الخطاب والمناهضة في ما بعد كولونيالية النص المسرحي العالمي / الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
في مجال النصوص المسرحية المناهضة للخطاب الكولونيالي في الغرب، قدم الفيلسوف الوجودي (جان بول سارتر) نقده الخطاب الأمريكي، حيث أنتج خطاباً ثقافياً ما بعد كولونيالي كان هدفه فضح التمييز العنصري في معاملة (السود)، والتمييز العنصري هو امتداد للخطاب التمييزي ضد الآخر في (إفريقيا) من اجل استلابها وتغييبها ثقافياً. إذ قدم (سارتر) مسرحية (الشيخ والغانية) ، التي تدور أحداثها حول (زنجي) اتهم بقتل واغتصاب الفتاة (ليزي) الفتاة التي تتجاهر بطابع لا أخلاقي. حيث يتعرض (الزنجي) إلى التعذيب والقتل ، ليس لأنه قام بجريمة ، بل لأنه (اسود) ، والنظرة ضد السود كانت عنصرية في أمريكا. وفي نهاية المسرحية تظهر وتعود لممارسة البغاء ، ويعطي (سارتر) إشارات عن الموقف الرسمي الأمريكي في مناصرة البيض من خلال مشاركة عضو مجلس الشيوخ في عملية القبض على الزنجي.
أما كتاب (العبث واللامعقول) فقد تركز خطابهم المسرحي الناقد للحضارة الغربية وما أوصلت العالم إليه من دمار خلال الحروب العالمية التي انتشرت في أغلب بقاع الأرض ، حيث سعى هؤلاء الكتاب إلى محاربة نفاق الحضارة الغربية وتمركزها حول الذات المتعالية وادعائها بحماية الإنسان الذي أصبح مصيره مجهولاً من خلال توجهاتها محاولين تحقيق هدفين من خلال مسرحياتهم ، الأول : هو السخرية من عبثية الحياة وزيفها. وثانياً : عدم معقولية الإنسان في ذاته في عالم فقد إيمانه ويقينه ، لكل ما هو موجود وفي الهدف الأول قدم الكتاب المسرحي الفرنسي (أوجين يونسكو) مسرحية (المغنية الصلعاء) و (الكراسي) ، إذ صور فيهما عبثية الحياة المفعمة بالزيف والكذب ، أما في الهدف الثاني في عدم معقولية الإنسان في ذاته فيقدم الكتاب المسرحي والروائي الايرلندي (صامويل بيكيت) مسرحية في (انتظار كودو) ، وانتظار الأول بعد أن أصبحت الحياة بلا طعم ولا معنى.
فضلاً عن الكاتبين (بيكيت ويونسكو) فقد قدم الكاتب المسرحي والروائي الفرنسي (جان جينيه) صورة أوضح ، وخصوصاً فيما يتعلق بالدفاع عن حقوق شعوب (العالم الثالث) الذي وقع ضحية المطامع الامبريالية والتبعية الثقافية والأقتصادية والسياسية لها ، وقد تنوعت انجازاته ما بعد الكولونيالية بين حركة الدفاع عن السود والمهاجرين الأفارقة إلى أوربا وما تعرضوا له من اعتداءات بسبب النظرة التمييزية ضد الآخر الهمجي البربري ، الذي يدنس الحضارة الغربية ، وكما في صورة عطيل في المسرحية الشكسبيرية ، وكذلك فقد قام بالدفاع عن القضية الفلسطينية من خلال شهاداته عن مجزرة (صبر وشاتيلا) ، وكتب أيضاً مسرحية (الزنوج) للدفاع عن السود في أمريكا ومكافحة الفصل العنصري ضدهم.
أما الكاتب والمخرج الألماني والسويدي الجنسية (بيتر فايس) ، فقد كانت مساهماته واضحة في انتاج خطاب ثقافي ما بعد كولونيالي، وقام بفضح المركزية الغربية وثقافة الأخضاع للآخر، من خلال مسرحيات ومواقف ومشاركات في وقفات احتجاجية ضد حروب أمريكا ، حيث اعتقد (فايس) بأن الرأسمالية أنتجت مجتمعات تتصف بالانحلال وبعيده عن القيم الإنسانية ، ودعا في عام (1966) بأنه سيشارك في المحكمة التي دعا إليها (برتند رسل) الفيلسوف والمفكر الانكليزي لمحاكمة الرئيس الأمريكي (جونسون) بسبب حرب (فيتنام).
وفي مسرحية (أنشودة انغولا) فقد كان صريحاً مباشراً في عرض حقيقة الاستعمار وهيمنته على إفريقيا وتحويلها إلى سجن كبير لأبنائها ، بحجة نشر رسالة الرب في الأرض فمسرحية (أنشودة انغولا) كانت انتقاداً واضحاً للخطاب الغربي الذي ادعى أصحابه بحجة نقل الحضارة لإفريقيا والشرق ،حيث يسرد (فايس) إحصائيات عن أضرار الاستعمار في البنيات الاقتصادية والتعليمية والثقافية ، فيذكر مثلاً أن بعد (500) سنة من رسالة التمدين لم يتعلم سوى شخص واحد من كل (100) إفريقي ، وغيرها من الإحصائيات ، وكذلك تركيزه على الخطاب الاستعماري وخداعه للشعوب بالمفاهيم الثلاثة (الله ، الوطن ، الأسرة) في حين أن المستعمر بنسف هذه المفاهيم سراً ، من خلال تفكيك ثقافة الوطن واستعباد شعوبه.
ولم يكن الكاتب المسرحي الانكليزي (جون ازبورن) أقل وطأة من الآخرين في فضح الخطاب الثقافي الكولونيالي الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية العجوز ، التي أصبحت تمثل ثقلاً على مواطنيها في المركز الغربي ، حيث تمثلت ردة فعل (ازبورن) على هذا الخطاب في مسرحيتي (أنظر خلفك في غضب) ومسرحية (غرب السويس) ، حيث ركزت والمسرحية الأولى على الضعف الذي أصاب الإمبراطورية البريطانية وأصبحت غير قادرة على إعادة أمجادها السابقة ، التي بنتها على وفق جغرافية تخيلية عن الشرق ، مصدر قوتها ونفوذها وفضائها ، الذي حاولت تدوين تاريخها الإمبراطوري وثقافتها الإمبريالية ، وما خلفتها ورائها من ويلات للشعوب التي استعمرتها. أما المسرحية الثانية فقد تمركز موضوعها على انحسار شمس الإمبراطورية البريطانية ، فقد أصبحت غير قادرة على كسر الحاجز بين حضارتين ، الأولى مضت وغربت عنها الشمس والثانية قادمة لا تستطيع اللحاق بها ، وقد امتازت هذه المسرحية بحوارات لاذعة للإرث الاستعماري الغربي.
لقد أطلق (ازبورن) صيحة الغضب ضد (بريطانيا العظمى) وسياستها الامبريالية وخطابها الكولونيالي ، وقد وجدت هذه الصحيحة صداها في المسرح البريطاني ، ولاسيما مع جيل السبعينيات في كتابات (ديفيد هير وهورارد برنتون) ، وقد كتب هذا الأخير مسرحية بعنوان (الرومان في بريطانيا) ، وهو يقارن فيها بين الاستعمار البريطاني والغزو الهمجي الروماني لـ(قرطاجة) وغيرها من الشعوب الشرقية. ويعد هذا الخطاب النقيض في المسرح البريطاني خطاباً موجهاً للأخلاقيات القديمة للإمبراطورية ومحاولة لتعريتها من مفاهيمها التي تمركزت عليها في بناء خطابها الكولونيالي.
كما قدمت في (أوربا) عدد من المسرحيات ذات الخطاب النقيض للخطاب الاستعماري اليهودي ،الذي يعد جزءاً مهماً من الخطاب الثقافي الكولونيالي الغربي. حيث تناولت مسرحية (نقل أدولف هتلر إلى سان كريستوبال) للمؤلف المسرحي (جورج شتاينر) وأخرجها المخرج الانكليزي (جون دكستر) ، فقد نقض الخطاب الصهيوني واصفاً إياه، بأنه وريث النازية في التنكيل بالفلسطينيين، وتركز هذه المسرحية على (هتلر) الذي استخدمه اليهود ذريعة في قيام إسرائيل الكبرى من خلال التركيز على المحرقة اليهودية (الهولوكوست) ،حيث حاربت اليهودية العالمية هذه المسرحية وغيرها، مثل مسرحية (الهلاك) للمخرج الانكليزي (جيم الآن) التي تسلط الضوء على القضية الفلسطينية ودور اليهود في اغتصابها.
أما في أمريكا ، فقدم المؤلف المسرحي الأمريكي (يوجين أونيل 1888 – 1953) مسرحية (كل أبناء الرب لهم أجنحة) التي تناول فيها موضوع العنصرية اتجاه السود ، من خلال قصة مأساوية لرجل (أسود) تزوج امرأة بيضاء ،وقد تعرضت المسرحية لنقد شديد بسبب موضوعها الذي يدعو إلى المساواة ، لكن النقد جاء نتيجة لدوافع عرقية أسس لها النظام الغربي ضد الآخر ذي الأصول الإفريقية.
كما سار أيضاً المؤلف المسرحي الأمريكي (آرثر ميلر) في مهاجمة النظام الأمريكي الذي عدّه نظاماً متوحشاً قائماً على نظام عالمي وحيد الجانب وذات توجه اقتصادي يتحكم فيه النظام الرأسمالي الذي لم يراعِ القيم الإنسانية ، حيث ناقش (ميلر) هذه القضية في مسرحية (كلهم أولادي) والتي يكشف من خلالها عن مآسي النظام الأمريكي ، مثّلها بمالك مصنع لصناعة السلاح الحربي ، الذي يحاول تمرير صفقة من مكائن الطائرات ، مع علمه بوجود خلل فني فيها ، لكنه لم يفصح عنها بسبب تجنب الخسارة المالية ، مما تسبب ذلك بقتل عدد من الطيارين. لقد ضحى صاحب المصنع بأبناء الشعب الأمريكي في مقابل الحفاظ على ثروته وهذا الوجه السيئ للنظام الرأسمالي القائم في الغرب ، الذي تمركز عليه في نظامها الرأسمالي.