الخادمتان .. وروح الخدم / د. حسن عطية
ثمة علاقة ما تربط المخرج العراقي الأصل “جواد الأسدى” ونص مسرحية (الخادمتان) للفرنسي “جان جينيه” ، فقد أخرجه عام 1994 على مسرح بيروت ، وقامت بتمثيل الخادمتين “رنده الأسمر” و”جوليا قصّار” وجسدت دور السيدة ” رينيه ديك” ، وهى السيدة التى تظهر فى نهاية المسرحية لتعيد الأمور إلى نصابها وتغلق الحدث الدرامي على قضيته الأساسية ، كالكونت فى مسرحية (مس جولي) للسويدى “سترندبرج” ، الذى يعيد الأوضاع الطبقية لمكانها ، بعد أن تم التمرد عليها خلال الحدث الدرامي . وبعدها بعدة أشهر قليلة ، وفى بداية 1995 ، أخرج نفس النص لفرقة مسرح الهناجر المصرى ، وجسد دورى الخادمتين “صفاء الطوخى” وممثلة أخرى ربما كانت “عبير لطفي” ، أن لم تخنى الذاكرة ، بينما قامت “عبير الشرقاوى” بدور السيدة . وبعدهما بسنوات أخرجها عام 2010 فى لبنان ، وعرضت على (مسرح بابل) ، وقامت بدورى الخادمتين “كارول عبود” و”ندى أبو فرحات”، وغيب المخرج الحضور الجسدى للسيدة فى العرض ، تاركا للجمهور رؤية حضور السيدة عبر تشخيص الخادمتين ، كما حدث فى العرض المغربي الحالي ، والذى قدمه مع فرقة (دوز تمسرح) للمسرحي “عبد الجبار خمران” ، وإنتاج المسرح الوطنى محمد الخامس .
يقوم العرض المغربي على طقس تشخيصى يومى يوفر تنفيسا للخادمتين فى لعبة إهانة للسيدة التى تعملان عندها ، يتطهران فيها من المشاعر السلبية المشحونة انفعاليا التى يكبتانها تجاه سيدتهما المتعالية عليهما طبقيا ، والمهينة لهما نفسيا ، والتى يشعران تجاهها ، حين حضورها ، بنوع من الشعور المزدوج من التقبل الذى يفرضه وضعهما الاجتماعى ومعاملة السيدة لهما أحيانا بحنو ، والرفض المبنى على ذات الوضع الاجتماعي الذى يضعهما فى أسفل السلم الاجتماعي دون ذنب جناتهما ، فهو ليس قدرا ، بقدر ما هو نظام اجتماعي ظالم ، يستتبعه شعورا بالانسحاق ومحاولة تدمير الآخر ، بداية بمحاولة التشهير به ، عجزا عن المواجهة ، وصولا لاغتياله ولو معنويا .
يعمق المخرج دلالة الطقس النفسى ، بظهور الخادمتين من عمق المسرح ، ترتديان ملابس سوداء شبه متشابهة ، تضع واحدة منهما “كلير” بعضا من ملابس السيدة ، على صوت قطار يتقدم ويتأخر وكأنه غير قادر على السير ، ويشرعان فى إعادة المواقف التى حدثت بينهما والسيدة من قبل ، ليستخرجا من داخلهما ما يكبتانه فى الحياة الواقعية من حقد على السيدة ، فتنهال الخادمة على سيدتها توبيخا وشتما وإهانة لها ، ثم يتبادلان الإهانة فيما بينهما ، ويكشفان عن جرائمها بالتالي . فقد انفتح اللا وعى على مصراعيه ، وتدفقت المشاعر السلبية المحبوسة تجاه السيدة ، وتجاه الأخت ، عبر صراع يتصاعد بصورة شبقية مبالغ فيها ليصل إلى قمته فى اندفاع “سولانج” لتشنق “كلير” المجسدة للسيدة ، بعد أن فقدا وعيهما المرتبط بالواقع ، وتحولا فى الطقس إلى الخادم والسيدة بالفعل ، محققين ما تمنياه يوما على أرض الوقع ، لكنهما حتى فى أجواء الطقس يفشلان فى البدء في قتلها ، لكنهما يعاودن الكره فى جو محموم ، فتشرب “كلير” من الكأس المسموم ، الذى تقدمه له أختها “سولانج” ، التى تسعى بدورها للفرار من المكان ، بينما يعاودنا صوت القطار الذى لا يتوقف أبدا عندهما .
لقد انتصرت السيدة الواقعية ، وهزمت الخادمتان فى الواقع والحلم معا ، ووصل الطقس الدموى إلى نهايته بموت إحداهما بكأس مسموم قدمته لها الأخرى ، وكان معدا للسيدة الحقيقية ، ولذا انتقل الصراع من مستواه الطبقي ، الذى ينبغى أن يكون ، إلى صراع نفسى حسي بين أبناء الطبقة الدنيا ، الذين ارتضوا بروح الخدم ، والقناعة بدونية وضعهم فى الحياة، فأنهزم التمرد ، وصعدت حركة اغتيال الذات ، والاكتفاء بسب الآخرين وإهانتهم .
لقد عادت السيدة فى النص الأصلي ، وفى النسختين الأوليتين من إخراج “جواد الأسدى” ، اللبنانية والمصرية ، عادت منكسرة ، بسبب قبض الشرطة ، على زوجها (السيد) ، الذى وشت به الخادمتين ، وفى لحظات الحزن على الزوج المقبوض عليه قررت السيدة أن تهب ثيابها إلى خادمتيها ، لكنهما يخبرانها ببراءة زوجها واتصاله بهما ليخبرانها بذلك ، محددا لها موعدا خارج البيت ، فتعود السيدة لطبيعتها الطبقية ، مثل “جوليا” مع خادمها فى (مس جوليا) ، وتترك منزلها و”سولانج” تحاول إعطاء كأس الشراب المسموم لها ، لكنها تنفلت منها خارجة ، لتعود الخادمتان إلى حالتهما السابقة ، واصلتين إلى الضياع بانتحار “كلير” وهى تشرب فنجان الشراب المسموم باعتبارها السيدة ، التى عجزتا عن قتلها فى الواقع المعيش ، وقد أدى ساعد حذف المخرج للحضور الجسدي الطاغي للسيدة ، إلي زيادة حالة الطقس الشبقية بين الأختين ، تاركا لهذه الحالة حرية التصاعد حتى الذروة المتمثلة فى قتل الأخت لأختها تحت حمى صراعات اللاوعي المنفلت من كل قيد.
صاغ “جان جينيه” هذا النص فى سنوات الحرب العالمية الثانية ، وعرض كأول نص له فى باريس عام 1947 ، فى أجواء الحديث عالميا حول الصراع الطبقي ، والتشوهات النفسية التى تنشأ عنه ، وهى التشوهات التى إذا أدركتها الطبقات الدنيا بوعى ، تخلصت منها، وتجاوزت روح الخدم ، لتطلق من أعماقها روح السيد الثائر ، الذى يدرك أن النظام الاجتماعي ليس مفروضا من أية قوة ميتافيزيقية ، بل هو نظام صنعه الإنسان ، وفرض على البعض القوى أن يكون سيدا ، وعلى البعض الضعيف أن يكون عبدا وخادما ، غير أن عرض (الخادمتان) المغربي ينقل الصراع الاجتماعي بين الطبقات ، من الحتمية الميتافيزيقية المزعومة ، إلى الحتمية الحسية ، غافلا عن دور الوعى العقلي الذى كان لابد للأختين أن يصلا إليه فى نهاية رحلة تقمص إحداهما لدور السيدة ، والحل ليس في ركوب طبقة فوق أخرى ، كما تجلي فى أحد مشاهد العرض ، بل في تحقيق العدل الاجتماعي بين الطبقات كى تستقيم أوضاع المجتمع ، ويتم الخلاص من روح وأخلاق الخدم .