الرائدة سكينة محمد علي والعزف على أوتار السينوجرافيا/ د. عايدة علام
رغم أهمية الصورة المرئية في المسرح ، إلا أن صائغ هذه الصورة الأساسي ، وهو مصمم الديكور والملابس ، أو مصمم السينوجرافيا ، غالبا ما يكون قابعا في الظل بعيدا عن أضواء الإعلام والنقاد والجمهور ، فالجمهور يذهب دوما للمسرح الذي يمثل فيه فلان متأكدا أنه سوف يرى عرضا متميزا ، نظرا لتميز بطله المعروف ، ويسعى الإعلام غالبا نحو العروض التي يقوم بها النجوم لجاذبيتهم قبل جاذبية العروض ذاتها ، ويهتم النقاد بالنصوص التي يكتبها كتاب يعرفون عنهم الجدية ، ويقدمها مخرجون أثبتوا جدارة على المسرح ، وقد يغامرون برؤية كتاب أو مخرجين أو ممثلين جدد ، لكن لا أحد يذهب إلى المسرح منجذبا لاسم مصمم السينوجرافيا . وبالتأكيد سيرد البعض قائلا بأن السينوجرافيا لا تقيم نصا ضعيفا ، ولا تسند مخرجا بلا رؤية ، ولا تساعد ممثلا فاقد الموهبة على الظهور ، وقد يصل الأمر بالقائل – وقد وصل بالفعل – إلى القول أن أمر الصورة المرئية هو من اختصاص المخرج أساسا ، وهو صاحبها وحده .
لا أريد هنا افتعال معركة بين مصممي السينوجرافيا والمخرجين ، بل أشير فقط إلى أهمية المسرح كعمل جماعي ، يقوده المخرج كقائد (مايسترو) للعرض ، ولكل عازف إبداعه مع آلته داخل هذا البناء الهارموني للعمل الفني ، ومن هؤلاء العازفين المتميزين ، نقف عند مصممة السينوجرافيا المتميزة سكينة محمد علي ، التي نجحت خلال أربعة عقود كاملة ، من نهاية خمسينيات لنهاية تسعينيات القرن الماضي ، في أن تترك بصماتها الرائقة بفضاء المسرح المصري ، وشاركت في تصميم ديكورات وملابس أبرز عروضه ، وعملت مع أهم مخرجيه ، وأكدت بموهبتها وطاقتها الفذة على قدرة المرأة المصرية على أن تؤكد وجودها إلى جانب الرجل في مجال من أصعب مجالات الإبداع المسرحي ، وأقله ضوءا ، متسلمة الراية مع زملائها من الإيطاليين الذين انفردوا بعمل الديكورات المسرحية منذ بداية تعرفنا على المسرح حتى نهاية الخمسينيات ، فاتحة الطريق للرواد الأوائل من خريجي قسمي الديكور بكليتي الفنون الجميلة والتطبيقية ، وأوائل خريجي قسم الديكور بالمعهد العالي للفنون المسرحية ، لتأكيد الذات في هذا المجال المتميز من مجالات صنع الصورة المسرحية ، ومن ثم فهى تجمع بين الريادة عامة ، والريادة النسائية خاصة ، وعانت بالضرورة في بداية عملها بمجالها ، كما عانت معها المرأة وقت دخول عالم الإخراج ، وعانت من قبلها المرأة فى دخول عالم التمثيل ، وفي كل حقل تثبت المرأة جدارتها بإثبات حقها في الموهبة التي منحها الله لها ، مثلما منحها للرجل .
أثبتت سكينة محمد علي خلال العقد الأول من عملها بين الأوبرا والمسرح أنها مبدعة ومنفذة بارعة ، وجاءتها الفرصة ، حينما أعلنت وزارة الثقافة عن بعثات للدراسة المعمقة بالخارج ، فسافر من سافر من المخرجين ومصممي السينوجرافيا ، وبقيت منحة في منتصف الستينيات لدراسة الإدارة المسرحية ، فتقدمت لها ، لكنها لم تحصل عليها ، لسبب بسيط قيل لها وقتها أن هذه المهنة (الإدارة المسرحية) تحتاج للرجال بسبب صعوبتها وخشونتها ، ومع ذلك ظلت مثابرة حتى سافرت إلى إيطاليا فيما بين عامي 1968 و1972 ، لدراسة أحدث ما وصل إليه وقتها تصميم الديكور والملابس ، وحصلت على درجتها العلمية بقسم السينوجرافيا بأكاديمية روما للفنون الجميلة ، ولتتخصص في مجال السينوجرافيا ، هذا المجال الذي يعنى تصميم الديكور والملابس المسرحية وأيضا الإكسسوارات ، مع معرفة دقيقة بالإضاءة وحركة الممثلين داخل فضاء المسرح الدينامي .
التمرد على مساحة المنديل
لا أحد ينكر أن الفنان موهبة وثقافة وطموح وإرادة ، وأن هذه الموهبة والثقافة والطموح والإرادة لابد لهم من سياق مجتمعي تتفجر فيه ، يمنح الموهبة فرصتها في الظهور والتألق ، ويفتح أمامها أبواب الثقافة بأوسع تياراتها ، ولا يقف في وجه طموحها أو يعرقل إرادتها عن تحقيق وجودها وحضورها بساحة الإبداع ، ومن ثم تلعب التربية في الصغر دورا مهما في صياغة المبدع في مستقبله ، وتمهد الخطوات الأولى للإنسان في ملاعب الطفولة ، وبحجرات البيت ، وشوارع الحي ، وداخل حجرات الدرس وفى أفنية المدارس ، تمهده لكي يستقبل وعيا صحيحا أو مغلوطا ، وتدفع عقله لقبول الواقع القائم بناء على الحفظ والاستظهار ، أو نقد هذا الواقع والعمل على تغييره لما هو أفضل .
وهذا ما توفر ل سكينة محمد علي ، حينما أتاحت لها الظروف أن تولد بحدائق شبرا عام 1933 ، حينما كان حي شبرا الواقع بشمال القاهرة مازال يحافظ على تكوينه الأساسي كضاحية هادئة ، تناطح الزمان حتى لا تذوب بقلب العاصمة ، فتتفتح أعين الطفلة سكينة على مشاتل الورد ومساحات الخضرة ، فتعرف التأمل ، وتعشق الفضاءات المفتوحة ، وتتعلق بألوان الزهور المتناغمة ، وتلتقي صبية بجارة أسرتها الفنانة فيكتوريا حبيقة التي كانت تعمل في الأربعينيات مع فرقة نجيب الريحاني ، وفى سويعات السهر في ضوء القمر ، كانت الفنانة العجوز تجمع أطفال البيوت المتجاورة حولها لتحكي لهم عن فرقة أمين عطا لله التي بدأت حياتها تعمل بها ، وتمثل لهم وتغنى على العود مشاهد غنائية من إنتاج هذه الفرقة وفرقة الريحاني ، فجذب الطفلة عالم المسرح الذي كانت تسمع عنه ، وتحفظ مشاهد من مسرحياته ، ومقاطع من أغانيه ، لكنه بعيد عنها جدا بوسط المدينة الزاخرة بالحياة والمفعمة بالحركة .
في المدرسة الثانوية سمعت عن مظاهرات الطلاب والطالبات بوسط العاصمة ، وجاءت لمدرستها معلمة لغة أجنبية شابة ، خريجة توا من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة) ، ومتحمسة للحياة ، ومشاركة في ثورة الطلاب والعمال عام 1946 ، تركت أول بصمة تنويرية بعقل الصبية سكينة ، فقد كانت هذه المعلمة هى لطيفة الزيات ، الروائية والمترجمة والمناضلة الشهيرة ، صاحبة الرواية الأشهر (الباب المفتوح) ، فتعلق عقل سكينة بحيويتها ووعيها ووطنيتها ، وزاملتها التأثير على العقل الشاب الناقدة والمترجمة والجامعية المعروفة فاطمة موسى ، وكانت لها كمعلمة بمدرستها تأثير طاغ على سكينة برزانة عقلها وقوة شخصيتها وبربطها الذكي بين آداب الغرب وآداب الشرق ، وفتّح مداركها على آفاق من الإبداع العالمي لم تكن تعرف عنه شيئا من قبل .
امتلأت سكينة بالرغبة في الحياة الحرة ، وتفجر طموحها نحو تغيير الذات لتغيير الواقع ، وداخل هذه المدارس وبين حجرات منزلها وحدائق حيها اكتشفت سكينة امتلاكها لموهبة صياغة عوالم منفتحة بفضاءات متعددة ، فتمسك وهى طفلة بالقلم الرصاص لترسم ما يحيط بها من جمادات وحيوانات وطيور ، وما يعتمل داخلها من أحاسيس بسيطة ، وما يأخذها إليه عقلها الصغير من أخيلة لا متناهية ، حتى كبرت وتلقفت وعيا صحيحا بالعالم ، وحصلت على البكالوريا (الثانوية العامة) في نفس شهر ثورة يوليو 1952 ، وقادها وعيها لكلية الفنون الجميلة ، لتدرس بقسم هندسة الديكور ، لتتفجر موهبتها في دنيا السينوجرافيا ، مع حرص على تدعيم موهبتها بالثقافة العميقة ، التي وفرها مجتمع ثورة يوليو المفعم بالأمل ، ورموز كلية الفنون الجميلة المتنورين الكبار خلال خمسينيات القرن الماضي ، حيث التحقت بالكلية الناهضة بعد شهرين من قيام ثورة يوليو ، وتخرجت فيها عام 1957 بعد ستة أشهر فقط من تحرير البلاد من العدوان الثلاثي على بورسعيد الباسلة ، فعاشت طالبة مرحلة من أخصب مراحل الثورة وإنجازاتها الأولى ، واقتحمت الحياة خريجة وعاملة ومبدعة أواخر الخمسينيات .
لم تكن وزارة الثقافة المصرية قد تأسست عام تخرجها ، ولم يكن لدينا مسرحا جادا غير فرقة (المسرح القومي) بمخرجيها وممثليها ومصممي ديكور وملابس مسرحياتها ، وفرقة (المسرح الحر) التي يهيمن مصممي الديكور والملابس الإيطاليين عليها ، لذا لجأت عقب تخرجها للعمل بشركة (حرير حلوان) ، وزاولت عملها بها لمدة خمسة عشر شهرا ، في رسم النسيج وطباعته ، إلا أن ذلك العمل لم يشبع هوايتها ولم يرض موهبتها الباحثة عن العمل في فضاء المسرح وليس فقط على مساحة من القماش ، خاصة أن الشركة وقتذاك كانت تستجلب تصميمات الأقمشة من مصادرها الأجنبية ، واكتفت بتكليفها بتصميمات للمفارش والمناديل ، وهو ما لا يتفق مع طموحها ورغبتها في تحقيق ذاتها في مساحات أوسع من حجم المنديل ، وتزامن طموحها مع بداية تمصير الحياة المصرية ومؤسساتها ، ومن بينها إحلال المصريين محل مصممي ديكورات دار الأوبرا المصرية الإيطاليين ، وهو ما غير من مسار عملها وحياتها ، حينما أعلنت الأوبرا عن مسابقة لرسم (الفوندو) ، وكان الاختبار الذي سيكشف عن موهبتها وقدراتها التشكيلية هو تنفيذ رسم ستارة خلفية لمنظر عبارة عن مدخل قصر ضخم بسلالم وسور لحديقة ، مع مراعاة قواعد المنظور الهندسي ، وأتمت سكينة العمل على أكمل وجه ، مجتازة الاختبار بنجاح ، وتم تعيينها بقسم الديكور بالأوبرا .
خطوات بأروقة الأوبرا
كانت بهذا أول مصممة ديكور (امرأة) يتم تعيينها في هذا المجال علاوة على أنها أول مصرية احتلت هذا الموقع بعد الإيطاليين مباشرة ، قبل عودة المبعوثين من الخارج ، الذين كانت الدولة قد أرسلتهم في بعثات للخارج لتلقى العلم والمعرفة والتخصص في مجال الديكور المسرحي إلى دول أوروبا وخاصة إيطاليا ، كان منهم صلاح عبد الكريم وعبد الله العيوطي ، وقد تحفظ الكاتب الكبير يحيى حقي رئيس مصلحة الفنون على تعيينها إشفاقا منه عليها ، إلا أن مدير الأوبرا محمود النحاس تحمس لموهبتها وقام بالحصول على توقيعه على تعيينها ، فصارت عضوا بدار الأوبرا من نهاية 1958 ، وانفتح أمامها عالم كبير جدا لم تكن تحلم أن تكون بداخله ، وأن تشارك في جزء من صياغته .
كان المجتمع المصري وقتذاك يعمل على تغيير واقعه ، يزيل عن أرضه دنس الاحتلال الإنجليزي ، ويؤمم قناته معيدا إياها لأهلها الذين حفروها ، وينتصر في معركة بورسعيد الباسلة على عدون ثلاثي غاشم ، وتتحرر نساؤه من ربقة العبيد معلنة كل واحدة منهن “أنا حرة” ، ويقتحم الجامعة شباب ساع بقوة للمعرفة ، وينزل للحياة بعد تسلحه بالعلم ليحرث أرضا ، ويقيم مصانعا ، وينشئ أول أكاديمية فنية في العالم العربي ، تضم منظومة كبرى من فنون المسرح والسينما والبالية والموسيقى ، وكانت سكينة تصنع نفسها بدار الأوبرا وعيونها معلقة بالمسرح القومي ، وجاء اللقاء مع أستاذها الإيطالي إيتوري روندللي المتنقل لتنفيذ الديكورات بين مسرحي الأوبرا والقومي ، فانتقلت ذات يوم إلى المسرح القومي لمشاركته في تنفيذ الديكور، فجذبها عالم المسرح الدرامي ، الذي لا يكون فيه الديكور مجرد خلفية مرسومة على قماش لتوضيح المكان الذي تجري فيه أحداث العمل ، بل صار جزءا مشاركا ومعبرا عن الرؤية الكلية للعرض المسرحي ، وتعرفت وقتذاك على المخرجين المصريين وتعرفوا على موهبتها شديدة الحساسية ، وفي مقدمتهم أستاذ الأجيال والأوطان المخرج الكبير زكي طليمات الذي جذبته حيويتها ، وطلب منها أن تصمم وتنفذ له ديكور أوبريت (العشرة الطيبة) الذي كان يستعد لتقديمه بفضاء المسرح القومي عام 1959 ، ونظرا لعملاقية طليمات وقتذاك ، وأساتذيته لغالبية العاملين بالمسرح المصري ، حاولت بقدر المستطاع تنفيذ بعض أفكارها التي رأت أنها تخدم العرض دراميا وجماليا ، واستفادت جدا من مخزون خبرتها التي اكتسبتها في مجال تكنيك التنفيذ منذ تعيينها بالأوبرا وتدريبها على يدي المصمم الإيطالي (روندللي) ، فعملت على شغل مساحة الخلفية بلوحة كبيرة أرابيسك مفرغ ومثبت على قماش من التل ، وكان المنظر متعدد المشاهد ، حيث تدور بعض مشاهده داخل القصر ، وأخرى تعبر عن القرية ، فبنت بيوتا ريفية على شكل أكواخ من الخشب نمطية الشكل بما يتفق مع أسلوب الإخراج الواقعي ، كما صممت ونفذت ما يشبه الهودج كانت تجلس بداخله مطربة العرض وممثلته الأولى شهرزاد ، والتي كان يشاركها البطولة المطرب كارم محمود مع عمالقة المسرح القومي .
بين العبثية والملحمية
راحت سكينة محمد على مع عام 1962 تنغمس بصورة شبه كلية في عالم المسرح الدرامي ، منتقلة بين تيارات مختلفة ، ورؤى متباينة للسينوجرافيا بمفهومها الحديث ، فقامت بتصميم ديكور وملابس مسرحية (إله رغم أنفه) للكاتب فتحي رضوان ، مع المخرج محمد عبد العزيز ، والذي كان عائدا لتوه من بعثته لفرنسا وعرضت على المسرح القومي في موسم 62/1963 ، وتعرضت لأول مرة مع هذا العرض لعملية صياغة منظر مسرحي لعرض درامي ، لا يتطلب مساحات واسعة للراقصين والمغنيين ، حيث يكون الحدث الدرامي وشخصياته في الصدارة ، ولذا نحتت تماثيل ضخمة في قمة واجهة المسرح من الأرض للسقف ، ولأنه لم تكن الخامات الحديثة متوفرة وقتذاك مثل الفوم أو الإسفنج الرغوي أو البوليستر ، نفذت التماثيل من الخيش والشاش والغراء ، كما صنعت تمثالا من الطين الخفيف ثم غلفته بطبقات من الخيش والشاش المشبع بالغراء وتركته حتى يجف جيدا ، ثم فرغته وبدأت نحته وتلوينه ، وكانت المناظر متعددة بعضها كان فيه أعمدة وبعضها الأخر كان عبارة عن قصر ضخم .
تميزت مع بداية اقتحامها لعالم التصميم لديكور المسرح الدرامي ، مما دفع المخرج محمد عبد العزيز للدخول معها في تجربة جديدة تماما عليها وعلى المسرح المصري بأكمله ، وهى تصميم ديكور مسرحية عبثية ، في أول مسرح مهتم بتقديم هذا التيار ، هو (مسرح الجيب) ، وكان عرض (الكراسي) للفرنسي يوجين يونسكو في ثاني عروض هذا المسرح بموسمه الأول 62/1963 (كان العرض الأول هو لعبة النهاية لصمويل بيكيت وإخراج مؤسس المسرح ومديره الأول سعد أردش) ، وذلك بقاعة بنادي السيارات بشارع قصر النيل بوسط العاصمة .
والقراءة المتعمقة لسينوجرافيا سكينة لمسرحية (الكراسي) تكشف عن قدرتها على صياغة منظر مرئي يعبر عن جوهر ما تقدمه المسرحية من وجهة نظرها ، حيث الحياة أو نهايتها تدور في حجرة استقبال بمنزل أقرب في ملامحه لكهف جبلي قائم بعيدا عن المدينة ، يتكون منظريا من ستارة خلفية على هيئة حدوة حصان تركوازية اللون ومسلط عليها إضاءة ، وأمامها ستارة أخرى من الخيش المصبوغ بلون فئراني مثبتة من أسفل في هيئة شبه نصف دائرة تأخذ في الاتساع كلما اتجهت إلى أعلى ، تتخللها فتحات غير منتظمة . على اليمين وعلى اليسار (موتيفاتان) على هيئة نافذتين من الخشب تشبه ضلوع الإنسان ، وتتردد هذه الضلوع على ملابس الشخصيتين بالمسرحية : الزوج العجوز والزوجة العجوز كلاهما يبدوان كهياكل عظمية ، أما الكراسي فصممتها على هيئة شواهد القبور المصرية ، كما توحي في نفس الوقت لهياكل عظمية لأشخاص معدمين ، وكأنهما موتى في فراغ الأبدية ، وكل عملهما طوال حوار المسرحية هو جلب الكراسي المتشابهة ، أو شواهد القبور لملء الفضاء الفارغ في بيتهما ، مما ينقل للجمهور هذا الإيحاء بهياكل عظمية تنقل الموتى لداخل بيتها ، فتنسجم علامات الديكور والملابس مع علامات النص المسرحي ، وفعل الشخصيات العاطلة عن العمل المثمر في المجتمع .
ومقابل تيار العبث الذي برهنت على استيعابها لفلسفته في صياغتها لسينوجرافيا عروضه ، وجدت سكينة نفسها في ذات الفترة الزمنية منجرفة نحو تيار معاكس تماما هو تيار المسرح الملحمي ، وقاعدته مسرح برتولد بريشت ، مشاركة في صياغة سينوجرافيا أبرز عملين في الستينات وهما : (الإنسان الطيب من ستشوان) عام 1967 و(دائرة الطباشير القوقازية) 1968 ، والعرضان من إخراج سعد أردش ، الأول لفرقة مسرح الحكيم والثاني لفرقة المسرح القومي . قدم العرض الأول من خلال رؤية ترى في عموميته النظرية خصوصية محلية ، فإذا كان الصراع العالمي بين النظريتين الاشتراكية والرأسمالية ، فأن الصراع على أرض الواقع أوائل عام 1967 كان بين قوانين اشتراكية تحقق العدالة للشعب ، وقوى إقطاعية وشبه رأسمالية تحاول القضاء على هذه العدالة المتحققة وإعادة عقارب الزمن للوراء ، وعلى المستوى العربي كان الصراع على آبار البترول الظاهرة وقتذاك ، والتي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة عليها مقابل إغراق المنطقة في صناعات استهلاكية تافهة لا قيمة لها ولا نفع ، فعبرت سكينة عن هذا الصراع سينوجرافيا من خلال جدارية خلفية كلها أوراق دولارية وأرقام ذات أصفار كثيرة ، واستخدمت الألوان الفسفورية وكتبت بها هذه الأرقام ، ففي بعض المشاهد كانت الإضاءة فوق البنفسيجية (الالترافيلوت) تهيمن على المشهد فتتحول هذه الأرقام إلى ألوان مشعة براقة تجذب العين وتصبح الدولارات وكأنها معلقة وسابحة في فضاء المسرح ، ورسمت على الفوندو آبار ومصانع البترول ، فعندما تسلط الإضاءة من خلف البانوراما الخلفية تظهر الآبار ومداخن المصانع وتبدو ظلالها كغابة من الأشباح ، هذا بالإضافة إلى ظهور بعض قطع من الديكور المتحرك على عجل وأيضا بعض الموتيفات الموحية ، وسحب وإخفاء قطع أخرى فتتغير الصورة بسرعة وسهولة ، فتدخل قطعة عبارة عن دكان جدارها من الحصير مكتوب عليه بعض الحروف باللغة الصينية ، تشد إلى أعلى بواسطة حبال فيظهر الدكان من الداخل ، وفوق الدكان وعلى مستوى أعلى يوجد المصنع ، والعمل مستمر فالعمال ينزلون السلال المربوطة بالحبال فتهبط إلى أسفل لتملأ ثم تصعد مرة أخرى إلى أعلى لتفرغ ما بها من حمولة ، ثم في جانب أمامي من المسرح نفذت جزء من سجن استخدمت فيه خامة الحبال مشكلة على هيئة مربعات ومثلثات واسعة بحيث لا تخفي المنظر ، والعمال أصبحوا خلف هذا السور كالسجناء خلف القضبان ، كما استخدمت القناع المكتمل ذو الفتحات للعينين والفم دلالة على الشخصية الشريرة ، ونصف القناع ذو فتحات للعينين للدلالة على الشخصية نصف الشريرة ، والشخصيات المغلوبة على أمرها تظهرها بدون أقنعة ، في محاولة منها لفهم تعليمات بريشت الإخراجية ، خاصة فيما يتعلق بديكورات المسرحية وملابس واكسسورات شخصياتها ، وذلك في محاولة لتحطيم سيكولوجية الإيهام ، فكل شيء على المسرح ظاهر ، فلا توجد سوفيتا ولا ستارة ، وأجهزة الإضاءة أعلى المسرح واضحة للجمهور ، والممثلون يغيرون ملابسهم أمام الجمهور، وأحيانا الممثل يقوم بأداء أكثر من شخصية ويتم التغيير عن طريق الملابس ، وذلك بهدف عرض القضية الفكرية على عقل الجمهور كقاض يحكم بموضوعية على طرفي المعادلة المقدمة .
أثار عرض (الإنسان الطيب) جدلا قويا حول فاعلية هذا المسرح وقيمته الجمالية والتحريضية في المجتمع المصري ، وحول قرب أو بعد المخرج المصري وفريق عمله عن الأسس الجمالية للمسرح البريشتي ، مما دفع بضرورة استدعاء مخرج يعرف جيدا هذه العملية ، لعمله مع بريشت في مسرحه ، فكان الألماني كورت فيت المخرج بفرقة برلين المسرحية (برلينر انسامبل) ، الفرقة التي أسسها بريشت نفسه ، وأتى للقاهرة لكي يقدم للجمهور المصري نموذجا متكاملا لمنهج بريشت المسرحي ، من خلال نص متميز له ، ووقع الاختيار على نص مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) ، واختيار سعد أردش ليقوم بمهمة المخرج المشارك للمخرج الألماني والمنفذ للعرض ، وتم تكليف صلاح عبد الكريم في البداية بمهمة تصميم سينوجرافيا العرض ، ولكن وقع الاختيار في النهاية على سكينة لتصميم سينوجرافيا هذا العرض ، وتبدأ في التنفيذ على المسرح القومي ، منغمسة في عالم بريشت وثورته ، وتابعت رؤيته لعناصر العرض المختلفة ، حيث رأت أنه يستخدم الإضاءة بصورة عمودية قوية على الممثلين فيبدون كالتماثيل المنحوتة المتحركة ليقلل حجم التعاطف الوجداني معهم ، ويتم التغيير للملابس والديكور أمام الجمهور مباشرة ، لكي يلغى مسألة الاندماج في واقعية ما يحدث على المسرح ، ولهذا اعتمدت في الألوان على تباين ألوان الخامات المختلفة وليست باستخدام البويات وخامات الرسم ، فاستخدمت خامات متنوعة مثل النحاس الأبيض المطروق لواجهة القصر والنحاس الأحمر المطروق للكنيسة ، وعملت وصلة تربط الكنيسة بالقصر بواسطة شريحة رفيعة من السجاد الأحمر على شكل قوس ، وتم إلغاء السوفيتا العلوية فأصبحت مصادر الإضاءة مكشوفة للجمهور ، هذا بالإضافة إلى إلغاء الستارة الأمامية ، فكل اللعبة المسرحية مكشوفة ، والمسرح يقدم ذاته كمسرح أمام الجمهور ليحكم بعقله على القضايا التي يقدمها له ، ويعيد النظر مع المسرحية في الحكاية القديمة حول سيدتين تتنازع الحق في امتلاك طفل ، إحداهما هى المرأة التي أنجبته لكنها هربت أثناء الحرب بمجوهراتها ناسية الطفل تائها في أبهاء القصر المحتل ، والثانية هى المرأة التي حمته وربته وتعبت من أجله ، ويعرض الأمر على قاض عابر هو صعلوك من عامة الشعب ، فصممت سكينة ملابسه متناقضة مع بعضها تماما ، فجعلته يرتدي ملابس ممزقة أسفل روب أنيق ، وبالغت في التناقض بين فخامة الروب الخارجي والملابس المهلهلة أسفله ، ولخصت المحكمة الهزلية في كرسي ذي ظهر عال ومتحرك على عجلات ، و مثبت على جانبيه ما يشبه الجراب يضع فيهما أوراق القضايا ، والمحكمة متنقلة مع هذا الكرسي بفضاء المسرح ، ورغم طرافة كلمات القاضي إلا أنه يفاجئ الجميع بقراره المثير : أن الطفل لمن ربته وسهرت الليالي على صحته ، وليس لأمه التي ولدته ثم أهملته ، ليؤكد بالتالي على المقولة الأساسية للمسرحية : أن الأرض لمن يفلحها ، والمصانع لمن يعمل بها ، والمدارس للجميع .
كراهية الصالون المغلق
مع عمق تجربتها في صياغة سينوجرافيا العروض المسرحية والغنائية ، صار لسكينة طريقة خاصة بها ، ميزتها كمبدع عامة وكمبدعة أنثى بصورة خاصة ، حيث نحت دوما لتمصير تصميمات سينوجرافية عروضها ، مهما كانت درجة عالميتها أو إنسانيتها ، وفضلت دوما استخدام الخامات الطبيعية بأنواعها المختلفة ، ويبدو أن عملها في الأعمال الأوبرالية في بداية حياتها كرهها في سينوجرافيا الصالونات المغلقة Salons fermé التي كانت معتادة عليها في المسرح الواقعي وقتذاك ، فحرصت على العمل مع نصوص غير تقليدية ، كما يبدو من زاوية أخرى أن تمرد الأنثى بداخل المبدعة ، والتقاء هذا التمرد بواقع مجتمعي يحفز على تحطيم الأبواب المغلقة والسعي للتغيير ، دفعها لرفض المنظر الثابت ، الذي يصيب المتفرج بالملل ، وعشقت المناظر المتعددة ، ولجأت في تصميمها للملابس على تعددية الزي ، بحيث يمكن للممثل أن يضيف أو يحذف جزء من زيه ، أو يضع شال أو إكسسوار واضح ، بحيث يكسر حالة الثبات التي قد يوحى بها الزي الواحد غير المتغير . وكانت حريصة في العروض التي بدأت تقوم بتصميم ديكوراتها وملابسها على أن تراعى انسجام الألوان بين الديكور والملابس ، وألا تطغى ألوان الأول على الثانية ، كما كانت تفضل في الأعمال الدرامية الرزينة أن تستخدم لونين فقط للديكور وهما الأبيض والأسود ، بينما تمنح ملابس الشخصيات الأساسية الألوان الزاهية ، وتعطى المجاميع أو الكومبارس ألوانا هادئة أو باهتة ، لتبرز التباين بينهما ، وحتى لا يؤثر وجودهم ككتلة أكبر على الشخصيات الفردية ، كما كانت تمنح لكل شخصية من الشخصيات الرئيسية لونا يميزها ويتفق مع طبيعة ملامح شخصيتها ، سواء كانت شريرة أو طيبة ، حالمة أو متوترة ، ويرتبط لون الزي بالشخصية حتى لو غيرت الزي في مشهد أخر فيكون من نفس مجموعة الألوان التي ينتمي إليها لون هذا الزي .
الدراما التاريخية
وعت سكينة أن المسرح فن استعاري إيهامي ، ولهذا حينما تعرضت لصياغة أجواء مسرحيات تاريخية ، وبخاصة مسرحيات مثل (إيزيس) لتوفيق الحكيم مع كرم مطاوع ، و(رقصة سالومي الأخيرة) لمحمد سلماوي وإخراج هناء عبد الفتاح و(رابعة) ليسري الجندي وإخراج شاكر عبد اللطيف ، وجدت نفسها أمام معضلة الأجواء والأزياء التاريخية ، فلجأت لكتب التاريخ ، لتستوحى خطوط الملابس وسمات العصر ، لكنها في نفس الوقت قرأت المسرحيات ، وعملت على فهم شخصياتها كشخصيات درامية بجانب كونها تاريخية ، فلم تلتزم كثيرا بما جاء في متون كتب التاريخ ، بل سعت إلى تطويع الزي التاريخي لخصوصية الدراما وطبيعة العصر الذي تقدم فيه المسرحية وشخصية الممثل وحجمه وحركته ، ووفقا لطبيعة الدور الذي يؤديه سواء كان كوميديا أو تراجيديا . ففي عرض (إيزيس) حيث تدور الأحداث في زمن الحضارة المصرية القديمة ، راعت أن تكون الصورة السينوجرافية ملاءمة لذاك العصر ، ومرتبطة بما هو باق منها في أذهان الجمهور اليوم ، فاتخذت من زهرة اللوتس عنصرا أساسيا في تشكيل الفضاء وأيضا في الأزياء ، فعملت في المشهد الأول زهرة اللوتس كبيرة جدا من قماش التٌل ومن الداخل سلالم ، ورسمت البانوراما الخلفية على التٌل بأزهار اللوتس ، واستخدمت خامات متعددة جدا من البوص والحبال والشباك والجلد والأقمشة المتنوعة ، وحرصت على أن تكون قطع الديكور سهلة في تغييرها وتحريكها ، لأن المشاهد كثيرة جدا ، واستخدمت للأزياء فن الخيامية في تنفيذ الزخارف ، وهو عبارة عن زخرفة بالأقمشة الملونة ، ولأن إيزيس قامت برحلة طويلة عبر النيل للبحث عن جثة أوزوريس فكان لا بد أن تراعى ذلك في ملابسها وتنقلها من مكان إلى أخر ، كما عملت كعادتها على تمييز كل شخصية بلون معين في الملابس وفي شكل الباروكة التي ترتديها تبعا لطبيعة شخصيتها .
أما مسرحية (رقصة سالومي الأخيرة) ، فبطلتها شخصية تاريخية معروفة تنتمي إلى العصر الروماني ، وهو عرض ضخم ومتعدد المشاهد ، استخدمت خامة الحبال كخامة أساسية لكل العرض ، تشكل فيها بأشكال مختلفة وعديدة ، وصاغت الفضاء المسرحي على هيئة مدرجات على شكل نصف دائرة ، مما يحيل الجمهور إلى شكل المسرح الروماني المعروف ، والمحاط بمجموعة من الأعمدة ذات التيجان الكورنثية والتماثيل المنحوتة ، يحتل هذا التكوين ثلث عمق المسرح تقريبا ، وتركت ثلثي الفضاء مساحة فارغة لإتاحة الفرصة للتشكيلات باللوحات التعبيرية الراقصة والمجاميع .
جذبها في عرض (رابعة) جوها الصوفي ، وقدرة المسرحية على مواجهة الحكم البربري الظالم بالتعلق بالإيمان الصحيح ، فالمجتمع الذي كانت تعيش فيه رابعة العدوية كان منقسما إلى قسمين ، قسم يملك كل شيء ، والقسم الأخر معدم تماما ، وعبرت عن هذا التقسيم الطبقي بأن قلبت المسرح بحيث يبدأ من مستوى صفر و يتدرج إلى أن يصل إلى ارتفاع متر ، و بالتالي استغلت المساحة الأمامية لفتحة المسرح من اتجاه الصالة وجعلتها مخصصة لطبقة الشعب المعدمة ، قريبا جدا من أقدام المشاهدين ، فبدوا كأنهم دود خارج من الأرض ، والقصر عبارة عن دائرة كبيرة فوق خشبة المسرح بها بوابات والعرش فوق هذا المستوى المرتفع ، وخصصت للجواري أرجوحة على يسار المشاهد تتنقل منها إلى القصر على المستوى المرتفع وتعود إليها مرة أخرى ، وراعت في تصميم الملابس أن تكون معبرة عن الطبقة الاجتماعية ، فملابس الطبقة المعدمة من خامات فقيرة مثل الخيش والدمور ذات ملمس خشن لكي تعبر عن حالتهم المعيشية الخشنة ، ومتناقضة مع ملابس الطبقة الحاكمة ، وصممت ثلاثة أزياء لشخصية (رابعة) ، منتقلة بها من حالة المجون إلى حالة التصوف التي انتهت إليها .
رحلة سكينة محمد علي مع السينوجرافيا هى رحلة فنانة عرفت طريقها لعالم جديد ومثمر في حياتها المسرحية ، وصاغت أسلوبا لها يمزج العام بالخاص ، والإنساني بالمجتمعي ، والكلي بالجزئي ، تحلق بفنها نحو الآفاق العالمية ، دون أن تتنازل لحظة عن مصريتها ، وعروبتها ، وتراثها ، وخامات بيئتها .. لهذا صارت سكينة واحدة من أبرز من صاغوا سينوجرافيا العروض المسرحية ، وواحدة من نسائنا اللاتي نجحن في أن يقفن كتفا بكتف الرجل لإمتاع الوجدان وترقية الذوق وتنبيه العقل لأهمية الوعي بالواقع والعمل على تغييره.