التطاول على مهنة السينوغرافيا : انحراف مرفوض عن مهنية المسرح المغربي/بقلم: الدكتور طارق الربح
استطاعت السينوغرافيا المغربية أن تكرِّس لنفسها باعتبارها عمادا لابدّ منه لكلّ لّعملية إبداعية في مجال المسرح، حتى أنه لم يعد بالإمكان تخيُّل إنجاز مسرحية بالمغرب دون إسهام كفاءات سينوغرافية متخصصة. والمقصود بالتخصص هنا: ما يجب للسينوغراف أن يتّصف به من مؤهلات أكاديمية في تحليل النصوص المسرحية لبلوغ عمقها الإنساني، أو لإغناء وتعميق تصورها الدراماتورجي، في تناغم تامّ مع الرُّؤى الإخراجية المؤطرة للعملية الابداعية، وكذلك لاقتراح تصورات سينوغرافية متماسكة حتى وإن غاب النص وتعلّق الأمر بمقترحات أفكار واستلهام مرجعيات جمالية معينة في الاشتغال.
لقد انتبه المتنورون من روّاد المسرح المغربي، مبكِّرا، لأهمية الجانب المشهدي في العرض المسرحي، ولم يبخلوا عليه بعنايتهم، إلى أن تأسس المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي سنة 1985، ليُزوِّد الساحة المسرحية بما تستحق من كفاءات سينوغرافية متكونة وفق مناهج علمية، تُؤهلها لامتهان السينوغرافيا في مجال المسرح وكذلك في مجالات أخرى.
وبعد أن قطعت السينوغرافيا المغربية أشواطا لا يستهان بها، بدأنا نلاحظ في السنوات الأخيرة، تفشيا غير مسبوق لظاهرة التطاول على هذه المهنة بكلّ تخصصاتها، من لدن بعض ممتهني المسرح بتخصصاتهم المختلفة، وهو ما لا أجد له أكثر من تفسيرين:
1) إما أنه ادّعاء مفرط في الأنا لنبوغ مسرحي جديد على المسرح المغربي
2) أو أنه آخر ما جادت به قريحة الإسترزاق من المسرح لتحقيق أرباح تليق ببؤس هؤلاء المسرحيين الجدد. وفي الحالتين، نطالب من الوزارة الوصية بمؤسساتها ومصالحها المعنية بالمسرح، ولِجانِها ومسؤوليها، أن تضع حدّا لبوادر هذا الانحراف، اعتمادا على الوسائل القانونية والتنظيمية المتاحة.
وفي هذا الصدد، نذكّر من يهمهم الأمر أن “قانون الفنان والمهن الفنية”، في نسخته الصادرة في الجريدة الرسمية بتاريخ 25 غشت 2016، يعترف بصفة المؤلف في الابداعات الدرامي، لكل من “السينوغراف ومصمم الملابس ومصمم الديكور ومصمم الإضاءة بحكم تنفيد تصوراتهم الفنية”، وكل بصفته ومهمته. وفي هذا الصدد، فقد بدأت بعض الفعاليات السينوغرافية المغربية في تدارس سبل رفع امتعاضها لوزارة الثقافة والاتصال، حرصا منها على تحصين المكتسبات، وكذلك للمطالبة بتعديل منصوص الشروط الواردة في دفتر التحملان الخاص بدعم الوزارة للمشاريع المسرحية، كونه يسمح بالجمع بين مهمتين في مشروع مسرحي واحد، مع إمكانية تحصيل التعويض المادي عنهما معا، ويسمح كذلك بالجمع بين ثالثة مهامّ على أن لا يُعوّض المعني عن المهمّة الثالثة، إلا أن مصالح وزارة الثقافة والاتصال في قطاع الثقافة، لا تتوفر حتى الآن على آليات مراقبة دقيقة، قادرة على إحقاق المستحقات في تدبير إنتاج المشاريع المسرحية، خاصة وأنّ المسؤول عن العملية الإنتاجية هو حامل المشروع في غالب الاحيان، ممّا يسمح له بتدبير ميزانيته على هواه، باسم الفرقة أو المقاولة الفنية التي يشرف عليها أو يشتغل باسمها.
صحيح أنه من حق أي حامل مشروع مسرحي أن يتصور مشروعه حسب تطلعاته، وأن يختار فريق عمله وفق تخميناته، وأن يجمع بين التخصصات بقدر تعدد كفاءاته، ولكن عندما يتعلق الأمر بالاستفادة من دعم الدّولة، فيجب احترام التخصصات المهنية حفظا لحق التواجد في المجال الفني لمختلف الفئات، فالدول في العالم كله تدعم الابداع لتشجيعه وتطويره وتقريبه من المواطنات والمواطنين، ولكن كذلك لخلق فرص عمل تليف بكرامة مبدعيها باختلاف فئاتهم، خاصة في مجالات الابداع الجماعي، وعلى رأسها المسرح، وليس من مسؤوليات الدولة دعم الفرد على حساب الجماعة. ولن يفوتني هنا، أن أؤكد على أن مقالتي هذه نابعة من غيرتي على مهنة السينوغرافيا التي تشكل بحق جزءا مهما من إشراقات المسرح المغربي، بشهادة كبار نقّاده ومبدعيه، ولا مصلحة لي في الاساءة للأشخاص، حيث أنّ الهدف الأساس هو لفت انتباه المؤسسات المعنية وفئات الممارسين، لظاهرة غير صِحّيّة بدأت تنخر جسد مسرحنا المغربي وتمس بفئة مهمة من مبدعيه، وهي الفئة التي أعتز بانتمائي العضوي إليها باعتباري سينوغراف.
ونظرا لما عهِدته، لدى كلّ الفرق المسرحية الجادة بالمغرب، من رقي في الاشتغال ونزاهة في المعاملة، بإعمالها للفصل بين المهام، واحترامها لتعدّد التخصصات، وأخذها بيد الكفاءات، وانتصارها للمهنية والابداع الحرّ في كل الظروف، فإنني أطالب زميلاتي وزملائي، السينوغرافيات والسينوغرافيين، بالسير على نهج أساتذتنا ورموزنا وسابقينا في المهنة، مِمّن أسسوا للسينوغرافيا ببلادنا على أسس مهنية متينة، أساسها أن السينوغرافيا ليست مجرد تخصص، بل شق لمجموعة من التخصصات الفنية، والسينوغراف ليس مجرّد مشرف على إنجاز الديكورات والملابس ومكلف بإضاءة الخشبة يوم العرض، بل هو شريك في العملية الإبداعية، وطرف فيها من بدايتها لنهايتها، حيث أنّ العمل المسرحي يكتمل بوجوده، وينجح بنجاحه، ويتميّز بتميّز تصوراته.
وختاما، لا يجب أن ننْسى أننا جميعا نشتغل في “مسرح الدولة”، وفي “مسرح الدولة” لا فضل لأحد على آخر إلا بقيمة إبداعه، وقدْر علمه، وحسن معاملته.
** الدكتور طارق الربح / سينوغراف باحث مغربي