قصر هاملت الملعون/ د. حسن عطية

من أصداء الدور ة 25 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر و التجريبي

 
عرض آخر يستدعي الأمير الشكسبيرى الشهير “هاملت”، وهذه مع المرة عبر النص الدرامى للكاتب السورى “ممدوح عدوان” (هاملت يستيقظ متأخرا)، الذى أعده المخرج الأردنى “زيد خليل مصطفى” ، مع فرقة (ع الخشب) On-stage عرضا مسرحيا له بنيته الخاصة وجمالياته المميزة ، وكما فعل الكاتب السورى مع نصه الذي كتبه ونشره عام 1976، وأحال موضوع هاملت الأمير الذى فرض عليه الثأر لأبيه المقتول ، إلى زمن كتابته، متشككا فى موت الزعيم غيلة، ومنتقدا الحاكم الجديد فى توجهه للسلام مع “فورتبراس” قائد الأعداء الذين اقتطعوا جزءا من أرض الوطن ، فى معركة سابقة ، وسمح للفساد أن يستشرى فى القصر ، ويبعده عن الجماهير  فضلا عن جعله الأمير الشاب مخرجا مسرحيا، يعد العدة لإخراج مسرحية عن (شهرزاد) ليكشف عن خيانة المرأة لزوجها وزواجها من غيره، لتحل هذه  المسرحية محل تمثيلية (المصيدة) التى أخرجها “هاملت” فى النص الشكسبيرى، معيدا أمام الملك والملكة مشهد قتل الملك لأخيه وزواجه من زوجته، مغتصبا بذلك الحكم والزوجة معا .
يلتقط المخرج الأردني فكرة قيام “هاملت” بإخراج تمثيلية (المصيدة)، ومستفيدا بطرح “ممدوح عدوان” قيام الأمير الشاب بإعداد وتحوير وإخراج عرض مسرحي يعتمد فيه على الحكاية الإطار فى كتاب (ألف ليلة وليلة)، ليدعم فكرة الفنان لدى الأمير الشاب فى مواجهة السلطة، وليجعل التمثيلية التى قدمت وفق شكسبير داخل النص الكلاسيكى، مسرحية داخلية تتقاطع وتتداخل مع المسرحية الأساسية، مضيفا إليهما مواقف تمثيلية من حكاية “قابيل” قاتل أخيه “هابيل”، سامحا للشخصيات أن تدخل وتخرج من النصوص الثلاثة دون قيود عليها ، فتدخلها من تغنى ومن ترقص، ويتحول فيها عازف الكمان المنفصل فى البدء عن الحدث إلى شخصية درامية بملابس عربية، بعد أن يفتتح العرض بعزف جميل، ثم سرعان ما يتحول إلى شخصية الملك، ثم يعود دون إيهام إلى دوره كعازف للكمان مع عازف الكلارينت الواقف يساره على بعد ، فى تناغم مع عزف على بيانو غير ظاهر.
عرض مفتوح على كل المناهج والتوجهات، تلعب فيه الإضاءة دورا مهما فى السقوط على أوجه الممثلين، أو فى مستطيل ضوئي يحصر المتحاورين داخل نطاقه، وينطلق العرض بها على أشباح لشخصيات تدخل لتنحني لسلطة غاشمة، بينما يدخل “هاملت” ليعلن أن خيانة الجسد ليست هى وحدها الدنس الذى يدنس القصر والكون، بل خيانات كثيرة قد حدثت فى هذا القصر الذى صار ملعونا، وأن على “هاملت” وحده تطهيره من الدنس ، وهو الذى يعيش داخل نفسه متألما ، مستعيدا حكاية قابيل قاتل أخيه هابيل للحصول على زوجة الأخ الجميلة، ومتحدثا فى مونولوج يتقاطع مع مونولوج الملك الجديد الذى يعلن للمملكة الحزين أهلها أنه سيتحمل مسئولية الحفاظ على المملكة، والادعاء بالسير طريق الملك الراحل فى التحرر والاستقلال، وفى الوقوف ضد العدو الذى يثير القلاقل على الحدود، وأن يعمل على استرداد ما احتله العدو من أراضى وطنه، لذا قرر للمفارقة الزواج من الملكة بعد شهر واحد من موت زوجها والد هاملت، لاستعادة الأفراح للمملكة الحزينة !! .
منذ البدء تمتزج السياسة بالدراما، وتعلو المباشرة الزاعقة أحيانا، ويرتدى (العدو) “فورتنبراس” ورجاله ملابس يهودية، ويتحول لقاء الملك بعدوه لطقس دينى يهودى، يدمغ الملك الذى مد يده لعدو وطنه، وطبع علاقاته معه على أرض الواقع، كما تمتزج وتداخل المشاهد مع بعضها، ففي المشهد التالي نرى فتاتين تزحفان على أرض المستطيل الضوئي، وتحكيان لنا عن مسرحية (شهرزاد) التى يعدها هاملت للعرض أمام الملك ، بينما تظهر الملكة فى بؤرة ضوئية منفصلة تترنم ثم تغنى وهى تهوى بثوبها على شيء غير معلوم، سرعان ما يدخل هاملت فى حديث ذاتى لا يواجه فيه الملكة، وإنما يعلق على فعلها بحكاية قديمة عن المرأة التي أقسمت بعد موت زوجها ألا تتزوج حتى يجف التراب عن قبره، ولذا راحت تهوى بفستانها على القبر لتسريع عملية التجفيف، كما كانت تفعل الملكة سابقا، ثم يتحاوران وكلا منهما في مكانه ووضعه المخالف لوضع الثاني، تعلن هى أن الحي أبقى من الميت، مستدعيه قولا شعبيا سائرا، لفرض ما هو عام على ما هو خاص، بينما يقول هو الميت أبقي وأنبل من الحي، مخصصا قوله على شخص بعينه ، فالملك الذى رحل هو الأسمى من ذلك الحى الخسيس، ويستكمل الحوار بينهما وسط ثلاثة من ممثلي العرض الداخلي، يدعمون قولها بالصراخ و(الصاجات) ، سخرية من العرض على ما تقوله ، وتكذب فيه الأم على “هاملت” وعلى نفسها، حتى وهما يتقابلان فى غرفتها فى مشهد المواجهة الشهير فى النص الشكسبيري، حيث تظل تكذب حتى تبرر لنفسها ما قامت به.
من هذا التداخل بين المشاهد، والإحالة كل لحظة إلى الواقع المعاش اليوم، فى مطالبة باسترداد الأرض السليبة، وفى كون المسرح عليه أن يلعب دورا تنويرا وسط مجتمعه ، مثيرا وعيه الجمعي ، يتدفق العرض فى سلاسة، مازجا ما بين الرقص الموقع والغناء والأداء التمثيلي، وما بين اللغة الفصحى والدارجة الأردنية، وما بين المسرحية الأساسية ومسرحية (شهر زاد) الداخلية، ومحولا أغلب الحوارات إلى مونولوجات، حيث الكل قد تقوقع داخل ذاته بفعل جريمة اغتيال الحاكم العادل، مغلفا الكلمة والأداء والحركة والموسيقى بشاعرية حزينة، تبكى على زمن عادل اغتيل، وعلى زمن قائم يحادث المرء فيه ذاته، بعدما انفصمت علاقته بالآخرين .
لا ينسى المخرج المعد أن يصطنع شخصيتين تعلقان من خارج الحدث على ما يجرى، عازف الكمان وعازف الكلارنيت، وهما يعملان أيضا كممثلين فى العرض المقدم، لكن ما أن يستردا استقلالهما عن الدراما المجسدة، حتى يطرحان الأسئلة : ما علاقتنا إذا كان “هاملت” متخلفا، لم يدخل لعصرنا بعد، ولم يتعامل مع معطياته الجديدة، كما تؤدى “أوفيليا” شخصية “هاملت” وهو يلقي مونولوجه الشهير “أكون أو لا أكون” مقدمة تفسيرا جديدا له : أن بكون مستسلما لقدره الغاشم الذى فرض عليه الهزيمة، أو أن يكون واقفا مواجها أخطار الواقع وأعداء الوطن، وعليه أن يختار ليمكنه دخول عصرنا المليء بالحروب الفئوية، دون هزائم داخلية وانتظار لأقدار غائبة وكأنها ضميره المعذب له بأعماقه المضطربة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت