الحب فى زمن داعش/ د. حسن عطية

كيف يعيش الإنسان العربي اليوم فى واقع يصادر حقه فى الحب والسعادة والأحلام؟ وكيف صنع الإنسان العربي بيديه هذا الواقع المصادر للحياة، وهذا الفكر المتعلق بماض أنتهى؟
سؤالان يتقاطعان مع الإنسان العربي صانع الإرهاب والإنسان المكتوي بناره، فثمة مؤامرات ومخططات أجنبية دعمت هذا التخلف الذى نعيشه لا مراء فيها، ولكنا هنا نحن الذين سهلنا لهذا الفكر المتخثر أن يتسلل لحياتنا اليومية، ويتفشى لدرجة مصادرة العقل، وتزييف الوعي، واغتيال الحياة التى نعرفها من أجل حيوات لا نعرف عنها شيئا، وتدمير المجتمع الذى نعيشه بزعم إقامة مجتمع قادم من المجهول، يكبت الآراء والغناء، ويقف ضد كل تقدم علمى عقلاني، فالدودة فى أصل الشجرة، والوقوف ضد جحافل التخلف يبدأ بأنفسنا وعقلنا المهزوم.
صحيح أننا لا نستطيع المساواة بين العربي المغتالة حريته فى الحب والإبداع والمدافع عنهما، والعربي القائم بالاغتيال بالمدفع وتفجير النفس في من يعشق الحياة، ولكننا لا نستطيع ألا أن ندين قوى كثيرة فى المجتمع شاركت فى اغتيال الفكر والوجدان، وشاركنا نحن بصمتنا فى بقاء الفكر المؤسس للإرهاب .
فى أجواء هذا الوضع المأسوى الذى نعيشه، ونتحمل تبعاته، يقدم لنا المؤلف والمخرج الفلسطيني المعروف “غنام غنام” عرضه الجديد المدهش، مع فرقة المسرح الحديث التابعة لجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح، والذى شاهدناه ضمن عروض الدورة 25 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر و التجريبي، شاجبا هذا الواقع المتردى المودى بحياة من عشق الحياة، ومديرا حدثه حول ثنائيتين: ثنائية أستاذ المسرح المسلم “ضحى” وزوجته ومعشوقته أستاذة الموسيقى المسيحية “ليلك”، وثنائية تلميذهما الفنان الشاب “حمود” ومحبوبته “فاطمة”، حيث يعين الزوج عقب التخرج فى قرية نائية، بينما تعين هى فى المدينة ذاتها، ولكنها تقوم بنقل عملها إلي نفس القرية والمدرسة التى نقل الزوج إليهما، فينتقلان من مدينتهما الهادئة إلى القرية النائية، منتقلين بذاك من التمدن للتخلف، ومن سمو العقل إلى تحجره، ومن الجزء المضيء فينا، إلى العالم الغامض الهابط الذى صنعناه بأيدينا وبدعم من معتقداتنا.
أنها رحلة داخل الوطن العربي نفسه، داخل أنفسنا، تغترب فيها العقول المستنيرة وأصحاب الوجدان الصافي، عندما تنتقل من بقعة لأخرى داخل نفس الوطن، جسدها لنا العرض فى بقعتين بصورة عامة: (المدينة) بتنظيمها المتحضر القائم على أنساق راقية تتجاوز الأعراق والقبائلية، ويتماسك أبنائها بالانتماء للوطن، إلي (القرية) ذات النسق العائلى والعشائري، التى تعلو فيها القبيلة فوق الدولة، وتقدر فيها المشيخة على أية مؤسسة مدنية، ولذا توسع مفهوم الخلافة الإسلامية (الداعشية) فى القرى التى تخضع لشيخ القبيلة، وشيخ الجامع، لتصل إلى خليفة المسلمين، ويسهل بذلك غزوها عقائديا قبل غزوها بالسلاح .
يبدأ الحدث الدرامي وقد احُتلت القرية بكتائب داعش المتخلفة، والزوجان يعملان بالتدريس، بهدف تعليم وتثقيف وتنوير هذا الجيل القادم بقيم مختلفة عما هو سائد فى القرية، غبر أن كتائب التخلف تصادر حريتهما فى التدريس، وتعتبر ما يدرسانه من (المحرمات)، وهاهما فى غرفتهما البسيطة يعيشان فى ظهور واختفاء بإضاءة مستخدمة ببراعة، مع صور غسان كنفانى ومحمد الماغوط المعلقة على مكتبة في الخلفية ومعهما عود يعزف عليه “ضحى” أغانى الحب المعتمدة على مجموعة من أغانى “فيروز” الشجية، بينما الخارج المحيط بهما عبر مستطيل ضوئى محيط بغرفتهما الآمنة، يظهر فى ضلعه الأيمن جاران منافقان ورافضان لعلاقة المسلم بزوجته المسيحية، ومعهما شيخ القرية، والذى يتركهما منتقلا للضلع الأيسر، ليدق باب بيت “ضحى” و”ليلك”، مقتحما عالمهما الصغير، بقيم وعادات وتصورات عالم القرية، مبديا امتلاكه حق التدخل في شئون منزلها الخاصة، وحق امتلاكها هى شخصيا، مادام هو مالك زمام الأمر فى القرية، ومادامت هى على غير دينه، ولذا فهى من سبايا المسلمين المنتصرين على الكفار .
مقابل هذه الثنائية الوافدة من المدينة المتحضرة والتى يعانى طرفيها من تناقض بين ما آمانا به وما اضطرا لمعايشته، نجد ثنائية “حمود” و”فاطمة” من أبناء نفس القرية المستنيرين، تأكيدا على أن القرية ذاتها ليست بطبيعتها متخلفة ، وأن سهلت قيمها وعاداتها مهمة انتشار فكر الدواعش، مثلما فى المدينة أيضا يظهر الاستثناء فى جماعات شلت عقلها بإرادتها، واستنامت لتقاليد وعادات وأفكار بالية، باسم تقديس السلف الزائل، فالفتى “حمود” تلميذ “ضحي” عاشق المسرح المستنير، وحبيبته “فاطمة” تلميذة “ليلك”، هما امتداد لهما جيلا وفكرا، غير أن المفارقة الفكرية والدرامية، تأنى حينما نرى التلميذ المراهق الذى عمل مع أستاذه في معهد الفنون المسرحية، ذات يوم، فى عرض (عنترة بن شداد)، يتحول أمامنا إلى أرهابى مسلح يكلف بحراسة أستاذه وزوجته ، بسبب اغتصاب حبيبته ، قاتلا فى البدء روحه المستنيرة بانتهاك روحها ، التى لا تبارحه لحظة ، بل تتجلي له فى أحلامه ، بينما هو قد وصل لقناعة أن أغنية “نسم علينا الهوى” لفيروز، والتى كانت تغنيها له محبوبته المغتصبة، لم تعد صالحة للمرحلة الدموية التى يقودها الدواعش ، ويتحرك هو كقطعة الشطرنج بأوامرهم دون تفكير ، حتى يأتى اليوم الذى يفيق فيه من غفوته ، بتأثير الفن الذى ذرع بأعماقه ، فيهرع لإنقاذ أستاذه وزوجته من إطاحة الدواعش بها ، غير أن الأخيرين ، رعبا من واقع جاثم يعمل على التفرقة بينهما ، ويصر على مطاردتهما ، يقرران الموت انتحارا ، فبيدى لا بيد الدواعش .
استخدم المخرج أسلوبا سينمائيا عبر الميزانسين والإضاءة ، فنرى فى ظلمة المسرح ذراع الممثلة أو وجه الممثل أو آلة العود فقط دون عازفها ، أو حركة الممثل ظهورا واختفاء بين النور والظل ، كما حصر بعض مشاهده فى مربعات ضوئية صغيرة ، للإشارة إلى هيمنة الظلمة على هذه القرية ، والقبول والرفض من الشخصيات للمحاصرة داخل هذه المربعات الضوئية ، كما أتاح لكلمة النص أن تتسيد العرض ، مشفوعة بقطع ديكورية واكسسوارية بسيطة فى فضاء مفتوح على جمهوره ، وأداء تمثيلي معبر وفاصل بين جدية الشخصيات ، والنغمة الساخرة فى أداء الشخصيات السلبية ، ناسجا عرضه بذكاء ، جامعا شراسة المواقف (الواقعية) ورهافة الحب والحلم ، والتى تتجلي فيها الفتاة “فاطمة” صوتا بأغانى فيروز ، وحركة كالطيف فى مشاهد الاسترجاع ، كما يمتزج التقمص فى المربعات الضوئية بوجود فرقة موسيقية عازفة ، تؤكد لنا أن المسرح لم يعد بهذه الحدة فى الالتزام بمناهج الإخراج المختلفة ، بل انسكبت المناهج فيما بينها لتصنع عروضا مثيرة للخيال ومخاطبة للعقل فى ذات الوقت .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت