مسرحية اثنان في تل أبيب: تكامل عناصر النجاح فنيا وإنسانيا/تحسين يقين

 مسرحية من حيفا الفائزة بجائزة أفضل ممثل من مهرجان فلسطين للمسرح

 
واقع وفن..
لقد استحق المسرح فعلا ما وصف به!
ترى ما يقول أبو الفنون لنا هنا عن هذا الوجود!
حين انتهى العرض القادم من حيفا، رحت اهمس لنفسي مكررا ما أتساءل به دوما عن فلسفة الفنون، ودوافعها بل تاريخ وجودها، وصولا لعالم المسرح، لم اختار الأقدمون شكل المسرح؟ وكيف تطور اللعب بالكلام والتمثيل وصولا لهذا الشكل العبقري المؤثر، ما قبل اليونان حتى الآن؟
هنا، في الزمان والمكان، وفي المضمون، ثمة ما يستدعي العناصر معا: الإنسانية والفن والوطنية، والفكر؛ حيث رأينا فعلا أن مضمون هذه المسرحية ونصها استدعى هذا الشكل الفني وهو المسرح، كذلك استدعى هذا الأسلوب والمذهب.
“ما الدنيا الا مسرح كبير” هكذا ارتبطت العبارة بالرحل يوسف وهبي، فما ترانا نقول عن المسرح والحياة؟ وحياتنا هنا في فلسطين؟
تكتمل الدائرة، يعود زكريا ليزور أحمد في عمله، ولطول البعد لا يتعرّف عليه، لكن حين ينادي عليه باسمه، يقترب منه، فيتذكره، وفي لحظة تتدافع العبارات جملة واحدة، فيذهب التردد ليحل محله الوئام سريعا.
وسريعا تقفز الذكريات، وسريعا يعودان معا، ويعيدان سرد ما كان ولكن تمثيلا!
هل تتذكر اللقاء الأول!؟
يحمل المشهد الأول عمقا في توصيف حالة الحذر التي يحياها الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة عام 1948، فحينما يعثران على “الخشابية”، في وقت متقارب، يظهر كل منهما من الآخر، فكل منهما يظن الآخر من المجتمع الكولينيالي، فتظهر نوازع التردد والقلق والخوف، ويزداد حينما يتحدثان باللغة العبرية، الى أن يكتشفا انهما عربيان. وهنا يبدأ تقاسم هذا الفضاء الضيق والحياة المرة.
جميل هو أسلوب الإخراج في بساطة عمقه، الذي عبّر عن الحكاية، التي هي مؤثرة بحد ذاتها أكانت سردا ام تمثيلا.
وعلى مدار أكثر من ساعة، ومن خلال ديكور عملي مرن، جذب الفنانان سعيد سلامة واياد شيتي عقول المشاهدين وقلوبهم، من خلال جعلهم يتعايشون معهم، لا ليتضامنوا فقط، بل ليتأملوا حال العاملين، ومن خلال ذلك، يتعمق التأمل في الحكاية الفلسطينية.
يسردان تمثيلا، ثم يتوقفا في الحاضر قليلا لتأمل ما كان ويكون، ثم يستأنفان، مشهدا وراء مشهد بتتابع سلس دون فجوات، ودون فراغات تثير أي ملل، بحيث من خلال الكوميديا والمأساة معا يجذبان الجمهور.
يمثلان دوريهما وأدوار شخصيات يهودية، بسهولة ويسر يدخلان الشخصية ويغادرانها، من خلال تغيير بسيط، أكان من خلال ارتداء قبعة او من خلال حركة جسد.
تعانقت وتضامنت عناصر العمل الفني لإنجاح العرض، حيث عبرت الرؤية الاخراجية عن النص بشكل عضوي، بحيث أن هذا الإخراج خلق لهذا النص، وكان للديكور الإبداعي دور بنيوي لم يكن من السهل ان تنجح المسرحية تماما بهذا النجاح لو لم يكن هذا الديكور بهذا الشكل، ولعل ذلك قادم من التفكير العميق المسرحي بما يحتاج العرض فعلا من ديكور خاص وحيوي.
لقد أبدع الممثلان على الخشبة إبداعا يستحق الاحتفاء به، حيث أكدا معا فعلا أهمية عنصر التمثيل على الخشبة، كبيت قصيد شدّ الجمهور من البدء حتى النهاية، ثم الدخول (أو الاستمرار بالتفكير السياسي والوطني والإنساني  بالعرض).
كوميديا “اثنان في تل ابيب”، ليست كوميديا سريعة، بل كوميديا عميقة، كوميديا الموقف كله، وهي نابعة من مفارقة لقاء الإنساني والعادي بالعنصري غير العادي؛ فماذا سيجد العاملان ومثلهم من فرص عمل!
مسرحية التفاصيل، والتمثيل الحيوي، لعاملين يضطران لعمل في مرحاض عمومي، ويضطرا للإقامة في “خشابية”، ويضطرا للتحمل من أجل عائلتيهما.
ثمة رموز هنا، تربط كل ما هو كريه من رائحة، أكانت رائحة عادية أم رائحة معنوية، تلك هي رائحة العنصرية.
لقد كانت المسرحية تعبيرا عن واقع الحال، باتجاه نقده ومناهضته ومقاومته، حيث يكمن هنا دور الفن، وبشكل خاص لفلسطينيي عام 1948 الذين يعانون من العنصرية.
وقد امتد النقد الى التفاصيل، حيث ان الطبقية أيضا تحضر هنا، ان لذلك علاقة بالإدخال والإخراج، وكلما زاد العنصري عنصرية ازدادت رائحته كراهة.
وقد تمثلت أبشع الوان العنصرية حين انتحل زكريا شخصية يهودي من اجل العثور على فرصة عمل في مرحاض عام، ففوجئ بغضب صاحب المكان، مستنكرا عليه، فإذا هو أقبل على هكذا عمل وضيع فماذا ترك للعرب؟ بل انه يشكو ويستنكر التحاق أبناء العرب في الجامعات الإسرائيلية.
بل يذهب بأحدهما الى حيث ينتظر العمال القادمون من الضفة الغربيةـ لعله يحظى بفرصة عمل حتى ولو بأجر أقلّ، كأن واقع الحال يقود الفلسطينيين بغض النظر عن نوع البطاقة التي يحملونها، للتضامن معا، وصولا إلى فكرة ان الخلاص واحد، حيث أن من يمارس القمع على فلسطينيي عام 1967، هو نفسه (لا غيره) من يمارسه على فلسطينيي عام 1948..
يتذكران تلك الأيام ويضحكان عليها، كأنهما يسخران من ذلك الوجود المتعالي والعنصري، ولكن احتفاظهما بالأمل بالغد، من خلال تنشئة الأطفال وتعليمهم، من اجل البقاء الإبداعي في الوطن، كأن المسرحية تؤكد على الهوية من خلال التعليم والثقافة والفن.
فقط الرقم!
“اثنان في تل ابيب” لربما تثير التساؤل عن التعميم، وعدم ذكر الاسم ولا الصفة، للتنفير من وجود الانسان كرقم، من خلال ارادته هو الا يظل رقما!
“الفن أصدق إنباء” من الحديث، بشرط امتلاك المصداقية والاحتراف؛ وهكذا مع وجود نص له مصداقية، ووجود ممثلين محترفين يحبان الفن وينتميان للفكرة، ومخرج ذكي استطاع توظيف الطاقات الإبداعية لكل من الفنان إياد شيتي والفنان سعيد سلامة، فإن العرض سيطول تأثيره طويلا.
من حيفا فلسطين، الى العالم، ولنا، ثمة دور للفن ولنا..
لنا جميعا، ولم يريد الانضمام لنا..
“اثنان في تل أبيب”: تعانق النص والتمثيل والإخراج والديكور..مع العمق الإنساني من الداخل جعلها مؤثرة ومثيرة للشعور والتفكير في مستقبل العيش هنا.
النص لسعيد سلامة، وهو من اخراج نبيل عازر. من انتاج مسرح المجد-حيفا، وقد فازت المسرحية بأحسن ممثل (إياد شيتي) في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح الذي تم بدعم الهيئة العربية للمسرح. وهي جائزة يستحقها الممثلان والطاقم الفني.
Ytahseen2001@yahoo.com
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت