الحيتان المسرحية/ بقلم: د. جبار خماط
مثلما توجد أسماء مسرحية مبدعة تتحسس مياه التجربة الراكدة، كذلك توجد حيتان مسرحية توطنت وترسخت وتفرعت في مياه المسرح الدافئة.. حيث الصولات والجولات المسرحية التي ظاهرها يدخل في العادي، لكن تملق بعض الأسماك الطارئة على المسرح جعل تلك الحيتان تتعالى وتعاني الترهل والسمنة الأسلوبية الرتيبة، فضلا على تعودهم التواجد في كل مناسبة طمعا في المكاسب والمغانم، يعلمون في المقسوم وغير المقسوم على موائد أرباب المناسبات والتجمعات المسرحية!
من صفات الحوت المسرحي، الهدوء والهياج في ٱن معا، فهو هادئ ثقيل الحركة قليل الانجاز، لكنه سريع الهياج يبتلع كل ما يصادفه أمامه حين يتعلق الموضوع بوجوده ومصالحه، ومن صفاتها أيضا أنها لا تتعامل إلا مع مثيلاتها من الأسماك المسرحية الزاحفة واللازة التي تبحث عن مجد زائف، سرعان ما يذوي ويختفي مع زوال أو تقهقر أو عزل أو موت احد الحيتان المسرحية !
الغريب أن الأسماك المسرحية الزاحفة ذات الخبرات المزيفة، تتطاول وتنافس وتأخذ مكان الأسماك المسرحية المبدعة، والسبب أن بعض الحيتان راضية مرضية من تملق وتقرب وتزلف بعض تلك الأسماك المزيفة التي تدعي أنها اكتسبت الخبرة التي تؤهلها لتكون منافسة لأقرانها المبدعة بتزكية وقبول مجموعة الحيتان المسرحية، اعلموا يا سادة يا كرام .. إن هؤلاء اللازين، سرعان ما تتكشف أقنعتهم لأنهم يعانون فصاما مسرحيا بسبب أزمة التخصص والانتماء الخبرة، لكنهم استثمروا المؤسسات ليصنعوا لهم مكانة، أشبه بالسراب يحسبه الضمآن ماء.
لقد تفاوتت نسبة الحيتنة في سلوك المسرحي، فمنهم من بقي عصاميا لا يميل مع المائلين، وهناك من اختار الغربة في بلاد الغرب، يعمل بمفرده لكنه معنا بواقع نظم التواصل الاجتماعي، ومنهم المسرحيون السياحيون الذين تعودوا رزم الحقائب أكثر من المشاريع، فأصبحوا وأمسوا مترهلين مثل صاحبنا الحوت الأزرق أو الأبيض أو بين اللونين، لكنهم جميعا يتقنون بلع الآخر وتعطيل حركتهم في ماء الإبداع الحر!
إن الإبداع في بلاد العرب معطل إلا قليلا في بعض البلدان، لأنهم رمموا هياكل المسرح بالمشاريع النوعية وفتحوا الأبواب مشرعة للمشاريع الجديدة والمبتكرة، لكنها لا تعمل ضمن استراتيجية طويلة الأمد في تطوير قدرات الشباب المسرحي وتنمية مشاريعهم، ولأنهم وقود المستقبل المشتعل بالحيوية، ينبغي الاهتمام الأكبر بهم حتى يتفاعلوا مع تجارب الآخرين في العالم .
كفانا حيتانا مترهلة، منشغلة بالخضاب الذي يتوهم أنه طارد للشيخوخة، لكن هيهات، كلنا نعيش زمنا واحدا، إن أكرمنا عند الجمهور أقربنا إلى إمتاعه وإقناعه بالدهشة العميقة، افتحوا المسارات الضيقة، للشباب الباحث عن الحقيقة المسرحية في جزر الإبداع، ولا تحاولوا اصطياد وجودهم الإبداعي بالإحباط والفشل القسري، بل كونوا عونا لهم في اصطياد المغايرة في الإبداع ليكون المستقبل أكثر دهشة !
يوم كان الوقت معافى، كانت العروض تمتاز بالأصالة والحداثة معا، لا تفريق بينهما لأنها تنطلق من ضرورات بناء الجمهور ذوقيا و فكربا، وينبغي على المؤسسات أن يكون لها برنامج عروض مسرحية متواصلة من أجل ديمومة تواجد المسرح في وعي الناس، لان المسرح كلمة وصورة وفعل، ثلاثي العناصر، تفاعلي الأداء، ينتج رسالة مؤثرة يستقبلها الجمهور ليحقق تغذية راجعة مباشرة وغير مباشرة، فالمباشر هو صيحات القبول أو الرفض، أما غير المباشرة فهي درجة الصمت في القاعة، إذ كلما زاد الصمت لدى الجمهور، كلما كان العرض ثري بالإثارة والإمتاع.
المسرح طاقة إيجابية، لا تحققها الفنون الأخرى، لأن فيه تحقق الشراكة التي لا تكون إلا بتواجد طرفين أساسين في الهنا والآن، العرض المسرحي والجمهور، وهذا يسمح لعنصر المواجهة بقصد التغيير متوفرة وسليمة التأثير، وهنا أجد أن تراكم هذه المواجهة الفكرية والجمالية يحقق التوازن النفسي والاجتماعي الذي يفيد الشعوب ويزيد من منسوب الانتماء للأوطان.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل الحيتان المسرحية تعرف أو تؤمن برسالة المسرح في تغيير وتطوير الشعوب؟ هل تعرف أن الأجيال المسرحية مثل حبات المسبحة يجمعها خيط الإبداع؟ الجواب في عقول الحيتان المسرحية التي لها قدرة ومهارة على التكيف مع الظروف المحيطة، المهم أن تكون متواجدة في المشهد المناسباتي من مهرجانات وتكريمات واحتفالات، تنتظر الوجبات بفارغ الصبر والاستعدادات، إنهم كائنات صامتة، تتقن مهارة الضم والمحاباة، وتلفظ عن جوفها المميز من الإبداعات، لا تقدم اسماك مسرحية جديدة لتكون في واجهة التمثيل الوطني والعربي والدولي، لأنها – الحيتان المسرحية – تخشى يوما لا يستقيم لحال وتطرد من المجال بتهمة السمنة المفرطة والفشل المسرحي، لذلك تجدها تمارس رياضة قطع حبل التواصل مع الأجيال المسرحية الصاعدة من الشباب الذين أثبتوا أنهم خير ممثل لمسرح جديد ومتجدد بالأسئلة الإنسانية التي تظهر إلى الجمهور بحلة الإبداع الذي نريده جميعا، لأن فيه حياة لأولي العزم المسرحي، يحملون رسائل التغيير في زمن القحط والتدمير، لم يعد في الأفق بارقة أمل الرؤية والمشاركة بسبب هيمنة أكتاف الحيتان المسرحية التي سدت أفق المشاهدة نحو مسرح مغاير في بعده الإنساني وشكله التجريبي الرصين بعيدا عن الانفلات والتخريب الذي سمح لشعيط ومعيط أن يتصدر المشهد المسرحي !! تلك أم المصائب.