الملتقى الفكري لمهرجان كلباء: المسرحيات القصيرة من النص إلى العرض/ حاتم التليلي
كيف يمكن النظر إلى المسرحيات القصيرة كواقعة تنزل بالمسرح من زاوية الجدل القائم بين النص المكتوب والعرض بما هو فرجة بصرية؟ كيف يمكن توطين مثل هذه المسرحيات كإقامة بين حدّين هما النص والعرض من زاوية الفصل والتكامل بينهما؟ ما معنى الاصطلاح عليها بالقصيرة؟ هل يعدّ ذلك مفهوما علميا ونقديا في حديقة التفكير المسرحي أم هو محض وصف لتمييزها عن غيرها من المسرحيات الأخرى؟ هل القصد هنا قصر مدّتها الزمنية المخصصة لتوقيت عرضها أم إلى ارتهانها إلى مقومات دراماتورجية وايقاعية قائمة على الاختزال والتكثيف والتوهّج من خلال حبكتها الدرامية؟ وهل ذلك يقتضي تقنيات مّا وعددا مّا من الممثلين وانتماءها إلى النصوص ذات الفصل الواحد والحدث الواحد؟ ما مكانة النص المسرحي المكتوب في المسرحيات القصيرة والوضع أن عناصرها الأخرى تمثّل شكلا من أشكال اللغة والتواصل أيضا؟ كيف يمكن صهر هذه العوالم برمّتها لتؤلف مسرحية واحدة قصيرة؟
تلك الأسئلة التي طرحها الملتقى الفكري لمهرجان كلباء تحت عنوان: المسرحيات القصيرة من النص إلى العرض، باستضافته جملة من النقاد والباحثين والمبدعين من بلدان عربية مختلفة، وحدّد برنامجه من خلال جلستين، في الأولى كانت المداخلات لرضا الجاسم ومرعي الحليان وهبة بركات وحليم هاتف، وفي الثانية كانت لنوفل عزارة وخالد الجنبي وهشام شكيب ومحمد بن هاني، وهم من المغرب وتونس والأردن ومصر والإمارات العربية، بينما ترأس الأولى الأستاذ عبد الله راشد ليكون الدكتور محمد يوسف رئيس الجلسة الثانية.
قدم حليم هاتف نماذج عديدة عن كتّاب المسرحيات القصيرة ليعتبر مولد هذه النماذج من المسرحيات مرتبطا بالسياقات ما بعد حداثية المشككة في السرديات الكبرى، وعائدا إلى روح عصرنا الراهن القائم على التسارع والتكثيف والايجاز، ليختم مداخلته على ضرورة اختزال النصوص دراماتورجيا لتصبح فيما بعد عروضا قصيرة في الزمن، مبرزا في خضم ذلك ومشددا على القيمة الاخراجية. أما هبة بركات، فقد شدّدت على مراعاة طبيعة النسق الاجتماعي المقدّم له العرض المسرحي، وتحدثت بالقول عن أن تاريخ المسرحيات القصيرة يعود إلى بداية القرن العشرين حيث تمّت الدعوة إلى تجاوز الثوابت المسرحية السائدة، وارتأت ضرورة الاقتصاد في الديكور وعدد الممثلين كضرورة لانجاز عرض مسرحي قصير، وحددت سمات واضحة من أجل ذلك تمثّلت في تحديد الموضوع الأساسي للعرض والتكثيف في كافة عناصر العمل المسرحي ومن ثمة عملية التحويل من حيث التخلي عن النص المنطوق إلى لغته البصرية الممسرحة. في المقابل، أثار رضا جاسم الذي طرح مداخلته تحت عنوان التحول الجمالي للمسرحيات القصيرة بين النص والعرض، جملة من الأسئلة حول مفهوم المسرحيات القصيرة والقصد منها زمن عرضها أم زمن أحداثها، ليستنتج بالقول أنه لا يمكن الاطمئنان إلى مفهومها بوصفه مفهوما زئبقيا، وعن رؤيته للشكل الانجازي لها حدّد جملة من المسارات الضرورية من بينها قدرة المخرج على انتقاء النصوص وضرورة تحديده رؤية اخراجية واضحة لها كأول بداية، ومن ثمة الانتقال إلى ما اصطلح بالبوح والكشف أي بتحويلها إلى عرض مسرحي قائم الذات، مركزا في ذلك على ضرورة سرعة ايقاع العرض والاقتضاب في بنية الحدث الدرامي. أما مرعي حليان، فقد شبّه المسرحيات القصيرة بقصيدة الهايكو وقصيدة الومضة، مؤكدا على أنها ضرب من ضروب الانزياح عن الثوابت الأرسطية.
في الجلسة الثانية، عقد خالد الجنبي مقارنة بين مدّة العرض المسرحي في العهود الاغريقية ومدّتها الآن، ليستنتج إزاء هذه المقارنة أن كلّ عروضنا المسرحية التي تقام الآن قصيرة بطبعها ومقابل تلك العهود، ليؤكد أمام هذه المفارقة ضرورة نحت مفاهيم واضحة للمسرحيات القصيرة خاصة وأن للسؤال مشروعيته إذا كان على التالي: هل هناك فرق في العملية الاخراجية للمسرحية الطويلة والأخرى القصيرة؟ ربّ سؤال سيعيدنا حتما إلى البحث عن ماهيّة هذا النموذج من العروض لهذه المسرحيات. أما هشام شكيب فقد تحدّث من منطلق التجربة الحيّة والميدانية له بوصفها مخرجا وباحثا، ليعطي أمثلة من المسرح الأوروبي كمسرح الجيب/الغرفة، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن لمثل هذه المسرحيات مناخاتها وسياقاتها المرتبطة بالفضاء العمومي والخاص للنمط المجتمعي التي تعيشه كل حضارة وكل مدينة، في المقابل رأى محمد بن هاني مثل غيره من المتدخلين أن المسرحيات القصيرة ما هي إلا انزياح عن قرينتها القديمة أو الراهنة، فقد شدّد على ضرورة التوليف الدراماتورجي بين كافة عناصر العرض من حيث الانارة والأداء التمثيلي والاستغماء عن المنطوق أكثر ممّا يمكن، أمّا نوفل عزارة فقد قدّم مداخلة بعنوان تجربة الزمان في العروض المسرحية القصيرة، متسائلا بالقول: “كيف نبحث عن من داخل التاريخ التطوري للمسرح على الأسباب التي ثبّتت تحوّلية الزمان في العرض المسرحي من الطويل إلى القصير؟”. وهنا عقد تقسيما اجرائيا بين العروض الطويلة والأخرى القصيرة، فللأولى علاقتها بما هو احتفالي ضارب في القدم من العهود الاغريقية، وللثانية علاقتها بما هو قائم على التسلية والتلهّي كضرورة يفرضها المجتمع البرجوازي الحاليّ، وهنا خلص إلى القول “بالزمان المسرحي المطلق أو الديمومة النسبية وهي العلاقة التلازمية الرابطة بين الزمان المسرحي الواقعي المعاش بزمان الأحداث الخيالية التي تعرض فوق الركح”. أمّا من حيث عملية بناء المنجز المسرحي القصير فقد ارتأى نوفل عزارة أنه لا بدّ على المخرج عدم السقوط في التبعية والولاء الأعمى للنص، كما يجب أن تتوفر له الخبرة والمهارة والمعرفة المسرحية.
دامت الجلستان لأكثر من ساعتين، تبعهما نقاش من قبل كافة الحضور، الذين عبروا عن تفاعلهم بمثل هذه الاشكالية، ليخلص الجميع في نهاية المطاف إلى ضرورة تحديد مفاهيم واضحة ودقيقة للمسرحيات القصيرة، بما هي الآن تفرض وجودها على الساحة المسرحية لتعكس سرعة النسق الاجتماعي الذي نعيشه.