فلسفات الجسد في المسرح المعاصر/ يوسف الفتوحي

 ورقة بحثية للمشاركة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي
اليوبيل الفضي 2018

 
 
المحور الأول: الجسد بين الممثل والمتفرج:
تقديم:
بقدر ما يبدو “الجسد” مقولة بديهية، بقدر ما ينفلت من كل تحديد كلما حاولنا قول شيء ما بشأنه. لكن لم يكن للفكر النظري، عبر تاريخه، بدٌّ من محاولة تفكير الجسد وتملكه مفهوميا وبناء “حقيقة” ما حوله؛ بما هو الواقع المادي الأكثر التصاقا بنا، وبما هو بؤرة ومصب اليوتوبيات Utopies التي تشكل نسيج كينونتنا؛ إذ هو الحيز الذي تتقاطع فيه دائرة الإنية بدائرة الغيرية، ومجال المعيش الذاتي بمجال النظرة الموضوعية، ووحدانية الفرد بنسق الجماعة، ومملكة الإنسان بمملكة الحيوان. إننا نوجد بأجسادنا؛ فيها تواريخ آلام وأمجاد النوع والجماعة والفرد محفوظة، ومنها ينبثق المعنى، وبالنسبة إليها تتحدد دلالات المكان، وتبرر حركتها مقولة الزمان؛ ننكره أو نروضه تارة، فينكر إنكارنا له ويتمرد على الأغلال التي نقيده بها، ونحتفي به ونتصالح معه تارة أخرى، فيمنحنا أسراره وشفراته. ولعل المسرح (بالمعنى الشمولي) هو النشاط الإنساني الأقل قدرة على إنكار الجسد، بما هو علته المادية التي تخرجه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. بيد أن كل نشاط إنساني هو بالضرورة تاريخي، أي أنه محدد بشروط تاريخ الحضارة وتاريخ الفكر. ومن ثم لم يكن حضور الجسد في المسرح ولم تكن قيمته ومعناه ثوابت جوهرية عبر تعرجات التاريخ، وإنما عرفت تحولات وقطائع بحسب أنظمة الثقافة وبرادايمات الفكر المتعاقبة. وتحتد المفارقات المؤسسة لإشكاليات الجسد فلسفيا، حين يتعلق الأمر بجسد الممثل في المسرح، وعلاقته بجسد النص من جهة، وبجسد المتفرج من جهة أخرى، وعلاقات القوى المعتملة بين هذه الأجساد.
فما علاقة الجسد المؤدي بالنص الأدبي؟ وما طبيعة العلاقة الجدلية بين جسد الممثل وجسد المتفرج؟ وما موقع جسد المتلقي داخل موازين القوى هذه، من حيث خضوعه السلبي أو فاعليته؟
سنبدأ أولا بتتبع الخطابات النظرية التي أُنْتِجت حول الجسد، وترصُّد القطائع التي حدثت في مفهومه عبر تاريخ الفكر، لأن لها صداها الأكيد في الجسد المسرحي؛ ثم نتأمل علاقة الجسد الأدائي بالنص، ونتفحص جدل العلاقة بين جسد الممثل وجسد المتفرج؛ وأخيرا سنلقي نظرة على حدود فاعلية جسد المتلقي، مركزين على اسمين مؤسسين هما: أنطونان آرتوANTONIN ARTAUD  مؤسس مسرح القسوة، وأوغستو بوال AUGUSTO BOAL مؤسس مسرح المقهور، بوصفهما اللحظتين التأسيسيتين لخطين رئيسين في المسرح المعاصر، بل لقد تم اللقاء والانصهار بينهما في التعبيرات الفنية الأدائية الراهنة.

أولا: تاريخ مقولة الجسد في الخطابات النظرية.

في البدء كان الجسد، وحدةً كليةً لا انقسام فيه بين مادة وروح، حاملا لنداء الطبيعة في الإنسان، متواشجا مع الأجساد الأخرى مشكلا معها جسد العشيرة، ومتصلا بقوى كونية محايثة، متواصلا معها بالعلامات التي يرسمها في الفضاء بلغته الخاصة، كأن يتصل بقوى الخصب عبر الفعل الجنسي وقد ارتفع إلى مقام الترنيمة الدينية، أو أن يحتفي بديونيزيوس[1]   Dionysosفي طقوس خمرية راقصة؛ أو حتى أن يُحنَّط ليعيش الأبدية. إلا أن اليوتوبيات التي ابتكرها الجسد لتعبر عنه أو تحميه وتديمه، انقلبت عليه لتضطهده[2]. وهكذا بدأ التاريخ الإشكالي للجسد، المتعالق جدليا بتاريخ المؤسسات والأفكار والفنون.
1/  أفلاطون أو نفي الجسد:
دشن أفلاطون تاريخ الانقسام الكبير بين عالم المعقولات الكلية (الأفكار أو المثل)، وعالم المحسوسات الجزئية، وما يستتبعه هذا الانقسام من ثنائيات صارمة: الكائن والظاهر، الثابت والمتغير، الأصل والنسخة، الكون والفساد …؛ إذ يشكل العالم الأول مقر الحقيقة المطلقة، والثاني متاهة الظِّلال المضَلِّلَة؛ نرتقي إلى الأول بالعقل/اللوغوس، ونتيه في الثاني حين تأسرنا الحواس في كهف الظن. وتشكل ثنائية الروح والجسد أهم تجلٍّ لهذين المستويين من الوجود؛ فوجود الروح حقيقي وخالد ووجود الجسد زائف وفان. هكذا حدد أفلاطون، في محاورة فيدون[3]، مهمة الفيلسوف في “تحرير الروح من انشغالات الجسد إلى أقصى نقطة ممكنة”؛ فالجسد يشكل، عبر أحاسيسه الخداعة، حائلا دون بلوغ الحقيقة، ولا يعمل إلا على الإساءة إلى الروح. وحده فعل التعقُل يسمح للروح ببلوغ “الرؤية الواضحة للواقع الحقيقي” (مثال العدل، مثال الجمال، مثال الخير…). وبالنتيجة، يشوش الجسد الروح ويمنعها من بلوغ الحقيقة كلما ارتبطت به.
من هنا بدأ تاريخ تدنيس الجسد، من حيث كونه مكمن الشر والضلال والعته، ومن هنا بدأ تاريخ الإنكار الكبير للجسد الذي سيؤثر على الثقافة الغربية، ومن خلال المسيحية سيمتد إلى الثقافات الأخرى، منذ ذلك الحين وإلى الآن.
2-   الجسد ـــ الآلة بين الطبيعة والمجتمع.
–  ديكارت أو الجسد بوصفه آلة طبيعية:
من النهضة إلى الأنوار، ومع ولادة علم التشريح وظهور النموذج الميكانيكي، سيهجر فكر المنظرين شيئا فشيئا التصور المسيحي المدنِّس للجسد لكي ينحو صوب عقلنته.
تعرض الجسد، في الديانة المسيحية المتأثرة بالأفلاطونية وبالأفلوطونية، للإقصاء العنيف، من حيث كونه موضوعا للغواية، ولذلك بقيت التشريحات العلمية الإغريقية الأولى محظورة بشكل صارم من قبل الكنيسة على امتداد العصور الوسطى، فلم يظهر التشريح من جديد إلا خلال عصر النهضة، بشكل سري في إيطاليا وفرنسا[4]. وقد اهتم به الرسامون بقوة، بنفس القدر الذي اهتم به الأطباء والباحثون. ولكن بامتداده تدريجيا إلى أوربا برمتها، نزع التشريح عن الجسد هالة السر الذي لفته بها المسيحية، لكي يضعه بين يدي الطب الذي سيتكلف بإنتاج معارف موضوعية بشأنه[5].
و بانبناء التشريح على نموذج الجسد ــــ الجثة، وبمنحه الامتياز لنظرة تحليلية، حفز حدوث قطيعة أساسية في إدراك الجسد. على هذا النحو تبلور في القرن السابع عشر خطاب حول الجسد موسوم بنموذج الآلة التفسيرية[6].
قال ديكارت: “إنني لا أتعرف على أي اختلاف بين الآلات التي يصنعها الصنَّاع وبين مختلف الأجساد التي ركبتها الطبيعة وحدها، عدا كون مفاعيل الآلات لا تتوقف إلا على توليف منظم لبعض الأنابيب والنوابض أو أدوات أخرى، والتي هي دائما كبيرة الحجم بحيث تكون هيئاتها وحركاتها بادية للعين، مادام لا بد لها من بعض التناسب مع أيادي أولئك الذين صنعوها، في حين أن الأنابيب والنوابض التي تسبب مفاعيل الأجساد الطبيعية تكون عادة بالغة في الصغر بحيث يستحيل إدراكها بحواسنا[7].”
من هنا تكون حركة الجسد، بالنسبة لديكارت، نتيجة لتركيب ممفصل لأعضائه، أي أنه طابق الجسد بالنظام الآلي للساعة متأثرا بأشكال التقنية في عصره (الساعة، طاحونة الماء، الأرغن…). وقد نظر لايبنز أيضا إلى الجسد بوصفه نوعا من الآلة الإلهية أو الكيان الآلي الطبيعي الذي يتجاوز على نحو لامتناه جميع الكيانات الآلية المصنوعة. وقد كان لايبنز أول من استعمل كلمة “نظام عضوي” organisme لتسمية هذه الآلة العضوية القابلة للتحلل، والمتضافرة في كليتها والمكتفية ذاتيا. وتدل  organon في الاشتقاق اليوناني على الأداة. ومن هنا، غدا الجسد المتصور على هذا النحو معقلنا تماما.
–  علم الاجتماع أو الجسد بوصفه آلة اجتماعية:
نشأت العلوم الإنسانية مقتدية بالنموذج العلمي لعلم الطبيعة الحديث، ومن ثم انتقلت إليها النظرة “الأورغانونية” إلى الجسد. أكد مارسيل موس، في مقاله الشهير تقنيات الجسد  المؤرخ في 1936، على أن “الجسد هو الأداة (الموضوع التقني) الأولى والأكثر طبيعية لدى الإنسان”[8]. فكل جماعة بشرية، وفق موس، تبلور تصرفات حركية خاصة بها تسمح لها بالتكيف مع وسطها. بهذا المعنى تكون تقنيات الجسد ببساطة هي “الطرق التي يعرف بها البشر استخدام أجسادهم حسب تقاليد كل مجتمع. انطلاقا من هذا المنظور تكون أوضاعنا الجسدية الأكثر أساسية، تلك التي تبدو لنا أكثر “طبيعية” (المشي، الأكل، النوم، الاغتسال …)، في الواقع، نتاج “استعداد idiosyncrasie اجتماعي”؛ ويبرز مصطلح الآبيتوس habitus المستخدم من طرف موس، والذي استعاده بيير بورديو فيما بعد، هذه الطبيعة الاجتماعية للجسد، أي الكيفية التي بها تبنينت هذه الأوضاع والحركات، وكُيفت من طرف المجتمع، وأصبحت، بالتالي، اشتغالات آلية automatisme، أي تقنيات.
هكذا، وبانتخاب وتفضيل بعض الحركات، وبعض الأوضاع الجسدية على أخرى، يصنع المجتمع جسد الأفراد الذين يكونونه ويسجل فيهم احتياطي محدد من الممكنات الحركية. لن يعود هناك، إذن، جسد طبيعي ولا حركة كونية: “سنجد أنفسنا في كل مكان أمام تركيب فيزيو-سيكو-سوسيولوجي لسلسلات أفعال. تكون هذه الأفعال اعتيادية إلى هذا الحد أو ذاك، وقديمة إلى هذا الحد أو ذاك في حياة الفرد وفي تاريخ المجتمع”[9]. ومن ثم، لا يمكن التفكير في الجسد إلا في علاقة بوسط اجتماعي ما، وانطلاقا من البصمة التي يطبعها ذلك الوسط على جسد الفرد.
3-فينومينولوجيا ميرلوبونتي: الجسد والعالم “لحم” مشترك.
بعد أن كان الجسد موضوعا للغواية مع الأفلاطونية وامتدادها المسيحي، وبعد أن كان موضوعا للنظرة التشريحية المشيِّئة في العلم الحديث والفلسفة المرتبطة به، وبخلاف كونه موضوعا للبنينة الاجتماعية في العلوم الإنسانية، غدا الجسد مع ميرلوبونتي جسدية Corporéité (جسدا خاصا)، وبؤرة للمعنى.
– الجسد شرط إدراك العالم:
إن وحدة وتماسك الجسد (الخطاطة الجسدية) سابقان على أجزائه، وحين تُسقط الذات هذه الكلية Holisme على العالم تخلق شرط إمكان توحيد الواقع المعيش، فالبنية الجسدية (الحسية، الحسية-الحركة، المكانية-الزمانية) تنظم العالم المعيش بكيفية متماسكة عبر تحميله ب”بمحمولات أنثربولوجية” (إنسانية). فبإسقاط الخطاطة التي يحملها الجسد في داخله على العالم الخارجي، يزرع الجسد في العالم طبقة أولية وأساسية من المعنى هي شرط إمكان كل الطبقات الأخرى. لكن لا يتعلق الأمر بإسقاط تأملي وسلبي، وإنما يتم تعقل العالم وفق قدرة الجسد على الفعل في الموضوعات الموجودة فيه بوصفه حقلا لفعل الجسد. “إن الجسد وسيلتنا العامة ليكون لنا عالم”، وهو شرط معقولية الواقع.
– الجسد شرط العيش في العالم:
إن ما يجعل قدرة الفرد على السكن في العالم ممكنة هي قدرته على الإقامة في الجسد. إذ تُنقل كيفية السكن في الجسد إلى الخارج عبر نسق من الملاءَمات، على نحو يسمح للذات بالسكن في كل أوساط العالم. يقول ميرلوبونتي: “[ الجسد] قدرة عامة على الإقامة في كل أوساط العالم، وهو مفتاح كل التحويلات، وكل الموافقات التي تحتفظ به مستمرا […]، إنه النسيج المشترك لكل الموضوعات (الأشياء)، […] إنه الأداة العامة “لفهمي”، على الأقل بالنسبة للعالم المدرك”. هكذا يجعل الجسد عالم البيئة المباشرة مألوفا. ويعبر مربولوبونتي عن حقيقة إدماج الجسد للذات داخل الواقع عبر استعارة القلب: فعلاقة الجسد بالعالم تشبه علاقة القلب بالجسد. ولكن ليس احتواء الفرد داخل الواقع احتواءً مكانيا، إذ لا تتوقف علاقة الذات بالفضاء، بشكل أساسي، على معالم مكانية موضوعية، وإنما على ثقته في السكن فيه والفعل داخله، وإيمانه الأصلي بقدرته على الإسقاط والفعل فيه (مثال المقص والإبرة) ، بوصفه امتدادا له ، جاعلا من الموضوعات أعضاء-تقريبا Quasi-organes.
إن هذه القدرة على إقامة الذات داخل الواقعي، عبر قدرة الجسد على الفعل، هي خلفية كل كيفيات الوجود في العالم.
–  التواشج بين الجسد والعالم (وجود-في-العالم):
يتعالق الجسد بالعالم ـــــ مفهوما في معنى مطلق خارج أي تحديد مسبق ــــ إلى حد يمكن القول بأنْ لا وجود للعالم إلا عبر اللقاء المتفرد الذي يقوم به كل واحد معه، ويتعلق الأمر هنا بمسألة الإدراك من حيث هو معرفة-إحساس، وهي المسألة المركزية التي جعلت ميرلوبونتي ينفصل عن تقليد فلسفي كامل كان يفصل بين الجسد والروح، “فالجسد من النفس، مكانها الأصلي، وأصل كل مكان آخر موجود”[10]. كما ينفصل ميرلوبونتي في الآن نفسه عن النظرة العلمية، التي تتموقع خارج العالم، بسبب إرادتها المُمَوْضِعة، إذ ينطلق الفيلسوف من “الحضور الإدراكي للعالم”، ومن “تجربتنا في الإقامة داخل العالم بجسدنا والتي هي أكثر قِدماً من كل رأي”[11].
يتشابك كل جسد مع العالم فيما يسميه الفيلسوف “لحما”[12]. فالجسد هو البنية الأصلية التي تجعل تجربة العالم ممكنة.
4-  ميشال فوكو وتاريخ الأجساد.
ذهب فوكو في البداية مذهب الفينومينولوجيا بقوله: “يرتبط جسدي بكل “خارجات/ هناكات” العالم. إنه، في الحقيقة، هناك خارج العالم بقدر ما هو داخله؛ لأن الأشياء توجد حوله، وفي العلاقة معه، وبالنسبة إلى سيادته يوجد: فوق وتحت، يمين ويسار، أمام وخلف، قرب وبعد… يوجد الجسد في قلب العالم، إنه النواة اليوتوبية الصغيرة التي أحلم انطلاقا منها، وأتكلم وأتخيل وأدرك الأشياء في مكانها”[13].
لكن فوكو وجه نقده لهذه النظرة الفينومينولوجيا فيما بعد. فإذا كانت الأخيرة على صواب في رد المعرفة الموضوعية بالجسد (خاصة المعرفة التي طورها الطب) إلى نسق من الشروط التي لا تمتح من مجرد سلطة الوقائع “الموضوعية”، فإنها واهمة بدورها ـــ في نظر فوكو ــــ حين ترد هذه الشروط إلى تجربة لاتاريخية، وحين تزعم استنباطها من الكيفية التي أعطي لي بها جسدي بشكل أزلي، ويعطيني الجسد العالم الخارجي كوجهه المقابل، جاعلا من هذا الأخير نسقا منظما، مُحيَّزا ودالاًّ.
ينبغي على العكس من ذلك النظر إلى فهم الطب الحديث ل”لجسد”، وإلى فهم الفينومينولوجيا له بوصفه “جسدي الخاص”، باعتبارهما وجهين لنفس التحول التاريخي، الذي دشن التطور المزدوج لجسد معطى للنظرة وجسد متحدث عن نفسه، والذي استقاهما معا من تحديدات بنيات خارجية: أشكال اجتماعية وشفرات إدراك، وبنيات خطاب، أي من لقاء بين ما سماه فوكو بالإستيمي (النظام المعرفي) ونظام السلطة (في معناها المحايث والميكروفيزيائي).
إن ما هو أساسي في كل سلطة، بالنسبة لفوكو، أن نقطة تطبيقها الدائمة هي الجسد[14]. وإذا كانت السلطة فيزيقية على هذا النحو، فذلك لا يعني أنها عنيفة ومنفلتة من عقالها بالضرورة، وإنما يعني أنها تخضع الاستعدادات الجسدية لنوع من ميكروفيزياء الأجساد[15].
يتعلق الأمر في أركيولوجيا فوكو، إذن، “بتاريخ سياسي للأجساد”. وهنا يميز فوكو، في علاقة الجسد بالسلطة، بين نظام “السيادة” التقليدي ونظام الانضباط- الإقصاء الحديث. ففي النظام الأول يبرز فوكو أن البربرية الظاهرة للعقوبات تخضع لاقتصاد محدد، ينظم اشتغالها ويبرز طقوسيتها؛ وترتبط بمنطق السلطة الملكية نفسه: “لا يغطي العقاب الجنائي أي عقوبة جسدية كيفما كانت، وإنما هو نتاج تفاضلي للمعاناة، وطقس منظم من أجل وسم الضحايا، وتظاهرة للسلطة التي تعاقب”[16]. أما بخصوص نظام الانضباط الحديث، فقد تناول فوكو، في كتاب المراقبة والعقاب، الجسد الملاحَظ بشكل أساسي ، أي الجسد المعرض لتوصيف علمي، ولإعادة تنظيم غايتها الدفع بالفائدة والطاعة إلى أقصى نقطة وأكمل أداء. فكما تعلق الأمر في الطب بتشريح عضوي للجسد يتعلق الأمر هنا بتشريح سياسي له، وذلك عبر النموذج الهندسي للبانوبتيكوم (السجن، المعمل، المعزل العقلي، المدرسة)، أي عبر تكنولوجيا ضبط الجسد وحجزه، على سبيل المثال، إذ غدا “الفرد […] واقعا مصنوعا بواسطة هذه التكنولوجيا الخاصة بالسلطة التي نسميها انضباطا”[17]. فاللحظة التاريخية لأنظمة الانضباط هي اللحظة التي ولد فيها فن الجسد البشري الذي لا يستهدف فقط نمو مهاراته، ولا إثقال خضوعه، وإنما تكوين علاقة – ووفق نفس الإوالية- تجعله أكثر طاعة بقدر ما تجعله أكثر فائدة، والعكس صحيح[18].
بهذا يكون فوكو قد أضفى طابعا تاريخيا على تجربة الجسد والخطابات المنتجة حوله.
5-  جيل دولوز و”الجسد-بدون- أعضاء”. 
في سياق نقدهما لنظرية التحليل النفسي، وابتكارهما لمفهوم جديد للرغبة ومن ثمة للجسد، في كتابيهما ضد-أوديب [19]L’Anti-Oedipe وألف سطح Mille plateaux[20]، استعار جيل دلوز وفيليكس غواتاري مفهوم “الجسد-بدون –أعضاء” من الشاعر والمسرحي أونطونان أرتو، الذي عارض الجسد “التشريحي” المموضع والمبنين اجتماعيا، والذي هو بمثابة “جسد ـــ ضريح يسجن البشر، بضرورة “إرقاص تشريحية الجسد”، وبالانتصار إلى الجسد-بدون-أعضاء، والذي هو جسد-في- الفعل، إذ يشارك في إعادة خلق الإنسان، أو ما يسميه أرتو بالإنسان-غير المخلوق L’Homme in-créé.
لإدراك دلالة هذا المفهوم ينبغي أولا فهم معنى مفهوم الرغبة عند دولوز. إذ ليست الأخيرة “خشبة مسرح”  كما يتصورها التحليل النفسي، وإنما هي “مصنع” ينتج بلا انقطاع ويخلق توليفات آلية للأشياء (حالة أشياء، منطوقات، خروج من مجال ترابي، إعادة توطين في مجال ترابي)، آلات راغبة. إذ ليس في الطبيعة ولا في الجسد غير توليفات آلية، تعدد للآلات الراغبة، ولكنها أيضا آلة-عضو.
من هنا يكون الجسد-بدون-أعضاء منتوجا للرغبة ومتعارضا مع النظام العضوي. فهو نتاج لمعاناة الجسد من عدم امتلاك تنظيم آخر (غير التنظيم العضوي)، وبذلك فهو جسد بغير صورة، ضد-إنتاج، لأنه عبر الجسد وعبر الأعضاء تمر الرغبة وليس عبر النظام العضوي. فهو غير قابل للتفادي لأنه يخترقنا بدون توقف، ونلجه دون توقف. لكنه ليس استيهاما على النمط التحليلي النفسي، وإنما هو برنامج-تجريب.
يقول دولوز في بيكون Bacon: “يتحدد الجسد- دون- أعضاء، إذن، بواسطة عضو غير محدد، في حين يتحدد النظام العضوي بأعضاء محددة”، “فعوض امتلاكي لفم ومخرج، مهددان معا بالتعطل، لماذا لا تكون لي فتحة واحدة متعددة الوظائف للتغذية والتغوط؟ يمكن أن نسد الفم والأنف، وأن نملأ المعدة، وأن نفتح ثقبا للتهوية مباشرة في الرئة؛ وهو الأمر الذي كان يمكن أن يكون في الأصل”[21].
يشبه الجسد-بدون-أعضاء بيضة، إذ تتنقل داخله وفوقه كثافات، الكثافات التي ينتجها ويوزعها داخل فضاء كثيف، وغير ممتد Inétendu (بالمعنى المكاني).
6- استنتاج:
بعد أن فقد الجسد وحدته وجموحه البدائيين، دخل في أوديسا مأساوية، بدأت بتجريحه وتجريده من كينونته الخاصة ومنحها لصورة ممثلنة عنه سميت روحا، وبعد التجريح خضع الجسد للتشريح الطبيعي والاجتماعي والسياسي محروما من كل ذاتية، إلى أن خلق العالم المعاصر شروط حنين الجسد إلى كينونته وحريته ورغبته في الانتقام لنفسه. وهذا ما عبر عنه الفكر المعاصر المتصالح مع الجسد كماهية أولى للإنسان، هي أصل كل الماهيات الأخرى، كما عبر عنه الفن المعاصر بشكل أكثر قوة، كما سنرى في   السطور القادمة.
ثانيا: الجسد في المسرح.
يشكل الفن، وخصوصا المسرح، جزءا جوهريا من الثقافة-الحضارة، ولذلك تسري عليه تاريخيتها، وتحكمه إيواليات اشتغال الإبستيمي السائد في كل مرحلة من التاريخ الثقافي-الحضاري. لذلك تظهر مفاعيل هذه الإيواليات في النظريات والممارسات الفنية، ويتردد صدى مقولة الجسد السائدة داخل كل إبستيمي في أرجاء المسرح، وينعكس معناها على الجسد المسرحي ذاته.
1- النص والجسد الأدائي:
– تحولات الجسد المسرحي: من النص إلى الأداء.
كانت السيادة في العصر الكلاسيكي للوغوس، بوصفه النموذج الإرشادي (البردايم)، الذي يَفْضُل فيه المعقولُ المحسوسَ، وترتفع فيه الروح على الجسد. وبما أن الكلمة هي التجلي الدنيوي للروح، فقد كانت الأفضلية والأسبقية في المسرح للنص على العرض. إذ يمكن للعمل التراجيدي، حسب أرسطو، أن يتحقق في القراءة وحدها، ويمكن أن يفهم ويعاش بواسطة النص وحده، بوصفه عملا أدبيا. ومن هنا هيمن النص وسبق في وجوده العرض المسرحي الذي يمكن أن يحينه ركحيا بمقتضى الجواز لا بمقتضى الضرورة. لذلك كان حضور الجسد ثانويا في هذا المسرح، إذ كمنت مادية النص في اللغة الصائتة بالمقام الأول. فالمسرح كان بالتعريف “أداء خطابيا منتجا من قبل ذات ناطقة”[22]. ولم تكن حتى تعابير الوجه مهمة في الأداء المسرحي، إذ كان الممثل يلبس في الغالب قناعا، كما كان للجوقة الراوية أو الملقية لخطابات العبرة والوعض أهمية كبيرة. وكان قد نظر إلى النص – شأن أي عمل فني- في إطار هذه الشعرية الكلاسيكية، بوصفه محاكاة للواقع، أكان واقعا مثاليا (المثل الأخلاقية) أو واقعا طبيعيا.
فيما بعد، ومنذ العصر الحديث، تقوى حضور الجسد في المسرح فأصبح صنو النص، بل غدا كيفية أساسية من كيفيات وجوده إلى جانب كونه جنسا أدبيا، فهو الذي “يجعل الكلمات مرئية” بتحويلها إلى عناصر محسوسة: صوت وحركة. فالجسد آلة الفكر وقائله. يقول دريدا في هذا الصدد: “تحمل الشفهية أصالة خاصة، لا يمكن أن تختزل الكلام إلى الكتابة. هذا الكلام لحم، مما يعطيه صدى خاص، فهو مادة، جرس، ارتجاف، وعاطفة”[23]. وفي نفس الآن أصبح الجسد موضوع حديث النص: الجسد المتألم، الجسد الظافر، الجسد الفاني في العشق  (روميو وجولييت مثلا)… وإذا كان الفن الحديث قد تحرر عموما من المحاكاة بغدوه فنا تعبيريا، فقد بقي البناء الدرامي يحدث على مستوى النص بالدرجة الأولى؛ وبقي النص معتبرا عملا أدبيا، نصا أول يمكن أن يكتب بالتراكب معه نص ثان هو النص الإخراجي-السينوغرافي.
لكن، ومنذ منتصف القرن العشرين، أخذت تتشكل شيئا فشيئا ملامح مسرح “ما بعد-درامي[24]، حيث النص مجرد جزء من العرض، وحيث أصبح ما يعطي للنص روحه هو فعل الممثل-الأدائي. بل وصل الأمر إلى منح الجسد حضورا مكثفا، مما أعطاه قيمة قول دون كلام، فغدا هو نفسه علامة. يتعلق الأمر بعودة منتقمة للجسد، خارقة للأشكال والشفرات الفنية السائدة، المرتبطة في الغالب بقيم المجتمع والقهر الممارس على الفرد، بل مبلورة لنظرات جديدة للعالم.
لكن بقدر ما شكل هذا الحضور الذي أصبح مطلقا للجسد، باعتباره بؤرة للمعنى، في جميع أشكال التعبير الفني تقريبا، نتاجا لنظام معرفي جديد ولاقتصاد سياسي للجسد (مجتمع الانضباط وبعده المجتمع الاستهلاكي) أو بالأحرى تمردا عليه، بقدر ما ساهمت فيه بشكل مباشر أو غير مباشر فلسفات الجسد المعاصرة وخصوصا الفينومينولوجيا. ولكننا نرى بأن التأثير الأكبر جاء من داخل المسرح ذاته على يد أرتو وفلسفته في المسرح وفي الجسد.
–  أرتو مؤسسا للجسد الأدائي:
قبل أن يكون آرتو مفكر الجسد ومتمرده، فقد كان هو نفسه جسدا معذبا من قبل واقعين: الواقع النفسي والواقع الموضوعي. وقد قذف إلى واقع العذاب المزدوج هذا رغما عنه، ب”قدر إلهي”، أو بواسطة الولادة. من هنا كان من الضروري –بالنسبة لآرتو المفكر/الفنان- صياغة جسده الخاص، جسد غير مولود in-né، على أنقاض الجسد المولود inné، متحللا من كل ولادة ذات طابع جنسي مشاركة في مسيرة العالم الموبوء؛ صياغة جسد جديد، ليكون حامله الخاص والوحيد. وهنا لا تكون سيرة آرتو الخاصة مجرد سيرة ذاتية، وإنما هي صورة محنة الإنسانية ومصيرها مدفوعة إلى تخومها.
عونه في مهمة انبعاث الكينونة Etre المكبوتة من قبل اللا- كينونة هو المسرح، الذي يتوسل بأسلحة الموت ذاتها لكي يحول الحياة، والذي سيسميه مسرح القسوة، مستلهما العديد من جوانبه من مسرح جزيرة بالي ومن تجربة الكينونة التي يعيشها هنود طاراهوماراس Tarahumaras بالمكسيك الذين عايشهم آرتو سنة 1936 (قبل أن يتوجه إلى ايرلندا ليعايش السلت، ويطرد من هناك مباشرة إلى معزل الأمراض العقلية)  . وهو نقيض مسرح البولفار (أي مسرح التسلية التجاري السائد أمثلة) ولا حتى مسرح شكسبير، بما هو جسد متحجر في فضاء آفل وخاضع للنص، أي لكلمات مفرغة ومحرومة من معناها الأصيل، وموجهة إلى مخاطبين يشعرون في دواخلهم بزيفها، يقول آرتو: “لا ينتمي الحوار – بما هو شيء مكتوب وملفوظ- إلى الركح، وإنما ينتمي إلى الكتاب”[25]. إنه فاقد لكل رابط بالواقع وبالحلم. أما المسرح الذي يبشر به آرتو فهو المسرح الحي الذي يستثمر ملء فضاء الركح، ويعطي الولادة في هذا المكان الملموس للظهور الميتافيزيقي للجسد المستهام أو بالأحرى لمشروع الجسد اللامخلوق in-créé، بما هو المضاعف الكامل للواقع.
يتعلق الأمر بالنسبة لآرتو بتجاوز الحدود العادية للفن والكلام، وببسط كامل أبعاد الجسد داخل الفضاء بتملك جزء منه وتجسيده، بهدف تحقيق نوع من الخلق التام، حيث يستعيد الإنسان مكانته بين الأحلام والأحداث. وبهذا أراد آرتو أن يخرط الجسد الخاص في الحلم وفي الواقع في نفس، وفي مصير المبدع-الخالق، الذي يريد أن يعارض القسوة المجانية للفضاء الحيوي بالعنف المطهر للمسرح الذي ابتكره. وليست القسوة إراقة للدم، وإنما هي الخضوع لضرورة العودة إلى الحياة الحقيقية، بطرد ظلمات الموت التي أخذت مكانها. فالمسرح كيفية لممارسة الحياة، الكيفية الأكثر تشخيصا ممكنا، بمقاربتها ميتافيزيقيا عبر اللغة التي ترجع إليها قوتها التعويذية، والتي يمكن أيضا مناجاتها باستخراج الدراما الأساسية للوجود البشري. فالمسرح هو مضاعف هذه الدراما لأنه يستعيدها ويضفي عليها الكمال[26].
توقف الجسد مع آرتو عن أن يكون مقبرة للروح، وغدا جسدا حيا، متجسدا في كثرة من الأشكال المجتمعة في العرض المسرحي، والتي لا تكون جامدة أبدا، وإنما تكون في تطور دائم وحركة مستمرة، قادرة على تثوير الماهية القابلة للفساد بتحويلها إلى شعر خالد، مسرح يتخذ جسدا لكي يغادر الإنسان جسده المريض. وعبر اللغة يتوصل مسرح آرتو إلى التجسد، أي إلى ارتداء شكل مادي لكي يتجلى كجسد حي داخل فضاءه الخاص. وبطبيعة الحال، لا يتعلق الأمر باللغة اللفظية التي تفصل اللسان عن لحمه، وإنما بلغة الحركات والأصوات، النار والصرخات، لغة تقطع مع تقمصه شكلا غير فعال. إنه جسد جديد بكيفية مستحيلة على التصور.
– استعارة الطاعون المزدوجة: جسد الممثل وجسد المتفرج في مسرح آرتو:
يمكن للمسرح الذي ابتكره آرتو أن يساهم في الانتهاء من انقسام الإنسان، وإعادة خلق الفضاء الخارجي عن الجسد، أي فضاء الواقع. كيف ذلك؟
باستدعاء الطاعون: جسد غريب سيكون مضاعف الإنسان وفضاءه الحيوي المصاب بالطاعون، عدوهما المتواطئ، الذي سيطهرهما بجعلهما قابلين للسكن خاليين من الفساد. سيغدو الطاعون الاسم الآخر لمسرح القسوة الذي ليست له غاية أخرى غير خلق (عبر إعادة خلق re-créer) ل”نوع من التعادل والتناغم الشاعري بين الإنسان والطبيعة والأشياء”، هذا التناغم المفقود منذ أن أصبحت ما ما يسمى بالثقافة الغربية تسير الحياة.
اتخذت استعارة الطاعون صورة مزدوجة: فهو الشر المقدس المنتصب كخير والذي ينخر الواقع البشري، وهو أيضا الشر المنقلب على نفسه، محققا المصالحة مع الكينونة، وهو الجسد المسرحي. من هنا تكون مهمة هذا الجسد-الطاعون قتل الموت بإعادة تأكيد الحياة، فبحذف الطاعون لحياة الجسد المريض لا يفعل إلا اقتلاع الشر العامل داخل هذا الجسد. يتعلق الأمر بفقدان الحياة من أجل ربح الكينونة.
إن فعل المسرح-الوباء قادر على إصابة الإنسان، بتحريره من قيد المواضعات الاجتماعية، بأن يحرر داخله شخصيات مزدوجة نائمة. وهو قادر على إحداث تغييرات غامضة للذهن والجسد عبر الضغط على الروح والحركات بدفعهما إلى الأقصى، عبر إعادة صنع الصلة بين ما يوجد وما لا يوجد. “فإذا كان المسرح مثيل الطاعون، فليس ذلك فقط لأنه يمارس فعله على جموع غفيرة من الناس، ويزعزعهم كما يفعل الطاعون، وإنما يوجد في المسرح كما في الطاعون شيء ما، من الظفر والانتقام في نفس الآن[27].
يتعلق الأمر ب”مسرحية حقيقية، تهز راحة الحواس، وتحرر اللاوعي المضغوط، وتدفع إلى نوع من الثورة الافتراضية […] تفرض على الجموع موقفا بطوليا وصعبا[28]“، أي تعلم التحرر
من جلادين متضامنين، هما إدمان المؤسسات والعقل. وتشكل هذه المسرحية أزمة شبيهة بأزمة الطاعون، فهي إما تنتهي بالموت أو بالشفاء. يقول آرتو: “[…] بدفعه الناس إلى رؤية أنفسهم كما هم، يسقط القناع، يكشف الكذب والجبن والوضاعة والنفاق، يرج الجمود الخانق للمادة التي هيمنت حتى على معطيات الحواس الأكثر وضوحا؛ ويكشف للجموع قوتهم المعتمة، قوتهم الخبيئة، ويدعوهم إلى اتخاذ موقف بطولي وسام في مواجهة المصير، موقف لم يكن لها أن تتخذه أبدا لولا هذا[29].”
يحول مسرح آرتو الإنسان من موضوع إلى ذات لوجوده الخاص. ويتم هذا التحول عبر تماهي المتفرج مع الممثل، مع جسده الذي يولِّد تطوره على الركح التطور الثوري العنيف للمتفرج مأخوذا داخل دوامة قوى عليا. ورغم أن التجربة غير ذات فائدة مباشرة بالنسبة للمتفرج، إلا أن صداها يسقط بعديا على وعيه.
يتعلق الأمر بتثوير الفضاء الحيوي (الواقع)، بإرجاع المسرح إلى رسالته الحقيقية، عبر استدعاء (على الركح) قوى خالصة وطبيعية، تحول مجرد اللعب، أي المسرح، إلى “مغامرة سيادية”. ويبدو أن الفضاء الداخلي للجسد، أي الروح والوعي والنفس، لا فائدة له خارج الحركة الجسدية، بواسطة الجسد وحول الجسد.
“[…] تكمن أصالة هكذا محاولة في أنها لا تهم فقط الجمهور العالم، وإنما عامة الناس، بدعوتهم إلى مغامرة سيادية تحرك أقصى طبقات المشاعر الإنسانية والجمعية الممكنة. كل أساطير الماضي الأولى تخفي قوى خالصة. ولم يتم اختراعها إلا لإدامة هذه القوى وإظهارها. وخارج شوائبها المدرسية والأدبية، أراد آرتو أن يحاول عبر تراجيديا أسطورية أن يقول القوى الطبيعية على خشبة المسرح، ومن ثمة، أن يرجع المسرح إلى رسالته الحقيقية[30]“.
يحول المسرح والشعر لاكينونة le n’etre الجسد المصاب بالطاعون إلى ولادة en naitre، عبر القسوة المخلصة للجسد –الطاعون، الذي تشكل صرامته الكونية، في تمفصلها مع شهوة الحياة، قوتان غير قابلتين للإيقاف، دونهما لا يمكن ممارسة الحياة. إن ما يتم ربحه جسديا شيء جيد، بالنسبة لمن يلعب، كما بالنسبة لمن يأتي لمشاهدة اللعب. يقول آرتو: “إننا لا نلعب، إننا نفعل”. إن “المسرح شيء أكثر من المسرح”، إنه فضاء لإعادة الخلق الذاتي، حيث آخرون مدعوون بوصفهم فاعلين مستقبليين للكينونة، وهم مدعوون أولا كمتفرجين، ثم بعد ذلك كخالقين لأنفسهم وواقعهم، ف”الواقع ليس مكتملا بعد”، و”غير مبني بعد”، و”ببنائه تعود صحة خالدة”[31]. ولكي تتحقق هذه العودة، ينبغي للإنسان أن يتعلم كيف “يرقص بالخلف” أو أن يتعلم من جديد كيف يرقص وجها[32].
يمكن القول أن طموح آرتو الأقصى كان خلق جسد كوني، جواه تتوحد الروح باللحم من جديد، ويعودان إلى الطبيعة وإلى كل الكائنات، معيدين ملء سكنى الكون برمته. ولبلوغ هذا الجسد، كان ينبغي تحطيم شبيهه الفيزيقي الزائف، وكذلك نَفَسَه الزائف المسمى عن سوء بالروح، والتي هي في الحقيقة مبدأ الحياة والفكر وقد تم تحريفه عن دوره الأول، أي جعل إنائه اللحمي (الجسد) حيا وذكيا.
-استنتاج:
إذا كان آرتو قد رفض مسرح “البولفار” وشكسبير جملة وتفصيلا، ومن ورائهما المسرح التقليدي برمته، من حيث اعتماده على النص، وتبخيسه للجسد بحبسه في كليشيهات متحجرة، وتنويمه للمتفرج بتعطيل ملكاته الفكرية والجسدية، فإن هذا الرفض يرجع بالدرجة الأولى إلى كونه مسرحا منفصلا عن الحياة، ولا يطرح المشكلات الحقيقية، من قبيل مساءلة النظام الاجتماعي والأخلاقي. لذلك ينبغي تدميره، فهو لا ينشغل إلا “بالإنسان المؤقت، العابر والمادي […]، الإنسان- آكل الجيف”.
وإذا كانت الشعرية الكلاسيكية تعتبر الفن محاكاة للواقع، فشعرية أرتو تعتبر المسرح محاكاة قوى الحياة الخالصة، التي تحتفظ بعنفوان الكينونة الحقيقية، ومن ثم فهي محاكاة ثائرة وتدميرية للواقع القائم، الذي هو واقع-جثة، وليست محاكاة مدمجة للمتفرج في الواقع.
وإذا كانت شعرية أرسطو، التي ما زالت مبادئها الدرامية مهيمنة على المسرح، قد شرَّعت لتماهي المتفرج مع إيتوس الممثل(الشخصية الأخلاقية)، بغرض تطهيره من “العيوب” الأخلاقية المعادية للنظام الاجتماعي والأخلاقي السائد (سنفصل القول فيها في السطور القادمة)؛ فشعرية آرتو تصبو إلى تماه للمتفرج بجسد الممثل، من أجل إعادة خلق جسده الخاص، بانتشاله من الواقع المريض وغرسه في الحياة، في تناغم مع موسيقى الكون، ومن ثم تكون غايتها الثورة على الثقافة المفصولة عن الحياة، بالذهاب في أعماق الجسد الخاص إلى نقطة الكونية.
من كل هذا نستشف أن أعمال آرتو وتجربته شكلت التأسيس النظري والفني والحياتي لازدهار الجسد الأدائي (Le corps performatif) في المسرح المعاصر، بل في كل الأشكال الفنية تقريبا، خصوصا وأن الحدود تنهدم أكثر فأكثر بين الفنون والأجناس في الفن المعاصر(مثلا: Body-painting). فما نشاهده اليوم من being-doing (الوجود-الفعل)، حسب تعبير Richard Schechner، أي العرض الحضوري للجسد وليس العرض التمثلي للنص، حيث جسد الفنان مرئي في واقعيته[33]. وما نلمسه من تغير لعلاقة العمل الفني بالذات، إذ لم يعد العمل الفني تعبيرا عن انطباع الذات فحسب، ومستقلا ذاتيا في الآن نفسه، وإنما أصبح هو الذات-الجسد نفسها وهي تعيد تأسيس علاقتها بالفضاء، بل تغيرت علاقة العمل الفني بالواقع فالغيت المسافة بينهما، إذ غدا العمل هو الواقع ذاته وقد خلقت فيه أو حوله شروط العمل Show-reality، وما نشاهده من توخي الحد الأدنى في مكونات العمل الفني Minimalisme  … وكل أشكال خرق شفرات الفن الحديث والكلاسيكي، وخصوصا تلك التي تكثف حضور الجسد في العمل الفني؛ كل هذا نجد أساسه الفلسفي والفني في شعرية آرتو، كما عرضناها أعلاه.
 

2-           جسد المتلقي.

أ‌-      تاريخية العلاقة بين جسد الممثل وجسد المتفرج:

–       المسرح الأصلي:

مثلما تحدث آرتو عن العودة إلى المنابع الأولى، وعن استعادة الدراما الأساسية للكينونة البشرية، تحدث أوغستو بوال عن العودة إلى الشكل والمعنى الأولين للمسرح؛ لكن كل منهما عاد على طريقته الخاصة، فالأول تثوي وراء قراره رؤية فلسفية وجودية فينومينولوجية، منهجسة بالتحرر من الوجود الزائف والبحث عن كينونة أصيلة؛ والثاني تؤطره نظرة فكرية وبيداغوجية يسارية، منهمة بالتغيير الاجتماعي لواقع المقهورين.
كان المسرح في الأصل غناء احتفاليا ورقصا رشيقا، تتناغم فيه ترنحات الجسد مع رعشات الروح. طقسٌ تشارك فيه الجماعة برمتها، حيث لا فرق بين الفاعل والمتفرج. كان تعبيرا جسديا جماعيا عن مشاركة وجدانية وعن مشترك روحي. طقسٌ يعزز لحمة الجماعة وارتباطها بسلف طوطمي، يتداخل فيه عالم الإنسان بكون الطبيعة. إنها الجماعة الحرة المتساوية وهي تمجد ماضيها، وتفرغ هواجس حاضرها، وتبني آمال مصيرها المشترك، عبر رموز ينتجها الجسد.[34]
بفعل تحول الشروط الاقتصادية والسياسية والثقافية انقسمت الجماعة إلى طبقات مسيطرة وأخرى خاضعة، فحدث الشرخ أيضا بين الممثل الفاعل وبين المتفرج. فضربت بين عالم الركح وعالم الجمهور هوة لا سبيل لتخطيها، وحرم الجمهور من فضاء الركح وأدواته الفنية التي غدت متخصصة[35].

–       أرسطو مؤسسا للمسرح “التحكمي”:

أسست الشعرية الأرسطية لهذا الانفصال المكاني والأنطلوجي، وأصبحت للعمل المسرحي وظيفة تطهيرية، إذ ما يشج المتفرج السلبي بأبطال المسرحية وظيفة التعاطف المتماهي بين جسدٍ متفرجٍ يجلس دون حراك، مفوِّضاً فعالياته الوجدانية والفكرية والحركية للفاعل الدارمي، فلا يصدر عنه غير الضحك والبكاء والتصفيق؛ يطهره نمو الحبكة الدرامية وانفراجها من دوافعه الضارة – من وجهة نظر الإيتوس Ethos المجتمعي المسيطر؛ وبين بطل كامل الأوصاف إلا من عيب أخلاقي تعاقبه الآلهة عليه تحت تعليقات الجوقة (وهو العيب الذي يراد تطهير المتفرج منه). سادت هذه الشعرية بصور مختلفة عبر تاريخ المسرح. وبالإضافة إلى الوظيفة الجمالية، كانت وظيفتها سياسية، وظيفة إعادة إنتاج السائد، من خلال ترويض الجسد، تكملة لترويضه في المعبد والمدرسة …
لقد وضع أرسطو نسقا موجها إلى إلغاء الميولات الضارة للجمهور أخلاقيا واجتماعيا[36]. ولذلك كانت الغاية القصوى للتراجيديا عنده هي التطهير[37]. ويتم بلوغ هذه الغاية وفق اللحظات التالية:

  • ربط علاقة تعاطف Empathia بين المتفرج والبطل التراجيدي والتماهي مع شخصيته؛
  • يكشف البطل عن عيب في سلوكه Hamartia، بفضله بلغ البطل السعادة أو المجد الظاهرين على حاله؛
  • بفضل التعاطف يتم تشجيع هذا العيب الذي يسكن المتفرج أيضا، فينمو وينشط؛
  • فجأة، يحدث أمر جلل فيغير كل شيء (مثلا: يعلم أوديب من تريزياس Tirésias بأن المجرم المبحوث عنه ليس شخصا آخر غير أوديب نفسه)؛
  • هكذا يغدو البطل مهددا بالسقوط من علياء La péripétie، ويحدث تغيير جذري في مصير الشخصية؛
  • يعتري المتفرج الخوف من ملاقاة نفس المصير؛

تبدأ الشخصية السير في طريق الخزي (كريون Créon يعلم بموت إبنه وزوجته)؛

  • يعترف(الاعتراف Agnorisis) البطل بذنبه، والمتفرج أيضا؛
  • تحدث الكارثة (فقأ أوديب عينيه)؛
  • حدوث التطهير لدى المتفرج، أي تنقيته من العيب الأخلاقي- الاجتماعي الذي أدى بالبطل التراجيدي إلى التهلكة.

يتعلق الأمر بصراع بين إيتوس الشخصية (الفرد) وإيتوس المجتمع، لذلك جاز القول بأن هدف الشعرية الدرامية الأرسطية سياسي في شكل فني تحكمي[38].
وقد هيمنت هذه الخطاطة الأرسيطة على تاريخ المسرح إلى الآن، بل تعدته إلى السينما والتلفزيون، لما لها من وظيفة إعادة إنتاج النظام الاجتماعي السائد، والتحكم في الاتجاهات القيمية والسلوكية والاستهلاكية للجماهير.

–       بريخت والمسرح الطليعي التعليمي.

في المسرح الطليعي، منذ منتصف القرن العشرين، وخاصة مع برتولد بريخت، تحرر المتفرج من سلبيته الفكرية، فأصبح يتتبع الحجاج العقلاني في المسرحية، محفَّزًا بتقنيات “التغريب” التي تجعله يضع مسافة واعية بينه وبين ما يحدث على الركح، كما أصبح جسده يجاور جسد الممثل حين تكسير “الجدار الرابع”.
أراد بريخت للعمل المسرحي أن يكون بداية للعمل (عمل التغيير). فإذا كان ينبغي البحث عن توازن، فينبغي أن يتم ذلك عبر تحويل المجتمع، وليس عبر تطهير الفرد من حاجاته وتطلعاته العادلة[39]. فالمسرح المثالي، والقول لبريشت، “يوقظ المشاعر ويعطل القدرة على الفعل، بينما يتطلب المسرح الماركسي قرارات”[40].
لكن، على الرغم من ذلك، بقي جسد المتفرج ساكنا في موقع المتتبع للأحداث، كما أن الحل الذي ينتهي إليه الصراع الدرامي، رغم كونه في الغالب حلا حاثا على التغيير، بقي مبلورا بالكامل من قبل الفاعل المسرحي، يتلقاه المتفرج كمريد للتغيير.

–       مسرح المقهور:

ابتكر “مسرح المقهورين” بأمريكا اللاتينية خلال سنوات السبعينات، كطريقة من طرائق التعليم الشعبي البديل، الذي بلور نظريته باولو فرايري في كتابه تعليم المقهورين، انطلاقا من الممارسة الميدانية (البرازيل 1962- 1964، والشيلي1964 -1967)، وكشكل من أشكال الفن الملتزم (المنحاز إلى قضايا المقهورين). كان هدف هذا الشكل الفني التشخيصي، داخل السياق البالغ التسييس لتلك الحقبة، والمسيج بالتضييق وقمع الأنظمة العسكرية الديكتاتورية، إسماع صوت المجموعات المضطهدة والمهمشة. لقد تبلور كثمرة لأبحاث وممارسة المخرج البرازيلي أوغيستو بوال خلال سنوات منفاه بأمريكا اللاتينية وأوربا.
وحين تبلورت شعرية المقهورين هذه، خرج المتفرج من كل أشكال السلبية الوجدانية والفكرية والفعلية، وعاد بصورة واعية – هذه المرة-  إلى الشكل البدائي للمسرح، بوصفه فعلا جماعيا. لقد ردمت هذه الشعرية الهوة بين جسد الممثل وجسد المتفرج، باستحالة المتفرج ذاته فاعلا في الصراع الدرامي، عبر مناقشته للحل الذي تخلص إليه المسرحية، بل ودعوته إلى تعويض الممثل، وتمكينه من الركح وأدواته، واقتراحه لحلول بديلة، تمرينا له للعب دور الفاعل في الصراع الاجتماعي. وهنا تتفاعل وتتآنس أجساد الجماعة، متفرجين وممثلين.
ب‌-  مسرح المقهور والمتفرج- الممثل spect-acteur:

–       تحويل المتفرج:

“المتفرج”، في نظر بوال، كلمة بذيئة، لأنها تدل على كائن أقل من إنسان، وبالتالي تنبغي أنسنته بأن نرجع إليه قدرته على الفعل كاملة. إذ ينبغي أن يتحول إلى ذات فاعلة، على قدم المساواة مع الممثلين، الذين يغدون بدورهم متفرجين. ينبغي تحرير المتفرج الذي طبع عليه المسرح صورا ناجزة عن العالم، من وجهة نظر الطبقات الحاكمة في الغالب[41]. وذلك لأن مسرح المقهور يريد أن يكون فاعلا في الواقع بدل أن يكتفي بمحاكاته.
يرتكز مسرح المقهور على مسلمتين أساسيتين:

  • تحويل المتفرج من متلق سلبي إلى شخص فاعل.
  • عدم الارتكان إلى قصص الماضي، وإنما التركيز على استشراف المستقبل، وبالتالي على تغيير الواقع.

كما اعتمد هذا المسرح على ثلاث قواعد رئيسة من شأنها أن تجسد تلكما المسلمتين عمليا:

  • عدم احتكار الركح والوسائل المسرحية من طرف الممثلين المحترفين، وإنما تقاسمهما مع المتفرج، ومن ثم تحويله من متلق سلبي إلى ذات فاعلة، إلى متفرج-ممثل spect-acteur، بوساطة النقاش المفتوح، وإشراكه في اللعب المسرحي عبر تحويله هو نفسه لمجرى القصة الدرامية.
  • عدم الحديث أو التفكير مكان المقهورين وعوضا عنهم أو إملاء الحلول الجاهزة لمشاكلهم الخاصة، وإنما تحفيزهم على رؤية مشاكلهم وجها لوجه وعلى التفكير الذاتي في الحلول.
  • اعتبار الأداء المسرحي بمثابة تدريب على فعل التغيير وليس بديلا عنه. “أن نجرب على الركح الدفاع عن الحقوق التي ينبغي أن ندافع عنها في الحياة”على حد تعبير بوال. [42]

وقد تمخضت الممارسة النظرية والعملية لمسرح المقهورين سواء عند بوال، أو غيره من التجارب (أوربا، أفريقيا، الهند كتجربة رائدة) التي استلهمت أفكاره، عن رصيد من التقنيات المميزة لهذا النوع من المسرح أهمها “مسرح المنتدى”Théâtre- forum، بوصفه أهم شكل لمسرح المقهور، مجسدا لمسلماته وقواعده وذلك من خلال ما أسماه بوال ب”نظام الجوكر”.
وظف المسرح الكلاسيكي شخصية لا تشبه الشخصيات الدرامية مثل الجوقة والراوي، وأناط بها أدوارا موازية مثل تقديم تحليل لجزء من المسرحية، وتقديم وجهة نظر الكاتب، وتوجيه تركيز الجمهور إلى نقطة معينة. لكن كانت هذه الشخصيات من سكان عالم خيالي لا علاقة لها بمجتمع المتفرجين، كما كانت مساهمة في إحداث مفاعيل التعاطف والتماهي والخوف والشفقة والتطهير، وبالتالي معززة لسلبية المتفرج.
في حين يشكل “الجوكر” الذي ابتكره بوال جارا ومعاصرا للمتفرجين، قائما من خلال شروحاته على مسافة من الشخصيات الأخرى، وأقرب إلى المتفرجين، وموجودا في زمكانهم الواقعي[43].
يتكون نظام الجوكر من وظيفتين:

  • وظيفة درامية: لا تخرج عن الشكل الأرسطي ونموذج ستانسلافسكي، يتصرف في إطارها الممثل وفق وعي الشخصية وليس وفق وعي الكاتب. يتعلق الأمر بقصة صراع، حيث واحدة من الشخصيات تمثل “صاحب قضية” (مقهور) تتصرف على نحو ما (في الغالب سلبي) تجاه شخصية أو شخصيات خصمة (قاهرة) اغتصبت حقها.
  • وظيفة الجوكر: وظيفة سحرية، يمكن أن تخلق أسوار ومعارك وجنود … وعلى كل الشخصيات الانضباط إلى هذا العالم الذي يخلقه الجوكر. ويمثل الأخير وعي الكاتب، ويتوجه إلى الجمهور حاثا إياه على المشاركة في النقاش وفق التيمة المعالجة في المسرحية.[44] وبعد المناقشة أو في غمارها يدعو الجمهور إلى تعويض الشخصية المقهورة على المسرح. وعلى كل مشاركة آنذاك، بمعية الممثلين وفي مواجهة الوضعية الإشكالية الموجودة في المشهد البدءي، أن يحاول إنتاج بدائل ممكنة كفيلة بإيجاد مخرج للصراع. وبهذا تصبح المسرحية تحت مسؤولية الجميع، منشط النقاش وممثلين، وجمهورا.

لا يتعلق الأمر بإطلاق رسالة جاهزة ولا بإيجاد “حل جيد”، وإنما بالتجريب الجماعي على الركح لفرضيات، وتطورات ممكنة لتفادي الاستسلام لحتميات الواقع الحياتي. أليس المسرح تدريبا على الثورة في نظر بوال؟
لا مناص من دور “المنشط”/ الجوكر إذن، فهو أساسي من أجل ضمان التفاعل بين الحضور والركح، وهو محاور بالدرجة الأولى، إذ ينشط ويسهل النقاش ويحلل مع الجمهور تدخلاتهم، كما يحلل ردود فعل الشخصيات والتغييرات التي أضافتها على المشهد والبدائل التي قدمتها. إنه يقود التفكير الجماعي إلى أبعد حد ممكن، دون أن يفرض رأيه الخاص كحقيقة جاهزة كما في المسرح “الملتزم”التقليدي (نظرية بريخت). ناهيك من أن مسرح المقهور أبعد ما يكون عن شعرية المسرح الأرسطي الذي يقوم على تنويم المتلقي.
ج- مسرح آرتو ومسرح المقهور والفن المعاصر:

–       الفن المعاصر:

حددت السوسيولوجية الفرنسية نتالي هاينش  Nathalie Heinich الفن المعاصر في كونه البردايم الذي فرض نفسه على امتداد جيلين. من خلال تحويل حدود الفن عبر اللعب على المضامين والأشكال والمسافات مع العالم العادي. لقد انتقلت المسألة من مركزية قيمة العمل الفني التقنية والجمالية، إلى مسألة نوع العمل الفني المعاصر الذي يخترق حدود مادية (مكانية مثلا المتحف)،  وحدود ذهنية (المقولات، اللغة)، رغم أن المقولات يمكن أن تكون أكثر صلابة من جدران المتاحف[45]. غير أن هذه الحدود ليست البتة ثابتة. فليس هناك تحديد جوهراني للفن المعاصر(محتوى/شكل) وإنما هناك تحديدات سياقية (توقيع الفنان ودفاعه عن عمله وتفسيره له، فهم المتلقي وتأويله، الحوار بينهما، المتحف، الصحافة، المكان ، الزمان: الأداء المباشر للفنان بجسده، علاقة الشيء بالأشياء الأخرى، القانون، الأخلاق). فلا استقلال للعمل الفني.
ولا يحيل مفهوم الفن المعاصر هنا على معلم زمني كرونولوجي، وإنما على نوع فني[46]. إنه فن”مفهومي”، لا يستند إلى العمل الفني في ذاته، بقدر ما يستند إلى المفهوم الذي أعطاه الفنان للعمل الفني، وإلى تأويل المتلقي أو مشاركته. يتعلق الأمر بنوع من النزعتين الاسمية والبنائية[47].
إن حركة الفنان، في ظل هذا البردايم، حركة خرق التي تنحو، أكثر فأكثر، إلى قلب معايير القيمة الفنية، من معايير إيجابية قائمة على الجودة التقنية أو التمكن من الشفرات الجمالية، إلى معايير سلبية قائمة على القدرة على الإزاحة المتزايدة للحدود، وعلى الهروب إلى الأمام، منتهجة نهج “الحد الأدنى/ الإقلال” Minimalisme، من خلال الإفراغ الدقيق للشيء الفني، إلى درجة اختزاله أحيانا في مفهومه.
لكن هذا الخرق لا يتم من عدم صرف، وبشكل اعتباطي، فالحرية المطلقة للفنان تبقى وهما، إذ لا يتم “أي شيء أو أي كلام”ب”أية طريقة كانت، كيفما اتفق”. فلا بد أن يكون الفنان داخل الحدود القائمة ومشروطا بالمعايير والشفرات السائدة والتقنيات المستعملة حتى يستطيع خرقها[48].
ولكي تمثل الكاتبة لهذا، استحضرت قضية الفنان الفرنسي Hervé Paraponaris،  الذي عرض بمتحف بمدينة مارسيل عملا مركبا من مجموعة من الأشياء العادية المسروقة (ساعة، تلفاز…)، في الغالب من فنانين آخرين، سماها (الأشياء التي سرقتها منكم). فما كان من الفنانين “ضحايا السرقة”إلا أن أبلغوا عنه الشرطة، معتبرين هذا الإبلاغ أداء فنيا بدوره،  فأوقفته الشرطة رفقة محافظ المتحف الذي تواطأ معه، وصادرت الأشياء “المسروقة”.
لقد أبانت هذه التجربة عن:
– قدرة تدميرية  Subversiveلمعنى العمل الفني كما كان متواضعا عليه.
– قدرة تفكيرية نقدية تجاه حالة المجتمع.
– حركة إزاحة على المستوى القانوني (مقولة الملكية/ السرقة …).
–  تجاوز ثنائية الخير والشر على المستوى الأخلاقي.
– هدم الحدود بين أجناس فنية مختلفة ( النحت، المسرح، الأداء….).
–  وعلى المستوى المدني: إثارة النقاش حول التمويل العمومي/ التمويل الذاتي. إذ كاد  مجلس البلدية أن يوافق على تمويل العمل بعد نقاش محتدم لولا معارضة قسم من أعضائه.
لقد حوَّل هذا العمل الواقع برمته (المتحف، الأشياء العادية، قسم الشرطة، المجلات..) إلى واقع-فرجة Reality-Show[49]، إنه حضور بالغ، وبذلك فهو دفع بالمنطق الفني ل Ready-made، الذي أسسه مارسيل دوشان بعرضه ل”لمبولة”، إلى حدود بعيدة.

– المسرح المعاصر:

إذا كان أنطونان آرتو، كما سبق وقلنا، المؤسس النظري للحضور المطلق والحي للجسد في الفن المعاصر، فمن الواضح أن أوغستو بوال، شكل منبتا من منابت الفن المعاصر، خصوصا في العلاقة مع المتفرج وجسده، وهو الأمر الذي تشهد عليه النقاط التالية:

  • كسر أهم القواعد الأكاديمية للمسرح، من خلال البناء التدريجي لنموذج مسرحي جديد وبالغ المرونة، سمي ب”نظام الجوكر”، الذي يشتغل وفق وظيفتي الدراما والجوكر.
  • منذ أن انتقلت فرقة Arena (فرقة أوغستو بوال الأصلية) من المسرح الواقعي والانطباعي إلى مسرح المقهور[50]. أضحت عروضها تتسم بالحضور في الحدث، بل خلق الحدث، من خلال الاشتغال مع الفئات العمالية والفلاحين في أماكن عملهم أو سكناهم وحول مواضيع تشغلهم ومشاكل أو وضعيات يعيشونها إبان لحظة العرض نفسه، فيتداولون حولها ويجربون الحلول (إضرابات، استيلاء على الأرض…)، وتتجلى صفة الحضور خصوصا في المسرح- المخفي (وهو إحدى أشكال مسرح المقهور، حيث يخلق الممثلون وضعية للنقاش في الأماكن العامة دون أن يعرف الجمهور أنهم يمثلون[51]. وبعد أن انتقل بوال ومسرحه (منفيا) إلى أوربا توجهت العروض إلى الحضور في الفضاء العام والتفاعل مع الجمهور المديني مباشرة.
  • إن مسرح المقهور فن طليعي بالمعنى الاجتماعي – وبشكل ما السياسي- إذ يتوجه بالأساس إلى الفئات المضطهدة الساعية إلى التغيير، أو على الأقل، التي من مصلحتها التغيير.
  • هو مسرح تفاعلي ينطلق من مبدأ مركزية المتلقي، من خلال إعطائه الكلمة ومده بوسائل وفضاء التعبير المسرحيين للمشاركة الفعالة في العمل الفني، وفي نفس الآن التدرب على تغيير وضعيته المعيشة. إنه تجاوز لتقسيم العمل الفني (محترفون/جمهور) الذي هو انعكاس لتقسيم العمل الاجتماعي.
  • هو – في نظر أوغستو بوال– نظرية جمالية جديدة، شعرية قائمة بذاتها Poétique. أطلق عليها بوال “شعرية المقهور”. التي تعطي مكانة مركزية ل”الفعل”وتتعامل مع المتفرج-الفاعل باعتباره كيانا كليا (تفكير، عاطفة، فعل)، من أجل تحفيز تفاعله الإيجابي والفاعل مع شروط عيشة. وهي شعرية جبت الشعرية الأرسطية الكلاسيكية القائمة على تعاطف المتفرج-السلبي مع الشخصية الدرامية وتماهيه معها بهدف التطهير من العيوب الأخلاقية وإعادة الإندماج في المنظومة القيمية للمجتمع Pathos. وبعدها شعرية المسرح التعليمي الذي قعده برتولد بريخت نظريا، والقائم على العقل والتغريب، والذي يستهدف تلقين المتفرج غير المتماهي حقيقة ثورية ما عبر استراتيجيات حجاجية على مستويي النص والإخراج[52].
  • يتموقع مسرح المقهور خارج البردايم الحديث، المنشغل بالقمية الجمالة (الفن للفن) والمنزوي في ملاذ الذات. فسمرح المقهور ليس رومانسيا ولا كلاسيكيا، بل ليس حتى ملتزما بالمعنى التعليمي البريختي، هو إذن فن معاصر، حتى بمعنى أن العصر في حاجة إليه )المناقشة العمومية، العقل النقدي …).
  • في بعض التجارب أصبح مسرح المقهور فاعلا مباشرا في الشأن العام، من خلال الانخراط في دينامية المجتمع المدني في أوربا، أوكفاعل سياسي مباشر في الهند وغينيا كوناكري مثلا، إذ أصبح يشكل في بعض المناطق، قوة اقتراحية تشريعية.

ثالثا، خلاصة:
بدأت أوديسا الجسد بسقوطه من الحياة – وسطه الأصلي- إلى صيرورة الواقع التاريخي، فسرت عليه قوانين حركتها، متحولا من موضوع للتجريح المثالي- اللاهوتي، إلى موضوع للتشريح العلمي والسياسي. وكان الفن، وخصوصا المسرح متواطئا في هذه المأساة، إلى أن صحا الجسد من جديد، منتفضا على الواقع وتواقا للحياة، وقد حدث هذا أولا في مسرح آرتو. كما أن جسد المتفرج نفسه انتفض على سلبيته، وغدا فاعلا على الركح إلى جانب الممثل، وهذا ما أسست له شعرية أوغستو بوال.
انفصل مسرح آرتو عن المسرح السائد بمنحه مكانة مركزية الجسد، ذاتا وموضوعا للعب المسرحي، على أنقاض ديكتاتورية النص، وكذلك بإرادته تغيير الشرط الإنساني، بخلق إنسان جديد متصالح مع الكينونة. وانفصل مسرح المقهور عن المسرح السائد بردمه الهوة التي كانت قائمة بين الركح والجمهور، وإعطائه الكلمة للمتفرج الذي لم يعد متفرجا، بتمكينه من أدوات اللعب الركحي، ليجرب أفكاره ويتدرب على التغيير.
وإذا كان آرتو لا يشكل البداية المطلقة لمسرح الجسد (وإنما لحظة تأسيسية) ولا منتهاه؛ وإذا كانت شعرية المقهور ليست وحدها من حرر جسد المتفرج من سلبيته المطلقة، بل كان هذا منزع فنون الأداء المعاصرة، خصوصا تلك التي تلعب في الفضاءات العمومية، كعمل مفتوح[53]، لا يكتمل معناه إلا داخل أفق انتظار المتلقي ومشاركته الفعالة وجدانيا وفكريا وجسديا، خارقا المواضعات الفنية التقليدية ومحتجا بطريقته على منظومة القيم التحكمية والاستهلاكية السائدة؛ فإن هذين المسرحين يبقيان معلمين أساسيين، بهما نفهم الأبعاد الفلسفية والسياسية للتعبيرات الأدائية المعاصرة، وبالرجوع إليهما نستلهم تجارب إبداعية جديدة. وحتى وإن كانت سمة الفن المعاصر خرق الحدود، فإن آلة الخرق المزمجرة هاته لم تطل بعد مسرح القسوة ومسرح المقهور.
وإذا كان الفن المعاصر في العالم الغربي، وخصوصا المسرح، قد ساهم من خلال الحضور الجسدي المتفاعل مع أجساد الجمهور، في خلق شروط تشكل فضاء عمومي نقدي، أو حتى معارض[54]، مستقل عن الدائرة السياسية ومنفلت، إلى هذا الحد أو ذلك من الاستلاب الاستهلاكي، ويشكل مجالا للمناقشة والاحتجاج والتآنس الاجتماعي، ووسطا ملائما لاكتمال مفهوم المواطن من خلال تمرسه على تحمل مسؤولية بناء المعنى عبر أخذه للكلمة، إضافة إلى مسؤولية الاجتماعية والسياسية؛ فإن الإنسان العربي أحوج إلى مثل هذه الثورة الثقافية التي من شأنها أن تساهم في تغيير شروط وجوده جذريا.
وبالفعل بدأت تتشكل أنوية أولية لتجارب فنية مسرحية تمتح من معالم الفن المعاصر، ومن مسرح الجسد ومسرح المقهور على الخصوص. وقد تشكل أغلبها في سياق احتجاجي إبان وبعد موجة الربيع العربي، وهو الأمر الذي يدعونا لدراسة حالة هذه الأنوية واستشراف أفقها ودرجة فعلها في الواقع الثقافي، خصوصا والدراسات في هذا الموضوع شحيحة.
 
ملحوظة:
كل النصوص الأجنبية المستشهد بها في هه الورقة من تعريبي الشخصي
 
 
 
 
 
 
 
 
 

بيبليوغرافيا:

  • ARTAUD, Antonin (1948), Revue 84, no 5-6, « Spécial Antonin Artaud », textes d’Antonin Artaud, suivis de témoignages des amis d’Antonin Artaud. Paris, Éditions de Minuit.
  • ARTAUD, Antonin (1964), Le théâtre et son double , dans OEuvres complètes, Paris, Gallimard, t. IV.
  • ARTAUD, Antonin (2004), OEuvres, Évelyne Grossman (éd.), Paris, Gallimard, coll. « Quarto ».
  • Boal Augusto, Théâtre de l’opprimé, trad par Dominique Limann, La Découverte/Poche, Paris 1996.
  • Les principes de la philosophie, Paris. Gallimard. La pléade. Œuvres et lettres. IV. § 203.
  • Jaques. Marges. Paris. Editions de Minuit, 1972.
  • É. (1912), Les forms élémentaires de la vie religieuse. Le système Toyémique en Australie. ( Paris, Les Presses universitaires de France, 1968
  • Descamps, Marc-Alain. L’Invention du corps. Paris : PUF, 1986.
  • Gilles Deleuzeet Félix GuattariL’Anti-Œdipe. Capitalisme et schizophrénie, Paris, Éditions de Minuit, coll. « Critique », 1972.
  • Deleuze Gilles et Guattari Félix, Mille Capitalisme et schizophrénie 2, Paris, Éditions de Minuit, coll. « Critique », 1980.
  • Deleuze Gilles, « Le corps sans organes et la figure de Bacon », dans Francis Bacon. Logique de la sensation, Paris, Éditions du Seuil, coll « L’ordre philosophique », 2002.
  • Eco Umberto. L’œuvre ouverte, Editions du Seuil 1965.
  • Foucault Michel, Le corps utopique, conférence radiophonique du 21_décembre_1966, disponible en CD France-Culture, coll._«_INA-Mémoire vive_».
  • Foucault Michel, Surveiller etPunir.Paris,Gallimard,coll._«_Bibliothèque des histoires_», 1972.
  • Foucault Michel, «_Leçon du 7 novembre 1973_», Le Pouvoir psychiatrique. Cours au Collège de France, 1973-1974, Paris, Gallimard-Seuil, coll._«_Hautes Études_», 2003.
  • Georgius Gemistus Pléthon, Traité des vertus. Trad et commentaire par Brigitte Tambrun-Krasker. Edition Critique. New York. 1987.
  • Heinich Natalie,  Le triple jeu de l’art contemporain, Les Edition de Minuit, Paris 1998.
  • Hans-Thies. Le Théâtre Post-Dramatique. Traduites par Philippe-HenriLedru. Paris: L’Arche, 2002.
  • Mauss, Marcel. « Les techniques du corps ». In . Sociologie et Anthropologie. Paris : PUF, 1966, p., 1966.
  • Merleau-Ponty, Maurice. L’oeil et l’esprit. Gallimard, 2000.
  • Merleau-Ponty, Maurice. Le visible et l’invisible, Paris. Gallimard 1964.
  • Oskar Negt, L’espace public oppositionnel, Paris. payot 2007.
  • P. Remarques sur le discours théâtral. Degrés [Théâtre et sémiologie]. Bruxelles, v. 13, h1-h10, 1978.

مراجع إلكترونية:

  •  Corps et Corporéité. Médiathèque du Centre national de la danse. http://lacomediedeclermont.com/saison2016-2017/wp-content/uploads/2015/07/Corps-et-corpor%C3%A9it%C3%A9-CND.pdf
  • Yann Marussich: Autoportrait dans une fourmilière (2003) https://www.youtube.com/results?search_query=Autoportrait+dans+une+fourmili%C3%A8r

 
 
 
 
 
 
 
فهرست:
Sommaire
تقديم: 2
أولا: تاريخ مقولة الجسد في الخطابات النظرية. 2
1-            أفلاطون أو نفي الجسد: 2
2-            الجسد ـــ الآلة بين الطبيعة والمجتمع. 2
–                ديكارت أو الجسد بوصفه آلة طبيعية: 2
–                علم الاجتماع أو الجسد بوصفه آلة اجتماعية: 2
3-           فينومينولوجيا ميرلوبونتي: الجسد والعالم “لحم” مشترك. 2
–                الجسد شرط إدراك العالم: 2
–                الجسد شرط العيش في العالم: 2
–                التواشج بين الجسد والعالم (وجود-في-العالم): 2
4-            فوكو وتاريخ الأجساد. 2
5-           جيل دولوز و”الجسد-بدون- أعضاء”. 2
6-            استنتاج: 2
ثانيا: الجسد في المسرح. 2
1-           النص والجسد الأدائي: 2
–                تحولات الجسد المسرحي: من النص إلى الأداء. 2
–               أرتو مؤسسا للجسد الأدائي: 2
–               استعارة الطاعون المزدوجة: جسد الممثل وجسد المتفرج في مسرح آرتو: 2
–               استنتاج: 2
2-           جسد المتلقي. 2
أ‌-              تاريخية العلاقة بين جسد الممثل وجسد المتفرج: 2
ب‌-             مسرح المقهور والمتفرج- الممثل spect-acteur: 2
ج- مسرح آرتو ومسرح المقهور والفن المعاصر: 2
ثالثا، خلاصة: 2
بيبليوغرافيا: 2
 

[1]  إله الخمر والمجون لدى الإغريق، وهو ذو أهمية كبيرة في الدين والنظام الأخلاقي الإغريقيين.
[2]  Foucault. M,  Le corps utopique. Conférence radiophonique du 21_décembre_1966, disponible en CD France-Culture, coll._«_INA-Mémoire vive_».
[3]   Georgius Gemistus Pléthon, Traité des vertus. Trad et commentaire par Brigitte Tambrun-Krasker. Edition Critique. New York. 1987. P 86.
[4]  Descamps, Marc-Alain. L’Invention du corps. Paris : PUF, 1986., p. 18-20.
[5] أنظر ميشال فوكو أسفله.
[6]  Corps et Corporéité. Médiathèque du Centre national de la danse. http://lacomediedeclermont.com/saison2016-2017/wp-content/uploads/2015/07/Corps-et-corpor%C3%A9it%C3%A9-CND.pdf
[7] Descartes. R. Les principes de la philosophie, Paris. Gallimard. La pléade. Œuvres et lettres. IV. § 203. P 666.
[8] Mauss, M. « Les techniques du corps ». In . Sociologie et Anthropologie. Paris : PUF, 1966, p., 1966, p. 372.
[9] Ibid, p. 384.
[10] Merleau-Ponty. M. L’oeil et l’esprit. Paris. Gallimard, 2000, p.54
[11] Merleau-Ponty. M. Le visible et l’invisible, Paris. Gallimard 1964, p. 47.
[12] Ibid, p. 180
[13] Foucault. M.  Le corps utopique.
 
[14]  Foucault. M. «_Leçon du 7 novembre 1973_», Le Pouvoir psychiatrique. Cours au Collège de France, 1973-1974, Paris, Gallimard-Seuil, coll._«_Hautes Études_», 2003, p.15
[15] Ibid. p. 16.
[16] Foucault. M. Surveiller et Punir, Paris, Gallimard, coll._«_Bibliothèque des histoires_», 1972, p.. 39.
[17] Ibid. P 195-196.
[18]  Foucault. M. Surveiller et Punir. P. 139.
[19]  Deleuze. G et Guattari F. L’Anti-Œdipe. Capitalisme et schizophrénie, Paris, Éditions de Minuit, coll. « Critique », 1972,
[20]  Deleuze. G et Guattari F. Mille Plateaux. Capitalisme et schizophrénie 2, Paris, Éditions de Minuit, coll. « Critique », 1980
[21]  Deleuze. G. « Le corps sans organes et la figure de Bacon », dans Francis Bacon. Logique de la sensation, Paris, Éditions du Seuil, coll « L’ordre philosophique », 2002, p. 47-52.
 
[22] Pavis. P. Remarques sur le discours théâtral. Degrés [Théâtre et sémiologie]. Bruxelles, v. 13, h1-h10, 1978.
[23]  Derrida. J. Marges. Paris. Editions de Minuit, 1972.p.160.
[24] LEHMANN. Hans-Thies. Le Théâtre Post-Dramatique. Traduites par Philippe-HenriLedru. Paris: L’Arche, 2002.
[25] ARTAUD, A (1964), Le théâtre et son double , dans OEuvres complètes, Paris, Gallimard, t. IV.p. 55;
[26]  ARTAUD, A (1964),.p.77.
[27]  ARTAUD, (1964).p.39.
[28] Ibid .p.40.
[29] Ibid .p.46.
[30]  ARTAUD, A (2004), OEuvres, Évelyne Grossman (éd.), Paris, Gallimard, coll. « Quarto ».
[31]  ARTAUD. A (1948), Revue 84, no 5-6, « Spécial Antonin Artaud », textes d’Antonin Artaud
suivis de témoignages des amis d’Antonin Artaud. Paris, Éditions de Minuit.p. 124.
[32]  Ibid. P.104.
[33] بورتريه ذاتي داخل غار نمل (2003): يحوم المتفرجون حول الثابوت الزجاجي ليان ماروسيش Yann Marussich المتمدد بدون حراك وسط النمل. تم وضع كاميرات متفحصة عن قرب لجمود الفنان وسط الحركة الهائجة للنمل، وتم إمداد المتفرجين بسماعات تسمح لهم بسماع الصوت. ويبدو أن المتفرجين يرافقون المؤدي performer الذي أبان عن جمود صادم شبيه بجمود الجثة.
متوفرة على موقع يوتوب:   https://www.youtube.com/results?search_query=Autoportrait+dans+une+fourmili%C3%A8r
 
 
[34] Durkheim É. (1912), Les forms élémentaires de la vie religieuse. Le système Toyémique en Australie. ( Paris, Les   Presses universitaires de France, 1968
[35]  Boal. A. Théâtre de l’opprimé , trad par Dominique Limann, La Découverte/Poche, Paris 1996. P 11-12.
[36]  Ibid. p. 94.
[37]  Ibid. p. 116.
[38]  Boal. A.  Théâtre de l’opprimé. pp. 116-129.
[39] Boal. A.  Théâtre de l’opprimé. p. 194.
[40] Ibid. p. 195.
[41] Boal. A. Théâtre de l’opprimé. p 55.
[42] Ibid. P 41.
[43]  Ibid. p. 73.
[44]  Boal. A.  Théâtre de l’opprimé . p. 85.
     [45]  Heinich. N. Le triple jeu de l’art contemporain. Les Edition de Minuit, Paris 1998. P 69
[46]  Ibid,P  64.
[47]  Ibid,P 67.
[48]  Heinich. N. Le triple jeu de l’art contemporain. P 72.
[49]          Natalie Heinich,  Le triple jeu de l’art contemporain, P 336.
[50]          Boal. A. Théâtre de l’opprimé ,. P 57
[51]          Ibid, P 44.
[52]          A Boal,  Théâtre de l’opprimé , P 56.
[53]  Eco. U. L’œuvre ouverte, points. Editions du Seuil 1965.
[54]  Negt. O. L’espace public oppositionnel, payot 2007- Paris.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت