(تجريبي القاهرة الفضي) يحلق باتجاه الضوء/ د. رياض موسى سكران
منذ ان كان حلما يداعب مخيلتنا, الى ان أصبح اليوم حقيقة ماثلة أمام العين, لم يكن ( مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي) في تقديرنا وحساباتنا أبدا مهرجانا عاديا, يضاف رقما الى سلسلة المهرجانات المسرحية العربية, فقد قاد المشروع التجريبي والمعاصر والمنفتح على ثقافات الآخر, وهو يعيد للثقافة المسرحية العربية بريقها, عبر سلسلة مبهرة من الأنجازات المتمثلة في المطبوعات من الكتب والترجمات والحلقات الدراسية والندوات الفكرية.. فضلاً عن الجانب الأهم في هذا المهرجان وهي التجارب والعروض المسرحية المنفتحة على فضاءات التجريب والتجديد والمغامرة في خرق كل ما هو سائد ونمطي, فكانت أدنى درجة تؤشر نجاحا باهرا لمجمل الأنجازات والمشاريع التي تبناها المهرجان, وهو يحقق ويتابع كل ما أنجزه المثقف المسرحي من إبداع، مصراً على ان يستقطب الجميع، ومن كل الأجيال, وبلا أستثناء ولا اقصاء ولا وصاية ولا تهميش، لأعتقاد القائمين على إدارة مفاصل هذا المهرجان الراسخ وايمانهم العميق ان المستوى الأبداعي الذي بلغه المسرحي، فكرا وممارسة، هو من العمق والأفق في فرادة التجربة وجديتها وحيويتها وفاعلية آثارها التي تكتنز صدقيتها ألما ومرارة وهم وانتماء, فضلاً عن بعدها المعرفي والجمالي..
هذا ما عمل (التجريبي) على تأكيده وترسيخه والبوح به حينما التزم بالأنفتاح على الجميع منهجا ورؤية وخطة عمل, وهو يقدم في دورته في اليوبيل الفضي, درسا في الوفاء لكل الأجيال وفي حوار الثقافات وفي احترام الأسماء وتبني الرؤى، بعيدا عن النرجسية والمزاجية التي طالما انتجت خطابا احاديا متصلباً متشنجاً..
إن المسافة بين أهدافنا والإمكانات المتاحة, ملأى بالخطوات الخضر ورفيف الأحلام, لذلك لم يقنع المهرجان بقطف الثمار القريبة الميسور قطفها من شجرة الواقع الراهن, بل راح يتعلق بزرع أشجار جديدة, لا يمل ولا يتعب من زرع بذورها وتسميد تربتها والعناية بغرسها, واحاطتها بكل عناصر الضوء والهواء والحرية, قبل ان نتسابق لقطف ثمارها اليانعة.. من هنا صار كل مسرحي يجد لنفسه في مهرجان القاهرة, فضاءا واسعا لبوح الذات, ونافذة مفتوحة على الحياة وأنماط اعادة انتاجها، فـ(التجريبي) صار محضنا خصبا لتأكيد الذات وتوالد الرؤى وبلورة التجارب، فما بلغه وحققه الكثير من مسرحيينا العرب من عزم وثقة في ذاتهم وفي مشروعهم، انما يعود في جانب كبير منه، الى ما هيأه له (التجريبي) من إمكانات الحضور والفعل والمشاركة ضمن مشروعاته وبرمجته ونشاطاته المتعددة، التي ما كان يمكن للمسرحي حتى مجرد ان يحلم بها لسعة آفاقها المعرفية وانفتاح حقولها الأبداعية وتعدد اتجاهاتها الفكرية التي جعلتنا نقف أزاءها غارقين بفعل الدهشة والأعجاب..
فالواقع المتحقق يكشف عن حقيقة ان (التجريبي) صار الذاكرة الأخصب والمختبر الأهم الذي أحتضن المشروع المسرحي المتجدد, الذي تفاعل فيه ومعه كل مسرحيي العالم، وهو يؤثث فضاءه ويرسم خطوطه في بيئة خصبة مثمرة هي عاصمة الثقافة العربية وأرض الكنانة وأم الدنيا..
وبعيدا عن عقد التصنيفات والتقسيمات والتبويبات بكل أنواعها، فقد فتح (التجريبي) أبوابه أمام الكل, والكل توجه إليه، وهو ينجز ويدع الأنجاز يتحدث بفصاحة وبلاغة، دون ان يلتفت او يتوقف عند المتربصين، نائياً بنفسه عن كل تقليد وتكرار واجترار.. فـ(التجريبي) المنفتح على كامل المشهد البانورامي للثقافة المسرحية وتجددها الدائم ونشاطها المتواصل وخطتها المحدثة.. كلها تمثل استجابة طبيعية لتلبية النداءات الآتية من آفاق المستقبل واشتراطاته وضروراته التي تؤسس ملامح المشهد المسرحي الجديد ونبضه وحراكه.
من هنا لم يكن حلمنا في (التجريبي) سهلاً, ولا قريب المنال, فهو ليس من مخرجات الصدفة, لأننا نؤمن بأن ما تأتي به الرياح تذهب به الرياح سريعا, أما ما يبقى ويمكث في الأرض لينفع, فأنه يحتاج الى عمل دؤوب وكد وجد ومعرفة, فكان لزاما ان يكون كل شيء مدروسا بعمق ومخططا له بعناية ومحسوبا بدراية, فضلا عن ذلك فان الهدف كان واضحا منذ البداية, مما جعل المسافة بين الحلم والحقيقة قصيرة جدا,هذه الحقيقة التي صارت ماثلة كشجرة لا تخطئها العين, وها نحن نجني ثمراتها اليانعة عبر شهادات ومواقف نخبة من ألمع مسرحيي العالم..
ولأن أصداء النجاح المتواصل الذي حققه (التجريبي) عبر دوراته الأربعة والعشرون الماضية قد القى على القائمين على دورة اليوبيل الفضي مسؤولية أكبر في النظر الى العرض المسرحي والى الورقة البحثية والى الشهادات التي شاركت في حلقات المهرجان, لا بوصفها مادة تستوفي الشروط الموضوعية والفنية فحسب, بل بما ينبغي ان تتوافر عليه هذه المادة من ابتكار وعمق وتجديد وصدقية ورؤية محدثة, تتعاضد عضويا مع ما حققه (التجريبي) من فعل إبداعي, فقد أكد (التجريبي) في دورة اليوبيل الفضي على إنه كان ملحمة ثقافية كبرى, لكل نظريات المعرفة وفضاءات الإبداع وتجليات الجمال في شتى حقول الفن المسرحي, فضلاً عن التأكيد على خصوصية التجربة المسرحية في مجمل حقولها وصنوفها الإبداعية, وبما يمنح هذه التجربة فرادتها وتلك الرؤية خصوصيتها وذاك الخطاب متنه المؤثر..
من هنا فان أفق (التجريبي) في يوبيله الفضي قد انفتح على مجمل فضاءات الإبداع الفكري والأدبي والفني, وعلى كل أقانيم المعرفة المسرحية, بعد توفر شرط الأبداع في أي منها, وكان ملحمة ثقافية كبرى حضرت فيها فضاءات كل أنساق الحوار المعرفي المنتج, ومجمل تجليات الفكر الجمالي الخلاق من أجل صناعة ثقافة الإحتفاء بالحياة..