زهرة .. من العدم إلى المجهول/ د.حسن عطية
من أصداء اليوبيل الفضي لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر و التجريبي
بنوهان كبيران يتصدران خلفية المسرح ، يتحركان متجاورين أو متعامدين أو منفصلين ليشكلا جدران الأماكن التى تتواجد بها الفتاة التى صاغ فى البدء من تجربتها المريرة الروائى الكبير “الطاهر بن جلون” عملا سرديا باللغة الفرنسية شديد الرهافة بعنوان (ليلة القدر) وحصل عنه على جائزة الجونكور الفرنسية الشهيرة ، وترجمه “محمد الشركى” وصاغته للمسرح كلا من الكاتبة والممثلة “هاجر الحامدى” مع مخرجه “محمد الحر” بفرقة (أكون) للثقافة والفنون المغربية باسم (صولو) بمعنى وحيد أو بمفرده ، مجسدا رحلة وجودية ومعرفية للذات لفتاة فى زمن توأد فيها النساء دون موت ، وتترك لتعيش حياة مكفنة تمحي جسدها وشخصيتها وعقلها ، وتغتال حريتها وقدرتها على التفكير ، ويصل الأمر بإلغاء كينونتها كأنثى ، وهو أمر ليس ببعيد عن البعض من المتشدقين بحرية الفكر والتعبير لبنى البشر جميعا ، وفى نفس الوقت يمنع أخته أو أبنته حتي من إنشاء حساب باسمها ووضع صورتها على وسائط التواصل الاجتماعي وعلى لافتات الانتخابات ، فأسمها عورة وصورتها حرام .
تسبح رواية (ليلة القدر) فى أجواء فنتازية مختلطة بالواقع ، فى صيغة أقرب لروايات الواقعية السحرية ، حيث تأخذنا لبلدة تعيش على تخوم الصحراء ، تسرى فيها الخرافة ، وتتخللها قرى أسطورية ، وتحكمها عقلية ذكورية صارمة ، وتتفشى فيها تقاليد صحراوية بالية قادمة من أزمنة خلت ، تجبر النساء على العيش فى جلابيب سوداء ، وتفرض عليها الاختفاء من الشارع والمدارس الحديثة ووسائل الاتصال العصرية ، هى نموذج مصاغ فى صورته الأمامية لبلدات عاشت وتعيش فى وطننا العربي داخل الكيانات الداعشية ، بينما تقبع فى خلفيته العديد من المدن المتحضرة ظاهريا ، ومع ذلك مازال العفن مستقرا بالفكر المهيمن عليها ، غير أن “الطاهر بن جلون” أختار الصورة المتطرفة من هذا النموذج ، لينبت فيها زهرة بريئة ، تسرد علينا فى نهاية حياتها ، وبعد أن وصلت لجماعة الأخيار ، قصتها مع بلدة ظالمة .
وهو نفس الموقف الذى يبدأ به العرض المسرحي الحالي ؛ الفتاة وقد كبرت واقفة أمام منضدة رفيعة وعالية أمام الجمهور ، وكأنها تلقي شهاداتها فى ملتقي فكرى عام ، ومقدمة من مقدم الجلسة (صوت خارج المسرح) ، تسترجع ذاكرتها بعضا مما أختاره لها المعدان من حياتها المسرودة فى الرواية ، لكى تحكيه على المسرح ، فالمسرح اختصار وتكثيف وفعل يحدث ، بينما الرواية تأمل وتوقف عند التفاصيل الصغيرة ، وأن طغى الحكي على التجسيد فى العرض بسبب جراءة الموضوع وصعوبة تجسيد الكثير من التفاصيل الروائية على المسرح ، وأن حاول العرض استخدام بعض العلامات لتوحي مع السرد وبعض من التمثيل بما حدث دون جرح لمشاعر المتلقي ، أو لأن المسرح بجمهوره العام لم يمتلك بعد جراءة الرواية ذات الطبيعة الفردية فى القراءة ، فقد اضطرت سيدة وبنتيه لمغادرة المسرح والبطلة تحكى عن أول رجل فى حياتها وتستبدل بفعل المضاجعة قارورة ماء بها الزهرة الموحية بها ، والماء يسقط على الأرض مع صوت خوار رجل .
وعليه ترك الإعداد مهمة السرد والتجسيد معا لنفس الفتاة ، التى جسدتها الممثلة والمشاركة فى الإعداد “هاجر الحامدى” ، لتسرد علينا وقائع من حياتها ، منذ طفولتها وصباها بنتا مضطربة الهوية ، بنتا مُقّنعة بمشيئة أب شعر أنه ناقص الرجولة ، لأن زوجته لم تأت له بغير البنات ، فقرر أن يخرج بها للناس على أنها ذكر ، أسماها “أحمد” ، وألبسها جلبابا طويلا ، وكور شعرها تحت قلنسوة ، وشد على صدرها لفائف متعددة، حينما بدأت تنضج كفتاة ، بل وزوجها من ابنة عمها ، بالتواطؤ مع أخيه حتى لا ينكشف أمره ، وطمعا من الأخ فى وراثة مال شقيقه الأكبر .
ينطلق الحدث الدرامي من لحظة مناداة أبيها له وهو يحتضر، وهى ابنة العشرين ، طالبا منها الغفران فى ليلة الغفران ، ومحلا إياها من الالتزام بوضعها الذكوري ، مما أشعرها بالانعتاق من هويتها الجنسية المضطربة ، وفجر داخلها الرغبة المكبوتة في الفرار من هوية الرجل التى تظهر بها ، وأن تمنح جسدها الأنثوي حق استنشاق نسائم الصباح دون لفائف ، وعقب دفن الأب مباشرة ، سعت الفتاة لأن تصنع هى أسمها وهويتها ووضعها الاجتماعي وارتباطها بالمكان الذي شوه نفسيتها لسنوات طوال .
فى فضاء المسرح المتسع ، وأمام البانوهين اللذين شكلا جدر الأماكن التي ستختار الفتاة أن تحكى ما حدث بها ، وبالتداخل بين الحكى الموضوعى الذى يخاطب عقل الجمهور والتجسيد المسرحى الذى يثير مشاعرنا تجاه هذه الفتاة المغتالة طفولتها وصباها ، تعبر الفتاة بوابات المعرفة ، بداية من موت الأب الذى صار تمثالا بعد أن فقدت علاقتها به ، وقرارها أن تترك البيت والقرية ، فتخرج من العدم بلا أوراق هوية متجهة نحو مجهول لا تعرف كنهه ، فتمر بالقرى والغابات لتغتصب دون مقاومة من رجل آخر ، عابر مجهول ، يتجسد هو الأخر فى صورة تمثال ، فتفتش عن حمام شعبي تستحم فيه ، فتلتقي على بابه بصاحبته المعروفة باسم ب “الجلاسة” (قفز النص المسرحي على حكايات الفتاة فى الرواية عن الفارس الذى اختطفها فور خروجها هاربة من بلدتها وعالمها القديم ، وقادها لمدينة أسطورية هو شيخها ، ويحكمها الأطفال بنظام خاص بهم ، ومن مبادئهم نسيان الماضي ، ثم تركها لتطرد من القرية، ليكون أول ما تتعلمه هو نسيان الماضى ، بينما تعلمت اللذة على يد عابر السبيل) ، تأخذها جلاسة الحمام لتعيش ببيتها ، مع شقيقها الشاب الضرير ، والذى كانت أخته تتمناه وزيرا أو سفيرا ، ثم أكتفت بمنحه وظيفة ولقب قنصل فى مدينة خيالية ببلد وهمى .
تتمازج العاطفة مع اللذة فى علاقتها بالرجل الثالث “القنصل” الضرير ، فيفور الحب ، غير أن “الجلاسة” ترفض هذه العاطفة التى تفقدها شقيقها الذى ربته وصاغت مشاعره واتقدت عاطفة مشبوبة منها تجاهه ، فتفتش فى تاريخ “زهرة” حتى تعثر على العم الطماع ، وتحضر مجسدا للنموذج الذكرى الثالث المرفوض من الفتاة ، فتقوم بطعنه بمقص (بدلا من حرقه كما فى العرض الذى قدم في دورة مهرجان المسرح العربي بتونس هذا العام ، ويبدو أنه كان من الصعب تنفيذ عملية الحرق هذه على المسرح المصرى ربما رفضا من جهاز الحماية المدنية) ، وذلك بدلا من قتله بالمسدس كما جاء فى الرواية ، ويحكم عليها بخمس عشرة سنة سجنا ، وفى السجن راحت تكتب مدافعة عن حق المرأة فى الحرية ، مواجهة نسوة متخلفات قمن بختانها بعملية وحشية ، جسدهن العرض فى صورة امراة ترتدى قناع غراب ، وتقصقص أوراق من زهرتها الأثيرة ، ثم يأتيها العفو لتخرج متجهة نحو البحر ، متمسكة بحريتها كاملة ، وبواجبها فى توضيح حقيقة حكايتها التى بدأتها فى الملتقي / المسرح لمن لم يعشها ولمن عاشها أيضا