتوسل بالحوار، وبالجسد، هكذا عمل على الاسترجاع ليعود بنا الى ماض لايسابق الماضي، ولايحد من افق انتظار المتلقي وهكذا ما نراه في مسرحية “الرواسي”أيضا، هكذا يبقى لنا ان نقول ان العنصرالمهيمن على عنصر الزمكان هو هذا الحلم المتشضي، وهذه الغواية المفتعلة التي تلاحق الاستباقات والاسترجاعات، وكذا الهزات المتلاحقة للشخصيات، فهذه التوليدات الفنية سمحت لنا بتحديد عناصر الانسان المهمش الذي لا يعتد بالعقل ولا بالمنطق بل يعتمد الاحساس والسكرة الصوفية، لفهم رؤية العالم، ولتمثيل الى عدم الركون الى التأويلات المستلبة، بل لتخضع لإجراءاتتمثيلية تمسرحية تؤهله لاتخاذ موقف من الوجود، والزمن، والعالم والانسان. ان المشاركة للقوة الفاعلة سواء بشرية او ورقية انها محددة بمؤشرات ايحائية التي يمنحها لها النص الاول سواء على مستوى كيانها الاجتماعي او السيكولوجي وكذلك بأفعالها وأدوارها، وهذا الوصف المدرك ليس إلا تقويما لهذه القوة المنظومة شعريا،والممسرحة ركحيا، وتتفاوت في نسبة صياغتها للأحداث، لان المؤلف استخدم الرؤية من الخلف حيث ساهم مساهمة فعالة، في تحول وتبدل المحطات، سواء على مستوى التأثير أو التأثيث الركحي، أو على مستوى اللغة الدرامية،أو على مستوى الشخصيات فهذا التنوع ساعده على خلق احساس بالمغايرة حول طبيعة الخصوصيات الدقيقة والهامشية لقوى فاعلة. وهذه الرؤية حسب “جانبويون” جعلتنا نتعرف على رؤى الشخصيات نفسها حول الواقع وحول نفسها بنفسها كما في مسرحية الرواسي، وحمان الخربيطي، ومن خلال هذه التجليات التمسرحية نستنتج ان هذه الشخصيات التراثية المهمشة تعكس ان تكون فاعلة وتاريخانية في ما هو ثابت، وما هو متحول،أي رؤية ذاتية تفكر في ذاتها ولذاتها،ورؤية متسمة بالتضحية والقناعة، ورؤية متسمة بالعجز في مواجهة الواقع. فهذا الوضع الاعتباري لهذه القوى الفاعلة تساعدنا لمعرفة كل التمظهرات النصية المهيمنة التي ستكون هي المنطلق الاول لتحديد اشكال وظائفها، حسب مفهوم “كريماص”، فالذات المؤلف يحاول ان يصوغ الموضوع التراثي للمتلقي بمساعدة خياله وفكره فرغم كل هذه العلاقات اللاثابتة تجعلنا غير مدركين لهذا الاختلال التوازني الذي تتغير وظائفه باستمرار نتيجة عدم التعايش بين الشخصيات، لأن العملية التمسرحية رحلة في التراث، وتعلم مستمر، وحوار مع الكائن، والمنسي ولكنه يفكر ضد ذاته، لأنه يصنع لنا أصوات أخرى، فيمدنا في التكلم والكلام وحب الحياة كما يقول “أكتافيوبات”، فالهوية الممسرحة التي يتمتع بها المؤلف هي الانعكاس الطبيعي لهذه الوضعية في المتن المسرحي العربي الذي لا يولد في انفصال عنها، وهي الترسبات المادية التي آمنوا بها، وقدسوها دون هدهدتها. إذن فالمؤلف حاول الكشف عن عالم ظل في حاجة إلى إظهار وإبداع، متجاوزا الرؤى التي حددتها البنية النقدية المعمارية القديمة، فاتح لنهاية يرحل بنا من قناعة إلى قناعة جديدة، يكون فيه التراث ليس كقناع براني، ولكن كوجود يدفعنا إلى تغيير النماذج العليا المثالية، بهذا يتسنى للمسرح أن يكون قفزة خارج المفاهيم السائدة، تغيير في نظام اللغة، والإضاءة، والديكور والجسد، وتمرد على الاشكال والانساق لأن الرحيل هو الخلاص مناف للإقامة الجبرية النصية. ويقول “أدونيس” في كتابه زمن الشعر ص9 ( ألم تعلمي الثواء هو الثوى، وأن بيوت العاجزين قبور)
البعد الاجتماعي:
ينقلنا هذا المؤلف إلى دلالة اجتماعية التي عبرها تتداخل المواقف وتتحدد الفواصل كتفسير لحياة الناس في علاقاتهم بالموروث، لأن الدخول إلى عالم المسرح عبر بوابة الملحون هو صيغة تمسرحية جديدة، وليست اغتصاب للقصيدة، ولابلاغتها، ولا ايقاعها، بل دعوة إلى العبور نحو المقدس الذي لا يقاس بالزمن، ولا ينسى من الذاكرة المعطوبة، إنه كتابة تحتمى بالآتي والآني، وتستوطن الغموض والتناصوتنسج اقتباسات وتداعيات من منابع متعددة، وتترجم الواقع إلى أبعد الاتصال والانفصال مع هويات ثقافية تراثية متعددة، فالمؤلف ينقلنا إلى القصيد، وإلى المسرح لكي يكون هناك تصالحا على شكل هوامش تمسرحية لتتخذ شكل أبجدية مسرحية جديدة، فحضور البعد الاجتماعي كمركز مهمش يسرد الدلالة بالإحالة على الشكل المسرح الواقع – الايديولوجية – التاريخ – اللغة – السلطة – المقدس – المدنس، لأن الثنائيات التي تقسم ظهر المؤلف الخير الشر، الثابت المتحول، الكائن الممكن – المقدس المدنس- فهذه الثنائية هي ترصيص لنصوص أخرى مترسبة داخل نص المؤلف حميد الرضواني يجعلنا ننظر إليه نظرة المتأمل لا القاضي النصوح، حيث لا ينكتب ذاكرته في شكل مغلق بل في شكل رؤية جديدة تسمح للمتلقي أن يعرف التعدد، لأن حضور التناص في المؤلف المفتوح مع الشعر هو إعلان عن قراءة جديدة بمنطق مفتوح غير مغلق، وبتحول شعري يجد نسقيته المفتوحة على الركح، هكذا قام الرضواني يغير المرأة الشعرية ليندسفي جلابيب الملحون لكي يحول النص الشعري إلى وعي إبدالي وإبداعي لا يكفيه سحر الكلمة، وتفنن الجمل بل فتح نوافذ التعدد والتحول حتى يصير الداخل خارج والخارج داخلا، إن هذه الشعرية الممسرحة القائمة على الدربة والممارسة أدرك أن الهوية الاجتماعية التي ترفض التغيير، آن الأوان أن نهدم هذه الأصنام بمطرقة نتشويةلجعل لغة الإبداع نواة أساسية وجوهرية. فهذا المسار لا يدركه إلا الراسخون في الطقس، والحلول والاشراق الصوفي، فالرضواني في هذا المؤلف لم يخلص المسرح من لغة الدراويش، بل أصبح الدرويش هو الفاعل، والفعل، والمنفعل، أمسى تحققه تحولا على الركح، ورحيلا للجسد المتشضيفي خضم التحولات الاجتماعية حيث غدى حمان الخربيطي مكان لعدة أمكنة، وظل لعدة ظلال يسكنه الرحيل المتعدد، فلا يغدو صفة نهائية إنه يقيم الرحيل عبر الأزمنة من خلال القريض إلى أعمدة الخيمة (الركح) متجاوزا التعالي، والقناعة، ومن ثم هو مبدع قلق يقفز خارج النهائي والحتمي، إنها كتابة ايروتيكية تهدم الثابت لتزرع كما قلت المتحول اللا نهائي، لأن القراءة العاشقة هي بؤرة اساسية التي تجعل العمل المسرحي حوارا انسانية، ووجودا معرفيا، لا يتفيأ بالقناعة، بل يصبو أن يكون هو ذاته وليس غيره.