جمرة التاريخ تشعل الصراع الدرامي/ أ.د. رياض موسى سكران
فلسفة الشيخ القاسمي في (الثلاثية التأريخية)
في محاولة دراسة فلسفة تشكيل الخطاب المسرحي العربي الحديث, فإننا سنقف عند العديد من إشكاليات طرح وتناول موضوعات فكرية حديثة في الظاهرة المسرحية، فكراً وممارسةً وخطاباً فلسفياً, سواء تمركزت هذه الظاهرة في ذاتيتها وهمومها وفي بيئاتها المحلية، أو في محاذيرها من الإنفتاح على فكر الآخر، كذلك في توجساتها أو أحلامها إزاء أفكار التفاعل مع ذلك الآخر, وخصوصاً التجارب الفكرية الحديثة على المستوى الفلسفي للخطاب المسرحي..
وتشكل عملية إعادة إنتاج التأريخ مسرحياً على وفق معطيات أسئلة الحاضر وإشكالاته المتجددة, حقلاً إبداعيا خصباً ومادة درامية ثرية لصناعة خطاب مسرحي منتج, إذ يباطن عمقاً له أصوله ومرجعياته الفكرية, فضلاً عن إنه يشكل منطلقاً فلسفياً لإنتاج رؤى وتصورات ورسائل درامية, تمتلك تأثيرها الوجداني والروحي عند المتلقي, لما تحمله من صدقية وما تخلقه من تأثير ناتج عن التفاعل والتواصل مع المحيط العام أو الخاص.
وفي راهن المشهد المسرحي العربي, يتجلى الخطاب الـدرامي بمفهومه الفلسفي المعاصر في نسقه التاريخي المنفتح على المتن السياسي, عبر نصوص (الثلاثية التاريخية) للشيخ الدكتور (سلطان بن محمد القاسمي), وهي نصوص (عودة هولاكو) و(القضية) و(الواقع صورة طبق الأصل), ضمن نسق اتجاهه المنفتح على الأفق الفكري الذي يحقق بعداً ثقافياً متقدماً, حيث يتجلى هذا الفكر في الخطاب الدرامي المعاصر من خلال المعرفة بما يكتنزه التأريخ من حقائق وأسرار ومعطيات أنثروبولوجية, إذ تتداخل قيم الماضي لتحيا وتعيش في ظروف الحاضر كضرورة تفرضها إشتراطات الحتمية التأريخية من جانب, وهي ضرورة تفرضها الخطة الدرامية لبنية النص المسرحي من جانب آخر, وذلك من أجل إيصال رسالة واضحة المضمون الى المتلقي, مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على القيم المبدأية الراسخة في البنية التكوينية للمجتمع العربي, فضلاً عن التأكيد على الهوية الثقافية العربية, مع العمل على تكريس مبدأ التنوع داخل إطار الوحدة.
ومن خلال هذه المنطلقات, يسعى الشيخ القاسمي لإن يقترح إجابات عميقة لأسئلة فلسفية وتأريخية أساسية عبر شروط بناء النص المسرحي ورسم وتأطير علاقته بالواقع الراهن المتغير والمتبدل, وبإشكاليات المجتمع وظروفه المتحولة والمتبدلة باستمرار, عبر أسئلة فكرية فلسفية عميقة تتعلق بضرورات وكيفيات قراءة التأريخ واستنباط الدروس والعِبر, ليكسر النمط التقليدي والمعتاد للتعاطي مع حقائق التأريخ وما يراد من هذه الحقائق, بمعرفة عملية عند إعادة إنتاجها ضمن منظومة الخطاب المسرحي, ليتداخل بقوة مع مفهوم ومعنى المثقف العضوي الذي طرحه (غرامشي) كأساس لرسالة المفكر المثقف ودوره في المجتمع..
فحين تولّد الشعور عند المسرحيين, في مرحلة من مراحل المسرح الحديث, بأن المسرح أصبح تقليدياً في التعبير ومحدوداً في التأثير, وغير فاعل في حركية حياة الإنسان وتبني مشكلاته وهمومه وقضاياه وحاجاته وطموحاته وتطلعاته التي تمثل إستجابة طبيعية لمتغيرات العصر وعجلته المتسارعة, جاءت دعوتهم للبحث عن شكل فني وجمالي لنص مسرحي يكون قادر على استيعاب هذه المتغيرات والتحولات المتسارعة, لتتفاعل مع طبيعة المرحلة الجديدة وثقافة العصر وتحولاته وحاجة الإنسان الذي بدأ يبحث عن صيغ وأساليب متجددة قادرة على التفاعل مع قضاياه وتلبي الحد الأدنى من متطلبات حياته اليومية في زمن متسارع جديد.
وتعاطى كتاب المسرح العرب مع هذه الأشكال الجديدة, التي بدأت تحفر في أرض مسرحنا العربي, لاسيما وإنها كانت أرضية خصبة لنمو مثل هذه الحقول الجديدة بحكم المتغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية المتسارعة, وكان المسرح السياسي حاضراً بقوة في الاتجاهات المسرحية التي شكلت العلامة الأبرز في شكل المسرح العربي.
ونجد هذا الاتجاه ماثلاً بشكل واضح, ليمثل الاتجاه الأساسي في كتابة النص المسرحي الذي تبناه ودعا إليه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي, ونجدها ماثلة في مجمل نصوص الثلاثية التاريخية المسرحية, وهي نصوص: (عودة هولاكو/ القضية/ الواقع صورة طبق الأصل), وكانت واحدة من هذه المفهومات إنها تتمثل في سعيه لصياغة خطاب آيديولوجي محمولاً على متن الإطار الجمالي والفني الذي يتفرد به خطاب النص المسرحي عن غيره من مجمل خطابات الآداب والفنون, وهذا قد يكون المحفز الأول لإنتاج هذه النصوص المسرحية التي تمنح عملية الكتابة الدرامية تنويعاً في التعامل مع الحدث المسرحي من جهة, ومع الفضاء الذي يقع فيه هذا الحدث من جهة أخرى, فالشيخ القاسمي بصياغته نص مسرحي يحمل خطاباً فلسفياً, موظفاً لأجل ذلك ضوابط واشتراطات الخطاب الجمالي في كتابة النص المسرحي, يكون قد حقق بعداً تجديدياً وتجريبياً, فضلاً عن ذلك فأنه قد صاغ خطابه الدرامي الجديد في مجمل نصوصه المسرحية بأسلوب يغري المتلقي بالتواصل, وبذلك يكون قد خلق قاعدة التفاعل بين طرفي العملية الإبداعية (المرسل والمتلقي).
إن الخطوط الفكرية العامة التي أقام عليها الشيخ الدكتور القاسمي معمار نصوصه في (الثلاثية التاريخية), ما زالت شاخصة في تأريخ الأمة ومنجزها الحضاري وأرثها الحي, والخطوط الفنية والجمالية في عملية كتابة النص المسرحي تستند الى ذلك المنجز الراسخ عبر حركة الدراما في المسرح العالمي,فالـ(ثلاثية) بوصفها تجربة لكتابة درامية, تشكل منطلقا لعرض مسرحي, باعتبار إن هذه النواتج تعد محكا دقيقا للحكم, سواء في تمثُل الكاتب لقوانين الدراما والمسرح أم في اقتراحه وتعديله لمنطق القوانين القائمة, إذ يضع في بداية كل نص من نصوص هذه الثلاثية موجهات للقراءة عندما يخبر القارئ بما يريد, وهو يتعمد لأن يفتتح كل نص له بذلك الموجه الأساس أو المدخل الأولي, كاشفاً عن ذلك التعمد, ففي مسرحيتي (عودة هولاكو) و(القضية) يكشف للمتلقي حقيقة إن (من قراءاتي لتاريخ الأمة العربية وجدت أن ما جري للدولة العباسية قبل سقوطها مشابه لما يجري الآن على الساحة العربية, وكأنما التأريخ يعيد نفسه, فكتبت هذه المسرحية من منظور تاريخي لواقع مؤلم), بينما يكشف في نص مسرحية (الواقع صورة طبق الأصل) على حقيقة (لقد مرت بالأمة الإسلامية فترات أشد قسوة مما نحن فيه, فلتكن هذه المسرحية دافعاً لعدم اليأس وحافزاً نحو التوحيد والنضال), وهو في مثل هذا الطرح الذي يتكرر يسعى لأن يمنح النص قيمة ذاتية غير مكررة وهو يبحث عن الأنموذج المتفرد والمكتفي بذاته وفي الوقت ذاته ينشغل بالتحكم بدرجة الاقتراب والابتعاد عن ذلك الإرث التاريخي من جانب وجماليات العملية المسرحية من جانب آخر والقائم بشكل ظاهر ملموس أو بشكل مستتر وخفي.
ولعل الفلسفة في خلق هذا التفاعل بين الكاتب والمتلقي, تقوم على أساس تحويل الفعل التأريخي المألوف والمعروف إلى فعل حاضر, حيث يقيم مجمل بنى هذه النصوص المسرحية على أساس قراءة التأريخ, ولعل عملية إعادة الأحداث المسرحية إلى رحاب التأريخ وسيلة من وسائل تحقيق الرسالة التي يسعى إلى أن يوصلها إلى المتلقي, فهو يهدف في مجمل نصوصه إلى محاولة إيقاظ الوعي بما يحدث الآن وما يراد أن يحدث, ويدعو إلى تغيير حاسم للظرف الراهن من خلال تعرية التركيبة الاجتماعية والسياسية المختلفة لعصر ماضٍ من أوجه الاختلاف بينه وبين عصور أخرى, حتى ليبدو إنه مشابه بشكل أو بآخر لعصرنا الراهن, أي إنه لا يهدف إلى إعادة تقديم إحداث وقعت في التأريخ وكأنه يسرد التأريخ كما حدث, وإن كانت الشخصيات والوقائع متشابهة, فهي تستخدم من أجل إيقاظ المتلقي إزاء ما يحدث في راهنه, وقد أبرز في هذه النصوص الجانب البطولي والنضالي للشعب العربي عبر مراحل عديدة من تأريخه, وأهتم بإبراز نماذج لحكام ضعفاء تسببوا نتيجة لضعفهم وتقصيرهم وانصرافهم عن هموم ومشكلات الأمة ومصالحها, تجسد ذلك في شخصية المستعصم بالله الخليفة العباسي في نص (عودة هولاكو), وأبي عبد الله الصغير أمير غرناطة في نص (القضية), كما أهتم بإبراز جانب آخر من الصورة وهم هؤلاء الخونة الذين تسببوا أيضا في ضياع الأمة مثل ابن العلقمي في مسرحية (عودة هولاكو) وأبو القاسم في مسرحية (القضية).
فالصراع يتشكل, من خلال أطراف متعددة ومتداخلة, وقد منحها بعدها الرمزي في النص من خلال أبعاد متعددة ومستويات متباينة, مثل أبعاد الشخصيات المختلفة, حيث نجد شخصيات ملوك وقادة ووجهاء ورجال حاشية وجنود وخدم ونساء, ليرسخ فلسفته لهذا الصراع بالبعد الآخر الذي يهدف إليه, وهو صراع الماضي والحاضر, والحاضر والمستقبل, والذات والموضوع, والداخل والخارج, وبالنتيجة فهو الصراع الأزلي بين قوى الخير وبين قوى الشر, كما إن الصراع في مستواه الخارجي, وحركة الشخصيات الأخرى هو مظهر من مظاهر وعي هذه الشخصيات وصورة لما يحدث من صراع في أعماقها, فالصراع الداخلي لم يكن بعيدا عن كونه طرفاً حاسماً في تحقيق معادلة التأثير التي منحت هذه النصوص نبضها وحركية مفاصلها التي تربط الأبعاد الدرامية بالأبعاد السياسية.
أن القصدية في تشابه الرسالة التي جاءت بها النصوص الثلاثة, والقصدية في تداخل فكرتها, وتقارب مضمونها, مع إنها تناولت أحداثاً ووقائع وشخصيات متباعدة في المدة التاريخية, يؤكد على إن الشيخ الدكتور القاسمي يدرك مشكلات العصر الكبرى وحقائق التأريخ بشكل عميق, لذا كانت قراءته للتأريخ أبعد من مستوى اليومي المباشر والتقليدي, لتظل جمرة التاريخ متوقدة لتشعل جذوة الصراع الدرامي في النص المسرحي.
ولعل الطريقة التي تعامل فيها الشيخ القاسمي مع التأريخ, هي التي منحت هذه النصوص خصوصيتها وتفردها, من خلال كيفية بحثها في فلسفة التأريخ وكيفية استنباط الحلول, فقراءة التأريخ عند الشيخ الدكتور القاسمي وإعادة إنتاجه في نص مسرحي لم يكن مطلباً ثقافياً فقط, وإنما جاء كضرورة فلسفية وايديولوجية, وحاجة أساسية فرضتها مشكلات الأمة وحاجتها الى أن تعيد قراءة تأريخها, فهو حين يعيد نفسه, كما يحدث دائما, ينبغي أن لا نعيد معه الأخطاء التي تجر الأذى على حاضرنا, وبذلك نخرج بفلسفة التأريخ في الفكر المسرحي الحديث من حدودها النظرية الضيقة الى الفضاء المفتوح في التطبيق العملي والحياتي اليومي المعيش في راهننا العربي.