المسرحية التونسية"الرهوط"…الفائزة بذهبية مهرجان الاردن المسرحي/ رسمي محاسنة (الاردن)
مواجهة الذات بالاسئلة الجارحة… ماذا تبقى من الوطن؟
على باب المسرح، في المدخل الذي يفضي الى المسرح الرئيسي، يقف مجموعة من الممثلين، بازياء سوداء، وربطات عنق سواداء مع خط ابيض، يتواصل الممثلون مع الجمهور، بابتسامات، ويتجاوبون مع من يحدثهم بكلمات قليلة، ويدخلون المسرح،ستة ممثلين، يبقى اثنين منهم امام الجمهور، في استهلال يلغي فيه العرض التونسي”الرهوط او تمارين في المواطنة”، المسافات مع الجمهور، وبذلك فان المخرج” عماد المي” يؤسس لعلاقة بين العرض والجمهور، التي يريدها شكلا متماهيا مابين الممثلين والجمهور، ويطرح الممثلان خارج المسرح للجمهور مجموعة متوالة من الاسئلة، مختصرها، انكم اذا كنت تبحثون عن شكل تقليدي لمسرح تعودتم عليه في الشكل والطرح، فانكم لن تجدوه، وهي خطوة اخرى من المخرج، لتقريب الجمهور من العرض والممثلين، لان من هم على خشبة المسرح، ومن هم على مقاعد الفرجة، هم جميعا مواطنين. واكثر من ذلك …نحن واياكم…”رهط”، من الرهوط.
من البداية يبدأ “عماد المي” بتقريب المراّة شيئا فشيئا من الوجوه، ليضعنا امام حقيقة نحن نهرب منها، او نختبئ خلفها، او اننا استمرأنا تكرارها لدرجة اصبحت من الكليشهات البلاستكية، في متوالية من الحقوق للمواطن، التي تزاحمت شعاراتها حد الاختناق.
المسرح مسور بمربع من الضؤ، يحدد شكل وحركة الممثلين، الذين يبدؤون بحركة محمومة يرددون ما توارثوه من شعارات الحقوق، المستندة الى مانفيست حقوق الانسان العالمي، وبيانات الحكام والانقلابات الثورية، يدورون وكل “مواطن” يردد شعارا، ليرد عليه “مواطن” يلهث خلفه بشعار جديد، في متوالية من “الاصوات” التي تنعكس على شكل الحركة لتاخذ الشكل الدائري، حيث لاخلاص من دوامة لاتنتهي، وكلما زادت متوالية الحقوق بالعيش والتعليم والصحة والسفر والكرامة..و..و..و.. و…تنتهي الحركة الى مربع في وسط المسرح، يتجمع فيها “الموطنون” بشكل دائري، مخنوقين برباط شعارات ،كانت بمثابة تغييب للوعي، وتخدير للعقل، وتعطيل للرفض والتحريض، فقد خارت قوى المواطن وهو يلهث وراء هذه الحقوق، لتكون نتيجته هذه “الحفرة الجماعية” التي يلتقون بها. “الرهوط”..نحن، و”الرهوط”..هم،نحن تتوالى رهوطنا بالشعارات التي ضحكنا على انفسنا بها، وهم يتوالدون “بقرا مقدسا”، يتحكمون بنا وبمصائرنا ومستقبل اولادنا، ففي لوحة يجتمع بها الممثلون، وكل واحد يطرح مالديه، ورغم ان الافكار المطروحة هي المعاناة الجمعية ظاهريا، الا ان الجميع يقف على حافة الانقسام، والانزياح يمينا ويسارا، في تعميق لهوة تتسع بيننا بالانقسام والتشتت، والتشبث بالراي وعدم قبول الاخر، واحتكار الحقيقية.
ومشهد ل”الرهط” الاّخر، في اجتماع للحكام، يرتدون الاقنعة، بياناتهم جاهزة، ادانة العهد السابق، في متوالية تتلاشى معها الوجوه “الاقنعة”، ويتلاشى الكلام، فلم يعد له ضرورة، لان “رهوط” المواطنين مسكونة بالشعارات، هذاالسكون المريب، وهم بذلك يسهلون مهمة الحكام.
لم يجامل” عماد المي” في طروحاته، ولم يذهب فقط الى ادانة الحكام، انما يضعنا بمواجهة حقيقة انفسنا، عن هذا الرضى، والاكتفاء بالاحتجاج العدمي، وهذه البلادة، والتراخي، والتشظي، وتلك الشقوق الكثيرة التي يعبر منها الانتهازيون ليزيدوا من تعميق جروح الوطن والمواطن، هذا الوطن الذي جعله الحكام على مقاسهم،”نعيش ..نعيش..ويحيا الوطن”، فاي وطن هذا الذي تغيب فيه العدالة وقيم الحق والخير والجمال وتكافؤ الفرص؟ اي وطن يموت فيه ابناء الفقراء، لينعم ابناء الذين استولوا على خيرات ومقدرات الوطن؟؟ اي وطن بلا كرامة ولا حقوق؟واي وطن هذا الذي ينشغل به المواطن بكرة القدم، ليغفل عن قضاياه الاساسية؟ وماهو هذا الوطن، وماذا يتبقى منه اذا مات الانسان؟ اسئلة كثيرة يطرحها عرض” الرهوط”..
اسئلة لاتخص “تونس” فقط، انما تلامسنا جميعا في هذا الوطن الممتد من القهر الى القهر،حيث اختيار اللغة الفصحى،وممثلين بلا اسماء، وكل هذه الشعارات، والاقنعة، وكل هذه الاصوات الموحدة التي تحمل همّا واحدا، كل ذلك لكشف عورات المسكوت عنه، وفضح هذا التغييب للمواطن وحقوقه وانسانيته، وخداعه واستلابه بشعارات لم يعد لها قيمة بعد تغييب “المواطن”.
لذلك وبجراة كبيرة يقوم”عماد المي” بتفكيك كل الافكار والرموز والشعارات، ليعيدنا للمربع الاول، بعد ان اخذونا بعيدا في متاهات الوهم، مستغلين غواية وابهار الفكرة،الجميلة ظاهريا، والمخبؤة بعفن السياسيين، الذين حولونا الى “رهوط”.
وبهذا التفكيك فان العرض يحيل المتلقي” الذي هو شريك بالعرض” الى مواجهة سؤال “الوطن”، وثنائية الموت والوطن، هذا الموت الذي يدفعه المواطن فقط، والحقوق والحرية، ويكاد العرض يصدمنا بسؤال، اذا مات المواطن ماذا تبقى من الوطن؟ والجواب ان المواطن بكرامته وحقوقه وانسانيته هو الوطن.
كما اعلن العرض عن نفسه منذ لحظة الدخول، واستهلال الممثلين بمخاطبة الجمهور، بانهم لن يجدوا عرضا تقليديا، وان حضورهم ليس “وقت مسقتطع” للهروب من واقعهم، فجاء المقترح للعرض مختلفا ومغايرا، في حركة فردية وجماعية، وتداخل الاصوات والحركة والموسيقى ومفردات الديكور والضوء، وحوارات تبدو منفصلة، ذلك ان كل واحد له هاجسه، في اشارة ذكية من العرض، بان هذه الجموع، هي جزر منعزلة، لذلك لاتاثير لها في حال بقائها على هذا الحال.
في اداء جماعي لممثلين يعرفون تماما ماذا يريد العرض منهم، وفي ايقاع متوازن طوال العرض، لم يترك مجالا للملل، حيث هذا التواصل بين الممثلين، والروح العالية التي حملت العمل، في لحظات لهاثه ، ولحظات صمته.
المخرج” عماد المي” في “الرهوط” يقدم مقترحا فكريا وجماليا، متحررا من الاشكال المالوفة، ويمسك بعناصر العرض، ضمن رؤية واعية لما يريد ان يبعث به من رسائل عبر اشتباك الممثلين “المواطنين” مع “المواطنين” على مقاعد المسرح. وهو يمثل اضافة حقيقية لاصوات المسرح التونسي الشبابية.
مسرحية” الرهوط..او تمارين في المواطنة” من تاليف واخراج” عماد المي”، وتمثيل ” وليد بن عبدالسلام، وعبدالقادربن سعيد، وامنة الكوكي، ومنى التلمودي، وعلي بن سعيد، وغسان الغضاب”واضاءة”رياض التوتي” وموسيقى”زين عبدالكافي”وملابس “عبدالسلام الجمل”.