العرض المكسيكى المعطف والقبعة وأرض محظور فيه التفكير/ د. حسن عطية
تأملات فى عروض مهرجان القااهرة للمسرح التجريبي
منذ أن بدأ الإنسان يفكر فى علاقة وجوده الفردي بالمجتمع والعالم اللذين يعيش داخلهما، وما ترتب علي التقدم التكنولوجى فى العصور الحديثة، من طغيان الآلة على الإنسان، وتأليه الجماعة على الفرد، مع تأكيد مجموعة من الفلسفات المعاصرة على الإنسان قد ألقى به فى هذا العالم وحيدا، وعليه أن يصنع وحده ذاته وأفعاله ويتحمل مسئوليتهما، وتضخم هذا الشعور فى العقود الأخيرة بفعل أنظمة سياسية، تسحق الطبقات الوسطي والدنيا، وتطحن أفرادها فردا فردا، وتفرض روح الاغتراب داخل الوطن الواحد، وتجبر المواطن على التفكير فى الهرب خارج الوطن، أو داخل ذاته، حتى يموت غرقا أو منتحرا، مما ولد أدبيا ومسرحية موضوع الحصار داخل بقعة صغيرة، يناضل من أجل البقاء فيها أو عبورها لعالم أكثر اتساعا وآمانا .
رأينا هذا مع عرض (الشقف) التونسى، الذى حوصرت شخصياته داخل قارب صغير وسط الماء المتلاطم، هربا من وطن غير آمن، ويكون الخيال وتذكر وقائع حياتية سابقة نوعا من مواجهة الموت المحيط بها، وها نحن نشاهد عرض (بدون أقدام ولا رأس) المكسيكى، والذى يحاصر فيه ممثليه أيضا داخل مستطيل صغير وسط بقعة ضوئية محايدة اللون، ويظهر داخلها ثلاثة من الممثلين يرتدون ملابس أشبه بالزى الشهير الذى أقترن بشخصية “ديك تريسي” التى جسدها الممثل الأمريكي “وارين بيتى” كضابط شرطة فى فيلم الحركة المعنون بذات الاسم (ديك تريسي) 1990 ، وهو عبارة عن معطف من قماش الجبردين واق من المطر وقبعة تهبط قليلا على الجبهة لتخفي عينا من عيون الشخص الذى يرتديها، تجنبا لملاحظته، فيبدون بزيهم هذا أنماطا قادمة من أفلام الأربعينيات الأمريكية، مثلما تم لدينا تنميط المخبر السرى فى السينما المصرية القديمة بالمعطف الجبردين والعصا الرفيعة والجريدة التى يبدو أنه يقرأها بفتحة وسط الجريدة.
كتب نص المسرحية المكسيكية “خايمي تشابائودا” وأخرجه “كويلان لاتينو ” لفرقة (رافاجا) المستقلة، والموجهة عروضها للشباب والأطفال، ويحمل عنوانا دارجا فى اللغة الأسبانية، يقول (بدون أقدام ولا رأس) ويطلق على الحالات أو الموضوعات التى يغيب عنها المنطق، وهو مرادف لنفس المعنى الكامن فى العبارة المصرية “مالوش راس ولا رجلين” أو “لا رأس له ولا ذنب”، والذى يعنى كلاما فارغا أو إنسانا مراوغا أو موضوعا غامضا غير محدد المعالم، ومع ذلك يوجد فى هذا العرض (رأس) بالفعل، حيث يطلق على الحاكم الديكتاتور المهيمن على هذا البلد التى تدور فيها وقائع المسرحية أسم السيد “رأس” Cabeza ، وأن تمنى ثوار هذا البلد عدم وجوده وعملوا طوال العرض على الخلاص منه، كما توجد أرجل يستخدمها الممثلون كثيرا فى تعبيراتهم عن حدث المسرحية، فضلا عن وجود مضمون منطقي يكشف عنه الصراع بين الأخيار والأشرار عامة، ويتجسد فى موضوع سعى مجموعة من المتمردين القضاء على النظام الفاسد القائم، واستعادة زمن النظام العادل .
فضاء فارغ تماما، لا ديكور ولا إكسسوارات، مجرد منصة خشبية مستطيلة مرتفعة قليلا عن أرضية المسرح بقليل، تظهر الشخصيات بمعاطف متباينة الألوان: الأصفر والأزرق الفاتح والأزرق الغامق، لتأخذنا إلى أرض محظور فيها التفكير على المواطنين، واعتباره مرض لابد من علاج صاحبه والقضاء على كل عقل مفكر، والشرطة هى المنوط بها مواجهة هؤلاء الذين يفكرون، هنا تلعب المعاطف والقبعات الأمريكية دورها فى السخرية من الشرطة واتهام النظام بالتبعية دون مباشرة، فللدولة وحدها حق التفكير والتعبير والقرار، أنها صورة مشابهة لما حدث فى رواية (1984) لجورج أورويل وفى فيلم (451 فهرنهايت) للروائى “راى برادبرى” والمخرج “فرانسوا تريفو”، حيث ممنوع التفكير وقراءة الكتب وحتى الحب.
وفرسان عرضنا الحالي هم ثلاثة من المتمردين على الطاغية (العالمى) والأمريكي بمفهوم العولمة، محاصرون داخل المستطيل الصغير، يؤدون أدوارهم بمرونة جسدية فائقة، مجسدين أفعال الثوار (الطيبون) الذين يريدون استعادة النظام العادل، و(الأشرار) المتجسدين في الشرطة مع الطاغية الظالم الشرير اللذين يستخدمان آذانا وأفواه وحتى زوج من الأرجل لمواصلة الخطة الشريرة لأكل كل هذه العقول التى يمكن أكلها، ومستخدمين حركة أجسادهم، وطبقات أصواتهم، بتقنية أداء حركي أقرب لحركة الرسوم المتحركة و(جيستات) أفلام الأربعينيات، مع حالات ثبات أشبه بثبات التماثيل، مكونة تشكيلات بارعة لأجواء وشخصيات تجذب الجمهور، وتثير لديه الضحك الذى تستهدفه الفرقة بعروضها عامة، مهما كانت جدية الموضوع المثار .
فى عالم ظالم، يلتهم فيه الحاكم الديكتاتور أفكار الناس الجديدة والثائرة، يظهر المتمردون الثلاثة، محاصرون جسديا، ولكن خيالهم متسع لدرجة استدعاء كل الشخصيات التى يودون التمرد عليها، يتقدمهم السيد “كلاب” Klap (أسمه هكذا ولا علاقة له بكلمة الكلاب فى العربية)، الذى عمل لسنوات طويلة على هزيمة السيد “الرأس” المتغطرس الكبير، الذى لديه حساسية من الأسبرين للسخرية منه، ومع “كلاب” متمرد آخر هو “زلوت” Zlot الماهر فى عمله والمتمتع بذاكرة ممتازة يستعيد بها الماضى الثائر، كما أنه عاطفي، بينما تحاول ثالثتهم الفتاة “سوك” Sock أن تسير على خطى قائدها، وتسعي دوما للحصول على موافقته على فعلها، وذلك داخل حبكة تشويقية ساخرة، تنتقل فيها الشخصيات من مغامرة لأخرى، باحثة عن حرية التفكير التى تتضمن بدورها حرية الحب، وحرية الخيال، وحرية كسر كل القيود المقيدة للتفكير .
بينما يقترب الثوار من فرصة القضاء على الحاكم الظالم “الرأس” بنصف قرص أسبرين، يتعرضون للاضطهاد من آذان وعيون وأيدي وأرجل تشخص فى خيالاتهم شرطة وعسس ومخبرين وأصدقاء لم يشكوا لحظة فيهم، وهنا يدخلنا العرض لعالم مسرحيات وأفلام الخيال، حيث أفعال التنصت والمطاردة والإهانة تتعاظم معها الأذان والأفواه والأيدي والأرجل متضخمة وموحية بأن البشر قد تم مسخهم، وفقدوا تكاملهم الإنسانى، ليتحولوا لمجرد أدوات فى ظل حكم الطغاة .