صدى مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر و التجريبي في الدراسات البحثية المسرحية الاكاديمية/ د. كريم عبود
عالم البحث الاكاديمي في الفنون الدرامية تصطف فيه مجموعة من المؤشرات التي تعطي للدرس البحثي المتخصص مساحات من التجوال في اسرار هذا العالم لاكتشاف الحقائق الغامضة والمستترة والتي تنقلنا من حالات السكون والجمود والمجهول الى مجالات الوعي التي تمثل الفعل الديناميكي في التفكير ، فعل يكشف لنا المعلوم ويحدث التحول الفاعل من الجهل الى المعرفة .
لقد حاولنا في درسنا البحثي المسرحي في كلية الفنون الجميلة (جامعة البصرة) ونحن نتجول في عالم السحر المسرحي ان ننقل الدرس من اطارة النظري البحت الى تشكلات تطبيقية تفرز بمعطياتها الجمالية عروض متنوعة في الرؤيا والهدف والاطر العامة ، ولهذا جاء اختيار مشاكل بحثية في هذا الدرس لتسلط الضوء على المنجز المسرحي العربي والعالمي في فضاءات تبادل الخبرات التجريبية في مهرجان يعد من اهم المهرجانات الدولية المعنية بتقديم ما هو تجريبي ومعاصر ، مهرجان يسعى فيه المنظمين تجاوز المؤسسة المسرحية التقليدية وانجاز شكل مسرحي تعبيري يكسر الثابت والمتعارف عليه لخلق مؤسسة الجدل والبحث على المستوى التنظيري والتطبيقي الذي يؤطر للبحث المسرحي مديات وافاق منفتحة على العالم.
من هنا جاء صدى مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر في درسنا البحثي المسرحي لنختار موضوع مهم وفاعل وجديد يعتمد على تداخل المعارف والعلوم لينهل من مداخلها الفلسفية ويفتح بوابات دخول نحو عالم المسرح ، من هذا المنطلق تم صياغة عنوان البحث الموسوم :( الاجساد الثقافية وبنية اداء الممثل في العرض المسرحي المعاصر ) دراسة اثنوغرافية
وهي رسالة مقدمة الى مجلس كلية الفنون الجميلة جامعة البصرة قسم الفنون المسرحية لطالب الماجستير علي محمد عبيد وبأشراف ا.د.عبدالكريم عبود عودة جامعة البصرة كلية الفنون الجميلة .
بدا انطلقنا من تنوع الاختيار والانتقاء الذي اتاحه لنا المهرجان بدورته الثالثة والعشرون للفترة من 10-20/9/2016 ، انها دورة العودة الخلاقة لمسيرة هذا المهرجان واستمراريته ، كنت مشاركا في هذه الدورة بالحلقة النقاشية المهمة حول موضوع التفكير والتكفير ، ومتابعا لتفاصيل العروض في مسارح القاهرة المدهشة والجذابة ، فقد اغنتنا العروض التي شاهدناها وجعلتنا امام فاصله جوهرية تستلزم منا ان نطور البحث الاكاديمي من خلال الانجازات المسرحية المتنوعة المرجعيات ، وكنا نحتاج الى الخبرة المعرفية والاكاديمية لتشاركنا الاشراف على هذا البحث الذي ولدت فكرته من صدى المهرجان ، لذا جاء الاشراف مشترك بيننا وبين ا. د. حسن عطية اكاديمية الفنون المعهد العالي للفنون المسرحية (القاهرة) . انها تجربة للقاء معرفي عميق يسعى لتطوير البحث وفتح افاق التوجيهات للطالب نحو الاطلاع على مصادر متنوعه وعديدة في اساليب البحث ومناهجه ، وهي تجربة تؤكد اهمية التعاون العلمي بين جامعاتنا ومعاهدنا المتخصصة في الدراما نحو طريق تبادل الخبرات .
صدى اختيار عنوان البحث
العروض المسرحية المقدمة في المهرجان ، بعد جردها وتقديم دراسة مسحية توثيقية لها كونها مجتمع البحث الذي تمثله الدراسة ، عروض تميزت بالتنوع في مصادرها التاريخية والحضارية والفنية والاسلوبية ، شاهدنا عروض من الصين , فرنسا , مصر , لبنان . روسيا , شيلي , افريقيا , رواندا , ارمينيا , ايطاليا , مولدافيا , مكسيك …. الخ ، من جوهر التنوع جاء اختيار العنوان ، ومن مفهوم الاجساد الثقافية تشكلت هيكلية البحث التي انطلقت من سؤال المشكلة وهو (هل يستطيع الممثل ان يعبر فنيا وادائيا من خلال جسده عن مضمون الفعل ًالاجتماعي والثقافي ليكشف خصوصية الاجساد الثقافية عبر ممارسات تعبر وتعلن عن طبية المجتمع ؟) ،فالجسد ” رمز اجتماعي , من حيث ان الجسد يصبح انسانيا عندما يحمل الرموز الثقافية لمجتمعه وجماعته , وتتغير اشكال الانسانية تبعا لتغير هذه الرموز المتغيرة عبر التاريخ , لينصهر بثقافات ومجتمعات متطورة ومتداخله مع بعضها البعض ” (1) . ان حضور الجسد في فضاء المسرح يعني حضور الانسان الممثل الحامل لثقافة مجتمعه وتاريخه والقادر على ان يمارس الكشف الصادق والمتبني طبيعة هذا الحضور ، ليس بالحظة الان بل انه يستحضر كل ما يتعلق بحضارته وتاريخ جنسه البشري، ليكشف المحتوى ويعرض لنا لحظة الاداء الصادق بجسد صادق تعلنها روحه الادائية السحرية.
من هنا انطلق البحث في سياحة معرفية للتعرف على امكانية الجسد عبر حضارات سادت واخرى بادت وصولا الى الزمن الذي نعيشه ، وصدى عروض المهرجان بتنوعاتها ساعدتنا في الخوض بتفاصيل هذه السياحة التي تضمنت عنوان ومحتوى الفصول والمباحث التالية :-
اولا : الفصل النظري :
اعتمد منهج البحث الاثنوغرافي ليبحر بتاريخ الحضارات القديمة والحديثة والمعاصرة ليؤسس للجسد الانساني بعده الطاقة الرئيسية التي تساهم في انتاج الفعل الحركي للإنسان او الممثل مدخلا معرفيا وفنيا في توظيف الاجساد الثقافية بالعرض المسرحي ، مبين خصائص الرؤيا بالفلسفية لكل مجتمع واخضاع هذا التوظيف لجماليات العرض الادائية .
فالدراسة الاثنوغرافية تبحث ” بالثقافات الخاصة بالجماعات البشرية ، فالثقافة هي مجمل ما يتلقاه الفرد من مجتمعه : معتقدات ، التقاليد ، المعاير الفنية الحالة المعيشية واشكال الحرف والاصناف التي لا تأتي من نشاط الفرد الخلاق بل مما يرثه من الماضي ، اي ما يتناقله الناس عن ظاهرة معلنه او باطنه مضمرة ” (2)
الاجساد الثقافية لها حضور صادم وديناميكي في التعبير عن الحيثيات الثقافية والاجتماعية وتحويل المفاهيم من فضاءها المحسوس الى علامات مرئية بصرية ملموسة ، انها معنية بالممثلوجسده وبطاقته الحيوية في التعبير والحضور العياني . وعليه فقد تضمن هذا الفصل التنظيري ثلاث مباحث جاءت على وفق العناوين التالية :-
المبحث الاول : مدخل لدراسة الوعي الاثنوغرافي في بناء المجتمعات .
المبحث الثاني : الاجساد الثقافية والتعبير الجسدي المسرحي .
المبحث الثالث : مسرح المستقبل والاجساد الثقافية – لغة الاداء المعاصر .
ثانيا : الفصل الاجرائي
المهرجانات المسرحية مكون ثقافي ومحطات عبور لاكتشاف جهود المسرحيين في العالم بالاشتغال الابداعي في توظيف المعنى المرئي لمفهوم الاجساد الثقافية على خشبة المسرح ، لذا جاء الاختيار لمشاهدات مسرحية متعددة الرؤى والاتجاهات تمثل زمن التحولات الكبرى الذي نحياه ، وتم توصيف الفعل الاجرائي للبحث من خلال مجتمع العروض المقدمة في المهرجان بدورته (23) وضم هذا المجتمع (30) عرضا مسرحيا ، تتمظهر فيها تنوع الاجساد الثقافية في اداء الممثل كونها عروض دول متنوعه الثقافات والحضارات والجغرافية ، عروض شكلت صدى حقيقي لموضوع البحث في جوهره الانثروبولوجي .
لقد تم اختيار عينة البحث قصديا وفق مستويات تنوع الاداء التمثيلي اولا ، والانتماء الى مرجعياتها الثقافية ثانيا ، ورصد فعل التعبير الجسدي وقدرته على تشكل المكونات البنائية الاجتماعية والحضارية والثقافة ثالثا .
وعلى وفق هذا الثالوث ثم انتقاء عينة البحث بنماذجها التالية :-
جدول عينة البحث المختارة
النموذج | الجسد الثقافي | الدولة | عنوان العرض |
النموذج الاول | المسرح الاسيوي | الصين | العاصفة الرعدية |
النموذج الثاني | المسرح العربي | مصر | الزومبي والخطايا العشر |
النموذج الثالث | المكسيك | المكسيك | فينوم هاملت |
النموذج الرابع | المسرح الامريكي | امريكا | خوارزم |
النوذج الخامس | المسرح الاوربي | بولندا | موليير |
النموذج السادس | مسرح امريكا اللاتينة | شيلي | بونكر |
نماذج العينة لم تتنوع في مجالها الجغرافي او العرقي بل كان التنوع منصب على المعالجات الاخراجية وتوظيف المرجعيات الثقافية لكي تواجه ازمات العصر الذي نعيشه وتضعنا امام مقولات تكشف عن الصراعات السياسية والاقتصادية التي همشت الانتماء الروحي واظهرت علاقات جديدة مبنية على عوالم افتراضية وهمية ، انساق خلفها الانسان وتنمذج بأراداتها التكنولوجية وعوالمها الرقمية .
عروض مسرحية وفرت للباحث مثابات ينطلق منها في التحليل والتفسير والتفكيك والبناء لوضع رؤياه حول صيغ اشتغال تلك الاجساد الثقافية التي تسبح بحرية في فضاء العرض الجمالي والذي يعد الممثل حاملا وكاشفا لنماذج المجتمعات الانسانية التي تلتصق بجسده الحيوي والمعبر بدلالاته الصورية والحركية والانشائية ضمن بث علاماتي يحمل تنوع في الاشارة والرمز والأيقونة حتى يعبر كنتيجة عن ( البيئة ، العادات والتقاليد ، الموروثات الاجتماعية ، والقيم الدينية والاخلاقية ) .
في الخاتمة خلص البحث نتائج واستنتاجات ندرج منها :-
- تحمل الاجساد الثقافية مكونات جمالية تنصهر في الفعل المسرحي ، لتعلن عن دواخل النفس الانسانية التي تنعكس كعلامات يظهرها الاحتواء الزمكاني لجسد الممثل المؤدي الحاضر في فضاء العرض الاجتماعي والثقافي .
- تنوعت الاجساد الثقافية للمجتمعات من خلال بروز سمات تكوينية وتشكيلية وتعبيرية لجسد الممثل ، لتكشف عن الدوال المركبة والمضمرة للأجساد الثقافية لمجتمعات عينة البحث .
- الثقافات في العروض المسرحية المقدمة ( عربية ، مكسيكية ، صينية ، امريكية ، اوربية ، امريكا اللاتينية ) ساهمت بالكشف عن اسرار تجلي الاجساد الثقافية وحددت هوية الاداء الجسدي للممثل .
- قدرة الاداء التمثيلي في العروض عينة البحث افرز خطاب جسدي ثقافي تتشكل علاماته البصرية والسمعية بتنوع ارسالي يهيمن عليها الجسد بعده منظومة جمالية تعبيرية تؤسس لخطاب المضمر في الصورة المسرحية وتكشف عن اثنوغرافيا المجتمع الذي ينتمي الية جسد المؤدي .
ان صدى المهرجان في الدراسات البحثية الاكاديمية لم يتوقف عند هذا التناول ، بل هي مسارات ذات ديمومة وفاعلية تدعم المؤسسة الاكاديمية كي تتطور وترسم للباحثين خطوط ابعد في استنباط مشاكل بحثية في محاورها التاريخية والوصفية والتجريبية ، صدى المهرجان يتيح مساحات جادة ومهمة لنقل حدود البحث المسرحي من التنظير الى التطبيق ، لأننا امام تجارب مسرحية معاصرة تستحق منا رصدها وتعميق فعل انتاجها ، محاولتنا في جامعة البصرة وتجربة الاشراف المشترك فيها انطلقت لتؤسس لمبادرات اخرى في جامعات ومعاهد فن درامي عربية لتأخذ من صدى هذا المهرجان عناوين تعنى بالتجربة المسرحية بما يؤكدحضوره الثقافي والبحثي .
الهوامش :
1: ينظر سامية فدى . الجسد بين الحداثة ومابعد الحداثه ط1(القاهرة ك الهيئة المصرية العامه للكتاب ،2016) ص 42
2: ربورت لودي . تاريخ الاثنولوجيا ، ترجمة نظير جاهل ط2 (بيروت : المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع 2007) ص5 .
** ا.د.عبدالكريم عبود عودة/ العراق