مسرحية: " أحبال الكتان" تأليف: محمد اسماعيل القناوى

 
              *** اللَّوحة الأولى ***
(قبل أن تطفأ أنوار الصالة تذاع أغنية ” شادي” لفيروز، بعدها تظلم الصالة ويرفع الستار على المسرح المظلم. ومع فتح الستار، نسمع أصوات غلق أبواب الصالة. بعد انتهاء ضجيج الجمهور، يضاء المسرح على صالة في أحد المنازل، كل جدرانها زرقاء، وبين كل جدار والآخر فراغ يملأه ستار من الشبك، وعلى حافة المسرح سور خشبي يشبه سور السجن، ويمتد هذا السور ليحيط صالة النظار، وهي باللَّون الأزرق أيضًا. يوجد على المسرح مقعد هزَّاز يجلس عليه الأب، وفي منتصف اليمين مقعد متحرك للجدة. في أعلى اليمين موقد فحميٌّ قديم ” كانون ” والأم تجلس أمامه. في أعلى اليسار مكتب يجلس عليه الابن، وفي أوسط اليسار تجلس البنت و أمامها ” طبلية ” المنزل ليس ريفيًّا، ولا حضريًّا، ولا حديثًا، ولكنه خليط من هذا كله. ملابس الأسرة والأثاث بلون الجدران. يوضع راديو كاسيت في الواجهة. بعد إضاءة المسرح، ورؤية كل أركانه، يظلم كل المسرح عدا بؤرة ضوء على الأب، وهو يحل الكلمات المتقاطعة).
الأب: مغرد.. أفقيًّا . . .  طائر مغرد. . . معكوسة
الابنة: أبي، أريد صحنًا من العسل.
الأب:أربعة أحرف…
الأم: هل اشتريت البصل ؟
الأب: أربعة رأسيًّا… كائن حي…
الأم: اليوم موعد سداد الإيصال.
الأب:أربعة أفقيًّا… هدف إنساني غير ترف.
الابن: حضر اليوم جاويش وطلبني، قال أنني بلغت العشرين أمس.
الجدة: إنهم يحتفلون بذكرى ميلاده، وأنتم قد نسيتموه.
 الأب: الكلمة معكوسة… وأربع حروف أيضًا…
الأم: الخبز الذي لدينا جفَّ، وأصبح غير صالح للأكل… لقد أقام عليه العفن وليمته.
الابن: اعطيني لأشتري .
الجدة:أو أجلب لنا بعض الحنطة.
الأم: (تهز رأسها في سأم معلنة الاستنكار) آه، ما دمت أنا أمام التنور.
الأبواحد رأسي… ما أتمناه.
الابن: هل سأذهب لهم،  أم أنهم يذكرونني فقط؟
الأب:معكوسة  أيضًا، وأربعة  حروف…  كل الكلمات أربعة حروف، وكلها متشابكة، واحد أفقيًّا طائر مغرد… آه، مغرد… آه، شادي،  يميل ليكتب، ويضاء على الكاسيت حيث تغني فيروز “أنا وشادي غنينا سوا”
                                       (إظلام تام)
(يعاد الضوء على الراديو وفيروز تغنيع الثلج“)
الابن: اطفئ المذياع، أريد أن أذاكر.
الأب: (متجهًا للأم) ذكِّريه، كم مرة قلت له أنه شريط مسجل.
الأم: (تتجه للابن) كم مرة قلت  لك ولم تسمعها للنهاية ؟
البنت: أنا لا أرى أية مشكلة، الأغنية بها قصة جذاابة، فقط أنا لا أحب أن أسمع نهايتها.
الابن: سحقا لهذه الكلمات (للأب) هل تستطيع أن تقول لي من هو شادي؟  وماذا يهمنا من أمره ؟
الأب:لست أنا هذا شادي، إنه  فقط صفة أعرفها من خلال معجم اللغة، وهو لغز من هذه  الشبكة من  الكلمات  المتقاطعة  المتوتِّرة.     
الابن: ولا أنا هذا الشادي، ثم أننى لا أستطيع أن أشدو، ثم أنَّ هذا الشادي قد مات (للأم) قولي له إنَّ الشادي قد مات، هي تقول: “ضاع شادي. . .” ثم إنه لا يشبه أحدًا عرفه… (للبنت) هل يشبه أحدًا تعرفيه؟ (للجدة) هل يعرف أحدًا نعرفه؟ (للأب) إننا لا نعرف عنه أيَّ شيء حتى، لا نعرف شبهًا له، أو معروف لدينا أحد يعرفه. . . لماذا إذن مُصرٌّ على أن نسمعه. . هه. . ثم إنَّ هذا الثلج اللَّعين مثل هذه الشبكات اللَّعينة، مثل هذه الأحبال الكتَّانية.
البنت: ربَّما يشبه هذه القضبان الكتَّانية. ربَّما، لكن من هؤلاء الناس الذين يتقاتلون؟
الأم: كل تلٍّ بلا عمار به قتال.
الأب: كل تلٍّ به محاولة للعمار به قتل.
الجدة: كل التِّلال بها قتال.
الأب: نعم، كل التِّلال بها قتال، عدا التِّلال المغلقة بالجبال الموحشة.
الابن: مثل هذا البيت.
الأم: (باكية) مثل هذا البيت.
الابن: لا تبكي، لن نسمع هذه الأغنية ثانية.
الأب: أنا لا شأن لي  بهذه  الأغنية.
الجدة: صه (صمت للأم) لما لا يشتغل مذياعكم منذ عام؟  أود أن أسمع أيَّ أغنية مسلية أو حتى مأساوية. (تتجه ناحية جهاز التسجيل، تخاطب الأب). . اعطني هذا الجهاز، وأنا أبحث عمَّا أريده.
الأب: ( يعطي الجدة الجهاز، ويتجه نحو الموقد ).
الجدة: إنَّ الجهاز خرب،  ليس به أي مصدر للطاقة، لِمَ لم تشتر له موصل الكهرباء، أو حتى بطارية ؟ اعطيتك ثمنها أكثر من مرة! (الأب ينظر تجاهها، ويحاول التذكر، ثم يشيح بوجه ناحية الموقد)
الابن: ولمَ يشتري؟  إنَّ هذا المذياع مزعج، وأنا لا أعرف المذاكرة بجواره.
الأم: (تنفخ في نار الموقد، يخرج دخان، يسعل الأب و هي تدمع)
الجدة: (للابن) خذه إذن، وخذ اشتري له توصيلة الكهرباء، أو بطاريات.
(الابن يأخذ الجهاز، ويضعه مكانه ثم يتجه ويحضر كوب ماء للأب، الأم تزيد النفخ، يسعل الولد، ثم البنت، ثم الجدة.)
                                              
                                   (تخفت الإضاءة حتى الإظلام التام )
 
                                                   *** اللَّوحة الثَّانية   ***
الابن: أين شاهدت اليوم، و أنا عائد من الدرس الرَّجلَ الطيبَ؟
الأب: الرَّجل الطيب دائمًا أمرُّ عليه، ودائمًا ما يشيح بوجهه عنِّي.
البنت: الرَّجل الطيب، اعتدت أن يباركني في ذهابي و عودتي.
الجدة: ما شكل الرَّجل الطيب؟ أنتم تتحدَّثون عنه، وما شاهدته عمري.
الأم: الرَّجل الطيب قمحي الوجه.
الأب: لا، بل أبيض.
البنت: الرَّجل الطيب، منوَّر الوجه، فيه صفاء السماء بعد ما يغسلها المطر، فيه نقاء النهر، وطهر قلب الطفل.
الابن: الرَّجل الطيب… الرَّجل الطيب، هل للرَّجل الطيب لون؟ كنت رأيته يومًا أسمر، ويومًا أبيض، واليوم رأيته يحمل كل ألوان الدنيا.
الجدة: الرَّجل الطيب، الرَّجل الطيب… أرهقني كلامكم عن الرَّجل الطيب. كنت أزور على كرسيي هذا بعض جيراني، وبحثت في طريقي عنه، ولم أره.
الأب: الرَّجل الطيب يا أمي، يأتي لزيارتنا، لكنك حين يجيء تغفين.
الأم:  بل تجلس معه ومعي، وتسمع من حواراته وأقاصيص النور، ورأته أمس وهي تجلس معي في الشرفة يمر أمام المنزل، أم تراك لا ترين ما أراه ؟
الابن: كانت جدتي بالأمس تذكر أنَّ الرَّجل الطيب، قد جاء إليها قبل أن  تجلس على هذا المقعد. هل كان رجلًا طيبًا آخر يا جدة؟
الجدة: (تعطي ظهرها إليهم، وتتناول غزلًا لجاكت قديمتريكو، تنفض من عليه التراب، فيملأ الغرفة، فتسعل)
 الأب: أمي، إني أذكر هذا الرَّجل، وأعلمه من مهدي، وأنت تهدهدين فراشي، وتحكين عنه حكايات قبل النوم.
الأم: لا زالتْ أمك تقتل أيَّ ميلاد للرَّجل الطيب لدينا .
الابن: لازلتِ يا جدة تنفين طيبة هذا الرَّجل ، وأنا أعلم أنَّكِ كنتِ تشاهدينه ، وأعلم أنَّكِ وحدك تعلمين لون الرَّجل الطيب؟
البنت: (للأب) لم تلبث أمك تجمع خيوط الغزل من الرَّجل الطيب… ولكن لا أعلم من أين مُلِئ بالغبار، قل لها يا أبي، أن ترمي هذا الغزل، وتطلب غزلًا آخر من الرَّجل الطيب ، أنا أعلم أنه سيعطيها غزلًا آخر طيبًا.
الجدة: (للأم) قولي لأبنائك، قد ذهب الطيِّب إلى حيث ميلاده الأول، علِّميهم أنَّ السيول أغرقت الرِّجال، وألهبت طيبتهم نيران القنابل والبراكين، فماتوا كما مات الرَّحم الطيب، وهاكم أباكم، هل هو طيب ؟!
الابن: يا جدة، كيف يكون رجلًا طيبًا ؟ كيف أكون أنا رجلًا طيبًا ؟ يا جدة، إني أحبك، وأود أن أعرف كيف تحبينَني؟ لو كنت عرفتِ الحب، فأنا أستحلفك بالحب، قولي لي كيف أقابل الرَّجل الطيب، أو كيف ينفذ لي أو أنفذ له، وإن لم تقولي، فاللَّعنة على كل كلامك الذي يشبه قضبان الكتَّان .
الأب: أمي، عرفت من الرَّجل الطيب حلَّ ألغاز الكلمات، وكنت أيضًا طيبًا، لكن حين جلسنا هنا، واكتست هذه الأبواب بسياج الكتَّان القاسي، ضاع منِّي مفتاح الحلِّ… حلُّ الألغاز، ألغاز الشبكة…  شبكة الكلمات، لكني أشغل نفسي بالحل؛ كي أعرف يومًا حلَّ شيءٍ بعد أن فارقني الرَّجل الطيب .
الأم: (للجدة) أنت تودين أن ينسى أولادي رجُلهم الطيب؛ كي يظلوا مثل ابنك، سجناء الشبكات الملغوزة … شبكات الكلمات المتقاطعة المنثورة، لكن ابني سيعلم كيف ينفذ للرَّجل الطيب (للأب) حذِّرها أن تقتل أحلام الأبناء، الرَّجل الطيب أتى ويأتي وسيأتي دومًا (للبنت) ألم يعطك ويبصرك جمال الكون ويبارككِ في ذهابك ومجيئك …؟ (للابن) ألم يحرِّك سكنات أفكارك وأشعارك؟ (للأب) ألم يعلِّمك يومًا الحب فأحببت…  قل للجدة إذن، اليوم ينشدون نشيد الطيب، وجمال الكون… ذكِّرها كيف عرفتَ الرَّجل الطيب معها ومعي في هذا المكان… قبل كتَّان الموت هذا.
(الأب يدنو من مقعد أمه؛ ليذكِّرها، فتنفض الغزل، ويخرج تراب آخر، فيسعلان. ويأخذ الابن كوب الماء، ويقترب من أبيه؛ ليعطيه إياه. تأتي الابنة، تربت على ظهر أبيها.  تقترب الأم ناحية الجدة؛ لترى ما في يدها، تأخذه منها تنفضه كثيرًا، فيخرج تراب وفير. الكل يسعل.)
                                               (إظـــــــــــــلام)
 
 
                                              *** اللَّوحة الثَّالثة  ***
 
(يضاء المسرح، وكل فرد من أفراد الأسرة في مكانه الأول. تذهب البنت إلى الجدة، ويدور بينهما حوار غير مسموع، ثم تتركها وتذهب ناحية الأب…)
البنت: إنه يملؤني بأشهى عسل.
الأب: أشهى عسل؟
البنت: يملأ كل أقداحي بأشهى عسل يا أبتِ.
الأب: هو علَّمني حلَّ الكلمات المتقاطعة.
الجدة: وتعلمتها والتعت بها، ولكن لم تستطع حلَّ شبكة كاملة.
الأب: نعم، التعت بها، لكنه لم يعلِّمني كيف أتمُّ الشبكة.
الجدة: لِم لم تسأله أن يعلمك إتمام الحل؟
الأب: سألت، فقال لي تعلَّم أنتَ، ابدأ، وجرِّب، وتعلم من خطئك، وما أسأله الآن عن حلٍّ لرمز الكلمات إلَّا وشاح بوجهه عني.
البنت: الرَّجل الطيب أهداني مرآة يا أبتِ، فأبصرت شعري جميلًا، ورأيت وجهي جميلًا، وشاهدت الكون الموجود حولي جميلًا.
الجدة: مرآتك لا تدوم.
الأب: أمي، دعي ابنتي وشأنها، فالرَّجل الطيب أعطاها هي، وعليها أن تحافظ على مرآتها.
الأم: أمك دوما تحبط فرحة أبنائي بعطاي الرَّجل الطيب.
الأب: أمي تتكلم عمَّا حدث لي (يذهب الأب إلى البنت ويحدثها) وأنا مثلك، أعطاني مثل ما أعطاك، لكن مرآتي كادت أن تطمس.
البنت: (للأم) الرَّجل الطيب يبصِّرني ويعطيني.
الأم: عيشي يا ابنتي بعطيتك فرحة، على أن تحافظي عليها ولا تعبئي بكلام أبيك وجدتك.
الابن: الرَّجل الطيب أعطاني قلمًا يكتب كل أشعار الدنيا، وقال اكتب. بحثت عن ورق أبيض فتعبت، ولم أجد، فما تابعت.
الأب: (بلهفة) فماذا فعلت؟
الابن: ذهبت إليه.
الأم: ماذا قال لك ؟
الابن: قال ابحث، ولا تنسب فشلك للتعب.
البنت: وبحثت؟
الابن: فارتعت…
البنت: ارتعت؟
الجدة: البحث يعني أن تبحث عن غير الموجود.
الابن: بل موجود يا جدة، وعليَّ أن أبحث.
البنت: أنتِ يا جدة، تسلميننا دومًا لليأس والقنوط.
الأم: (للأب) اجعل أمك تكف عن إحباط أبنائي.
الجدة: (للأب) ما كرهت أبناءك عمري (” للأميفضل أن يعبر عن هذا المنولوج بشكل حركي ما ) لكني أخاف عليهم أن يحيوا مثلي على الحلم، فيأتي وحش الدنيا ليلتهم الحلم، وتشل الحركة، ويمر الزمن ، فيجدوا أنفسهم فوق كرسي حديدي، لا يشعر بالشوق إلى الحركة. كنت فى زماني أعيش كالأرض والشمس، تشرق فتحيي خلجات الكون. كنت أحيَا بالنور، لا أشعر بسعير أو زمهرير، ثم جاءت فئة لا أعلم عنهم شيئًا، جاءوا من شتَّى بقاع الدنيا، أكلوا الحقل، فبات زوجي حبيس حصير، وأرض أجهضت نبتها .
الأب: أمي، هذا حدث منذ زمنٍ بعيد، أمَّا اليوم فلا يحدث…
الجدة: (تقاطعه) بل يحدث دومًا، مادامت هذه الدنيا تحمل في أحشائها من يعشقون النار.
الابن: جدتي، قد عشتِ حياتك، فدعينا نحيا ونجرب.
الجدة: إني أخاف عليكم، فأحميكم داخل رحم هذا البيت.
الأب: أحبال الكتَّان.
الابن: شبكة تلتف على ساقيَّ، كأنِّي أحلم بالوحش يلتهم أعضائي.
البنت: عد للبحث.
الأب: وأحبال الكتان؟
الابن: أين السير؟  الحبل يكبلني.
البنت: هلَّا مزقت الحبل؟
الابن: لا، ذهبت إليه.
الأب: ذهبت إليه ثانية؟
الابن: ذهبت إليه ثانية.
الأب: هل أعطاك سكينًا أو مقصًّا؟
الابن: قال لي قص.
البنت: قال لي أيضًا قصِّي.
الأب: وما الذي تقصِّينه ؟!
البنت: أغلال النحل؛ كي يعطي عسل النحل.
الأم: النحل يلدغ وجنتيك، فتحمر.
البنت: ( ضاحكة في خجل) هل معنى هذا…؟
الأب: (للأم) لازالت حمرة وجنتيك، ولازال النحل في خلاياك، هل هذا أيضًا من الرَّجل الطيب؟
الأم: عسل الرَّجل الطيب للفتيات .
الأب: ولكِ؟
الأم: الأمهات نهاد درارة، يعطيهم مثل ما يعطيني الصبر.
الجدة:هل صبر الرَّجل الطيب مثل الصبر الذائب في حياتي؟
الابن: لا معنى لهذا السؤال يا جدة، إلَّا أن تعكِّري لنا صفو حياتنا.
الأب: أمي تسأل، أمك لا  تلفظ.
البنت: (للابن) كنت رويت بالأمس قصة أحبالك  وأشعارك،  قصة أحبالك وأشعارك  مع  الرَّجل الطيب، هل أنهيت القصة؟
الأب: لم أنهها بعد.
الابن: ربَّما أوشكت على الإنهاء؛ لأني عرفت كيف أبدأ.
البنت: يا جدة، هل رأيت الرَّجل الطيب، أم ما زالت تنسين؟
الجدة: لم أخرج هذا العام من مكاني لأراه.
(تخفت الإضاءة، ويعود الأب لحل الكلمات المتقاطعة في بؤرة ضوء)
الأب: أربعة أفقيًّا …
الابن: ثمن الكتاب قد زاد.
الأم: غدًا سنشتري موقدًا بالوقود الذاتي، لقد زاد ثمن الفحم.
الأب: متى ذهبت آخر مرة للدرس؟
الابن: بعد آخر أجر قد دفعته.
الأب: ال… شين كائن حي…
الأم: نفذ الفحم.
الأب: شجرة.
البنت: نفذ الفحم.
الأب: جيم…
الابن: نفذ الفحم.
الأب: راء…
الجدة: ( تتجه الجدة نحو الموقد) أرِني
الأب: هاء…
(الأم، الابنة، الابن) :  نفذ الفحم.
الأب: سنشتري غدًا.
(الجدة تنفخ في رماد الموقد)
البنت: أبي، أين العسل؟
الابن: أريد ثمن الكتاب، هل ستذهب معي للجاويش؟
الأم: متى موعد تقاضي الراتب؟  صاحب دين الإيصال على الباب.
(الجدة تملأ الغرفة دخانًا، الجميع يسعل بشدة)
                                   (إظــــــــــــــــــــلام)
 
                                              *** اللَّوحة الرابعة  ***
(يضاء المسرح، والابن يزيل أقرب ستارة منه)
الأب: هل ستنجح ؟
الابن: لا أعلم.
الأب: هل ستفشل؟
الابن: لا أعلم.
الأب: هل قال لك الرَّجل الطيب افعل هذا؟
الابن: هذا، لا، لكن قال افعل.
البنت: هل تكتب شعرًا؟
الأب: هل الشِّعر هدام؟
الجدة: أوقفه عن هذا الفعل؛ فلقد عشت في ظلامي هذا وتعوَّدت عليه، وتعوَّدت على هذا الجو، أوقفه عن هذا الفعل. الضوء القادم يصدم عيني، والهواء الخارج يدخل يوخذونى.
الأب: كُفَّ عن فعلك هذا؛ جدتك تتألم.
الأم: ادفعه؛ كي يتقدم.
الجدة🙁 تتأوه) يا أيها الابن الجاحد لدفء الجدة، إني أتألَّم ألمَ الموت.
الابن: لن أقتلك يا جدة، أنا أتبارى ولفائف كتان النوم.
البنت: أتمنى أن يحضر الرَّجل الطيب؛ ليراك وأنت تبحث عن أوراق الشعر.
الابن: هدفي أن أشعر، لا أن أكتب شعرًا، أنا أبحث عن ثمن كتاب، أهدم جدران الألياف كي أشعر؛ حتى يتسنى لي الشعر.
الأم: أوصيك ألَّا تنسى أباك، اصحبه معك، اجعله أيضًا يشعر.
الأب: قف، أمي تتألم.
الجدة: أوقفه يا جدَّ اللَّاشيء.
الابن: سأنجبه حفيدًا طيبًا، خارج هذه الأحبال، سأنجبه من النور، وطيب هواء الكون. هنا في هذا القبو لا يصلح أن أنجب أحفادًا.
الجدة: أوقفه يا ابن الأيام المُرة.
البنت:لا  يا أبي، اجعله يهدم سياج هذا السجن، فأنا مشتاقة لأرى الغرفة بعد الهدم .
الأم: بعد الهدم، يتَّسع الباب لإدخال موقد ذاتي الوقود؛ حتى لا يسعلنا دخان الفحم. سيدخل هواء جديد، ويخرج الغبار الذي تخرجينه من أشيائك القديمة.
الابن: (للأب) هل ستشاهدني فحسب ؟ ألَا تأخذ شرف الفتح، هلمَّ يا أبي، مزِّق أحبال الكتَّان التي تلتف حول الساق فتعيقك، هلمَّ يا أبتِ، ابحث في هذا الكون عن سر اللغز.
الأب: لغز الكلمات؟
الأم: لتكمل حل الشبكة.
الجدة: هل  تقتلني معهم؟ أنا أمك أنت، لا تقتلني معهم.
الابن: هيَّا يا أبتِ، شاركني شرف الفتح.
الأب: لا بل هذا قتل، أتقتل أمي؟ أهي وصية الرَّجل الطيب ؟ الرَّجل الطيب لا يوصي بالقتل.
الجدة: أعياني الضوء، أنا هلامية يقتلني هواء الخارج.
الأب: أتدخل الموت على أمي؟
الابن: بل ينصب الموت على السجن.
الأب: هل ستنجح؟
الابن: لا أعلم.
الأب: هل ستفشل؟
الابن: لا أعلم.
الأب: لماذا تقتل أمي اذن؟
الابن: أنا لا أقتل، أنا أتحرَّر.
الأب: لكن الضوء وهواء الخارج يقتلها.
الابن: وما ذنبي لأحيا متعفِّنًا ؟
البنت: يا أيها الرَّجل الطيب، أضفي بنورك، وطيب هوائك  على أحلامي فجرًا، أحمله طفلًا أنجبه ولدًا طيبًا يحيا في الكون، ويصير رجلًا طيبًا مثلك.
الجدة: أنا أختنق، إنه يتقيأ على ضوء بارد، وصل إلى حلقومي.
الأم: اخرج هذا الدخان، هل رئتى تستنشق ايامًا؟
الابن: أنهيت نصف جدار، أحبال الكتَّان الصلبة ترهق ظهري، هلَّا ساعدني أحد منكم؟
البنت: الرَّجل الطيب قادم؛ ليحكم أفكار الكون.
الابن: هلَّا ساعدني أحد منكم؟
الجدة: الموت يتسلَّل إلى ذاتي.
الابن: هلَّا ساعدني أحد منكم؟
الأب: أستحلفك أن توقف فعلك.
الأم: أستنشق من فتحة هواء .. وعاود فتحًا آخر.
(الابن يفرد ظهره، يستنشق هواءً ثم يعود لإزالة السِّتار، الأب يستنشق أيضًا)
الأب: إن الفتح أدخل هواءً طيبًا . . لكن لا أدري ما سبب موتك منه يا أمي؟
الابن: لا تأبه، وتعال لننجز فتحًا أكبر.
البنت: الرَّجل الطيب مدَّ يداه، مسح على صدري فأجلاه، نفث في قلبي فأحياه. النحل يغني ويسقيني من شهده فما أحلاه.
الأم: أنا أتوسَّل يا أيها الرَّجل الطيب، الصبر منك ما أحلاه.
الأب: أنا لن أمنعك.
الجدة: تتركه يقتلني.
الأب: لن أفتح معه.
الجدة: امنعه يا جاحد، الموت يأتي ليأخذ أمك، وأنت لا تفعل شيئًا؟!
الأب: كي تحيي يا أمي، نموت نحن في سجن من أحبال الكتَّان، حاولي أن تحيي معنا.
الجدة:لا تنسى أني أحبك.
الأب: وأنا أبقيت عليك، برغم سجنك لي ولأبنائي. كنت سجَّانة يا أمي: سجن من الخوف، من شبح مجهول لا نعلنه إلَّا تاريخًا، لن أمنع أبنائي أن يحيوا أحرارًا في هذا الوجود، أين يلاقون الرَّجل الطيب.
البنت: ونحيا في وجود طيب، نفرشه خضره تحت سماء زرقاء بصفاء الألفة. سنحيا يا جدة، أحرارًا في هذا الوجود من أجل حياة أحلى .
الجدة: (وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة) الموت، الخوف، أموت من الخوف. خوفي من ألغام الحرب، وقنابل سطو الإنسان على الإنسان، وقتل الحريات، والانحيازات العمياء إلى لون، أو عرق، أو جنس. وأد الإنسان للإنسان بدعوى المذهب والأديان. الخوف من سطوة مجهول لكن موجود. عليكم أن تحيوا لكن اوعوا لحياتكم… (تموت الجدة
الأب(وهو ملقى بين قدمي أمه) وا أماه، وا أماه… (يبكي بشدة)
الابن: آخر حبل سأنزعه من هذا المانع، أنا قادم، أنا قادم… (وهو يخرج)
الأم: أنا في انتظارك.
 (تخفت الإضاءة تدريجيًّا، حتى الإظلام التام)
 
                                        *** اللَّوحة الخامسـة  ***
الأب: (بؤرة ضوء على الأب وحيدًا على المسرح، وهو ينظر إلى المقعد المتحرك، وقد خلا من الجدة) ما كنت جاحدًا، ما تركتك للموت بإرادتي، وما كان لي أن أختار لكِ موتًا أو خلودًا، ولكني حاولت أن أبقي عليك رغم تعاسة أيامي معكِ (ينهض من مكانه ويحاور المقعد بعد أن يزجه) نعم كنت تعيسًا معك، لا تقولي لي أيام طفولتي، فأنا لا أدركها الآن. أنتِ وحدك التي عشتها، واستمتعتي بها، إنَّما أنا حين أدركني الوعي. ما وعيت إلّاَ على قهرك لي، على شمِّ الدخان، وغبار الأيام. لا تتَّهميني بالتكاسل عن إنقاذك من الموت. جاهدت كل الأحلام الحلوة، ورضيت بالفشل في سبيل ألَّا أكسر قيودك الكتَّانية. وكنت يا أمي، تقفين في سبيلي؛ كي ألحق بالرَّجل الطيب، هذا الرَّجل الطيب الذي عرَّفتيني به، وعلَّمتيني أن آخذ منه، لكن لا أدري، لِمَ كنت دومًا تطردينه من أيامي، وأيام أبنائي، وأيامك. تلك الأيام الأخيرة التي دامت ما يربو عن قرن من الزمان، كنت تطردينه بالسعال، ودخان التنور، وبكاؤك في وجه الصباح. كان وفاءً مني الحفاظ على بقائك. ورغم صممك عن هذه الأغنية كنت أسمعك تردِّدينها (نسمع أغنية شادي مع فلاش باك، نرى الجدة والابن وهو صغير تهدهده ثم يكبر الطفل تدريجيًّا في حركة تعبيرية تجسِّد لنا إقبال الأم وابتهاجها، ثم تنزل بانوراما بها مشاهد من الحروب العالمية، وحادثة هيروشيما ونجازاكي، وحرب فيتنام، وحادث تشيرنوبل وعند كلمة ضاع شادي، تجلس الجدة على الكرسي المتحرك، ويتغيَّر الديكور إلى ما كان عليه في المشهد الأول من ستائر كتَّانية، والأب يحل الكلمات المتقاطعة، والجدة تعطيه ظهرها.)                                                                   
                                   (إظـــــــــــــــــــــلام)
 
                                        *** الخاتمــــــة  ***
(يضاء المسرح على الغرفة، وقد أزيلت كل الستائر الكتَّانية، وقد أصبح بها باب للدخول، وباب للخروج، وشرفة في المواجهة، و موقد غاز مكان الموقد الفحمي. الأم تجلس بجوار الشرفة، والأب يجلس على مقعد يحل الكلمات المتقاطعة )
الابن:أبي، هلمَّ معي، قد جاء النور، أنظر إنه يملأ كل أركان البيت. أبي، تصوَّر أنَّ للبيت باب للخروج، وباب للغرفة.
البنت: (تدخل من باب الغرفة) أمي، قد وجدت ” المطبخ” داخل الشقة، يجب أن ننقل هذا الموقد للداخل، ونُعدَّ هذه الغرفة لاستقبال الرَّجل الطيب.(تبدأ البنت والأم في إدخال الموقد للداخل)
الابن: أبي، أستحلفك أن تأتي معي؛ لنقابل الجاويش. أبي، دع هذه الشبكة ما دمت لا تجيد حلَّها. أبي، إن لم تأتِ معي فسأذهب وحدي (صمت) ودون أن أودِّعك.
البنت: (تدخل ووراءها أمها) أبي، حاول أن تأتي معنا؛ نقابل الرَّجل الطيب. أبي، لقد دخل النور إلينا، فأضاء لنا الطريق، وفتح لنا الأبواب، عرفنا كيف نحيا.
الابن: أنا قادم إليك يا رجلي الطيب، أنا آتٍ أيها الضوء.
البنت:يا أتون الكون، يا رحلة ضوء السنين، ويا عمر الأيام، والألوان، والأحلام. يا هذا القدم الذي يمحل عمرا آخر للنور… إن ضوءك يسحبنا من الثغر الوضاء لوجود بكر… لا يحمل بداخله إلَّا الخضرة، وهواءً نديًّا طيبًا.
(يخرج الابن وخلفه البنت، تخفت الإضاءة ثم تعود على الأم وهي تجلس بجوار الشرفة، والأب على مقعده يحل الكلمات المتقاطعة )
الأم: صادفني الرَّجل الطيب.
الأب: (ينظر لها، ثم يعاود حل الكلمات)
الأم: أعطاني قيمة دين الإيصال.
الأب:  (يتنهَّد ويخرج من أحد جيوبه بعض المال، ويقوم فيخرج من الباب المؤدي للخارج)
الأم: (تنظر إليه وتخاطبه) الرَّجل الطيب ذهب للجاويش.
الأب: (يعود، ويجلس مكانه)
الأم: ابنك تأهَّل للتَّجنيد، تجنيد طيب، وجديد، ويحمل معه معولًا، وبعض بذور الخضرة.
الأب: (يقطب جبينه، ثم ينظر في الجريدة)
الأم:هل أصلحت جهاز التسجيل؟
الأب: (يهز رأسه مشيرًا بالنفي)
الأم: لعلَّك صادفت الرَّجل الطيب اليوم؟
الأب🙁يهز رأسه مشيرًا بالإيجاب)
الأم: هل ساعدك في حل رمز الكلمات؟
الأب: (يهز رأسه مشيرًا بالنفي)
الأم: هل أحضرت البصل؟
الأب: (يهز رأسه مشيرًا بالإيجاب)
الأم: كم بقي علينا من دين ؟
الأب: (يرفع كتفيه معلنًا عدم معرفته)
الأم: ماذا سنفعل عند الإيصال القادم ؟
الأب: سأنتحر…
(تخفت الإضاءة، ثم تعود على الابن، وهو يحمل أدوات   الزراعة، ويرتدي الزي العسكري، ثم تدخل البنت، وهي تحمل أدوات مشابهة. يسلِّمان على أمّهما ويقبِّلانها. يقف الابن، أمام الأب، والأب ممسك بالجريدة والقلم. يهم الأب لتقبيل الابن، لكن الولد يخرج مندفعًا، البنت تكرِّر نفس   الفعل، يجلس الأب، ويحل الكلمات المتقاطعة)
الأب: ما تمنَّاه، من أربعة حروف معكوسة ؟
 (تخفت الإضاءة، ويقف المشهد ليعبر عن مرور الزمن، ثم بعد أن يعود الضوء، تدخل البنت وهي حامل، تقبل أباها ثم  تتجه إلى الغرفة الداخلية)
الأب: آخرها ياء؟
الأم:ألن تدفن هذا المقعد؟ (تشير إلى المقعد المتحرك) أو تبيعه (روبابكيا) كما نفعل في الأشياء المهملة.
الأب: حلمي (يأتي من الخارج صوت بائع الروبابكيا) مطلب إنساني غير ترف.
صوت البائع: من يبيع القديم…
الأب: أولها حاء.
صوت البائع: تخلَّص من مهملاتك…
الأب: آخرها تاء مربوطة.
صوت البائع: ترتاح من تعثراتك…
الأم: (تأخذ الكرسي وتخرج، يأتي صوتها من الخارج) خذ أيها البائع.
الأب: تاء، تاء، تاء…؟
الأم: (تدخل ومعها بعض المال، تقترب من الأب، وتعطيه النقود)
الأب والأم: حـــــريـة.
الأب: (يكتبها، ثم يطوي الجريدة، وينادي على بائع الروبابكيا، ويخرج من باب الشقة، ويأتي صوته من الخارج) خذ يا هذا، هذه الجريدة مع صفقة الكرسي.
                                             (ســـــــــــــــتار)
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت