مسرح الشارع بالمغرب الدلالات والتطور/ عزيز ريان
عرف المسرح المغربي منذ نشأته عدة تطورات على مستوى الشكل والمضمون،ولما كان مضمون العرض ينهل من نص المؤلف وتوجهه،فقد كان الشكل هو الذي يتسم بدلالات تنبني على رؤيا وتصورات المخرج. ومن بين الأشكال المعاصرة نجد فرجات مسرح الشارع.
تشهد مختلف الدول عربيا وعالميا،تجارب متميزة ومتنوعة في المجال،كتجربة مصر ولبنان(لبنان إقبال ملحوظ على مهرجانها السنوي لمسرح الشارع،مسرح الشارع خلال ثورة مصر…)
وتميز فرجات مسرح الشارع بالمغرب بحداثتها وتعددها وتنوعها شكلا ومضمونا. إذ يعتبر غرض مسرح الشارع من الأغراض الفنية الحديثة والتي ظهرت في الساحة الفنية مؤخرا بشكل متصاعد. حيث تخصصت فرق بعينها في هذا النوع الفني وقدمت عروضا مميزة مختلفة. ما هو مفهوم مسرح الشارع؟ وكيف يتم الاشتغال عليه ؟ ولماذا يعرف نموا متسارعا بالمغرب حاليا؟فهل له رسالة فنية ثقافية راقية أم مجرد صرخة شعبية؟
هي أسئلة تتفجر كلما تم التطرق إلى المسرح المغربي بجيل أكاديمي خلخل الكثير من المفاهيم التقليدية بالمسرح واستطاع إثبات الذات للخروج من المسلمات إلى تنوع مسرحي يفيد المتلقي ويحقق الفرجات المشهدية الدرامية المعاصرة.مع الإشارة إلى صعوبات البداية مع الجهات الرسمية وكذا الجمهور نظرا لنوعية المواضيع المتناولة والتي تتميز بجرأة من ناحية المواضيع واللغة وأساليب التشخيص مع نسج لعلاقات حانية مع المتفرج.
تتعدد دوافع الفنانين لاختيار فضاء الشارع لعرض مسرحية فنية،حيث الجانب الثقافي ودعوة لنقل رسالة إنسانية عبر موجات من التفاعلات والحركات،معتبرين أن مكان الشارع يعطي مساحة أكبر من الحرية في الطرح والتفاعل وخلق جسور بين المؤدين والمتلقين. هو مجال يلغي المسافة بين العرض والجمهور،ليشارك في خلق أحداث المسرحية وتفاعلاتها.
الماهية:مسرح الشارع:
فن مسرح الشارع هو أداء مسرحي ارتجالي يقدم في الأماكن والساحات العامة بالهواء الطلق دون تحديد جمهور معين وفي أماكن تعرف الذروة كمحطات القطار والمترو ومراكز التسوق والحدائق والشارع…
وبالمغرب لا يعتبر فنا أدائيا مستجدا باعتبار ارتباط الساحات العمومية به بعروض ارتجالية وإحتفالية معروفة (الحلقة بجامع الفنا أنموذجا)
المسرح في تعريفه المتعارف كفن شامل ومرن ويحقق التفاعل الآني مع المشاهد.هو أحد فروع فنون الأداء أو التمثيل الذي يجسد قصص أو نصوص مكتوبة أمام الجمهور باستخدام مزيج من كلام،وإشارات…
أما الشارع بمفهومه الاعتيادي فهو عبارة عن طريق ومساحة تحدد للأشخاص مسلك العبور والوصول من دون حاجز أو معوق. الشارع وسيلة تثقيفية وتعليمية خرجت منها الكثير من العروض الإنسانية التي تصل إلى خلفيات المجتمع وأسس تكوينه. فللشارع أهمية في إبداع فن المسرح الارتجالي بأزياء بسيطة وأفق مساحة خيال غير محدد.
ونعرج على بوادر حداثية تنظيرية بكتابات جان جاك روسو بالقرن 18،وتنظيرات أنطونان أرطو بالأربعينات،ومرورا بعروض فرجوية كعروض لاجي بروب بروسيا والتي عمت أوروبا. دون أن ننسى تأثيرات القارة الأمريكية في ظهور هذا النوع باوروبا كالليفينك تياتر ومسرح المقهورين والبرفورمونس والهابينينك من فرجات طلائعية.
وبالمغرب لا يمكن إهمال معطيات وتجارب للراحل الطيب الصديقي بمسرحه الجوال السباق في تاريخ المسرح المغربي ومبادئه الأولى التي خرجت بالمسرح من القاعة نحو أماكن أخرى أرحب.
كذلك نصوص الكاتب المغربي عبد الكريم برشيد ونظرياته المسرحية التي دعى فيها إلى إيجاد مكان عرض عربي نابع من الثقافة الشعبية لتعويض العلبة الإيطالية المستوردة وأشهر هذه التنظيرات المسرح الاحتفالي الذي لا يؤمن بالمكان المقفل.
الحَلْقة المغربية مسرح شارع قديم:
عرفت الساحات العمومية بالمغرب منذ العصور السابقة حضور لمسرح الشارع والمسمى بالحلقة والتي تكون على شكل دائرة وبراوي وممثلين وآلات موسيقية شعبية.ولكن أشهرها عالميا هي ساحة جامع الفنا بوسط مدينة مراكش المغربية.
لن يختلف اثنان ،إذن،أن ساحة جامع الفنا بقلب مدينة مراكش هي أحسن أنموذج لمسرح الشارع المقدم على شكل حلقة دائرية. حيث تعتبر هذه الفرجة الشعبية والتي تحدث في المجال الحضري وتشتغل الكثير من الأسماء الحَّكَّاءة (الراوية)والفنية بفضاء خارجي. فنرى المعايشة والممارسة وتقنية إشراك المتلقي والتفاعل الذكي. وليس عبثا أن تم اعتبار الساحة إرثا ثقافيا عالميا من طرف اليونسكو. فالحليقي(الراوي) يقدم حكاياته بالساحة ويشرك المتفرج من كل الجنسيات. بالساحة يحضر فن الارتجال في شكله الطبيعي والحرفي. هي ساحة تضم كرنفالا فنيا ومسرحيا يغري بالبقاء داخلها طوال الوقت.
ولقد اعتمدت فرقة مسرح المحكور بالدار البيضاء على صهر تجربة بوال أغستو بمختلف التراث الفرجوي الشعبي وهو الحلقة. فأنتجت عرضها سيقدم بشهر نونبر المعنون ب: بحال بحال في إطار مشروع ميكسي سيتي المدعوم من طرف الإتحاد الأوروبي. وهو عرض يتطرق لإشكالية اندماج المهاجرين الأفارقة في المجتمع المغربي،والمشاكل الإدارية التي يتعرض لها من لا يحملون وثائق إقامة بالبلد، ومشكل التمييز والأحكام المسبقة ليفتح نقاش مع الجمهور للبحث عن حلول ممكنة. وهذا يحيلنا إلى المسرح الاجتماعي ورائده البرازيلي أوغستو بوال الذي تميز مسرحه بالتفاعل.
أسباب نجاح مسرح الشارع بالمغرب:
- استطاع خريجي المعهد العالي للمسرح خصوصا في التدبير الاحترافي لمثل هذه المبادرات التي تم توقيع عقود لها بشكل محترف،وحددت قيمة التعويضات في البدء قبل أن تباع لجهات ومؤسسات معينة قامت باحتضان هذه العروض.
- سَهُل على السلطة والقطاعات الوصية التجاوب والتعامل مع انتظام فعاليات فن مسرح الشارع في جمعيات أو فرق أو مقاولات أو مؤسسات فنية.
- تزايد حجم انتشار مسرح الشارع بالمغرب هو بساطة اللوجستيك بالعروض،وبالتالي سهولة التنقل والعرض بأمكنة ومدن مختلفة.
- تعامل جدي واهتمام فني في الاشتغال الفني والاختلاف المقترح في الأشكال المعروضة.
- تجاوب وإقبال للمتلقي المغربي بمختلف شرائحه،نظرا للمواضيع القريبة من همومه ومجانية العروض وبالتالي خروج الفرق نحو المتلقي المنتظر بدل انتظاره بالقاعة المعروفة.
الفرق المتخصصة وغير المتخصصة بمسرح الشارع:
تتصف التجارب المغربية القليلة بالبساطة في التقنيات وصغر حجمها،إلا إذا استثنينا بعض المشاريع الفنية العملاقة المعدودة.
ودون التطرق إلى تجربة مولت واقترحت من طرف مؤسسات دولية كعرض القراصنة الذي قدم على سفينة بمصب وادي أبي رقراق بين العاصمة وسلا والتي اعتبرها تجربة تستحق باعتبار تقديمها لسنوات متتالية وبعروض منتظمة.
تقسم النماذج إلى ثلاث أنواع مختلفة:
- فئة خريجي المعهد العالي للفن المسرحي: كفرقة تيرمونيس وفرقة أونكور…
- فئة خريجي المدرسة الوطنية للسيرك كفرقة كولو كولو بمدينة سلا
- فئة متكونين بالممارسة في تجارب محترفة محليا أو دوليا كفرقة المسرح الرحال…
اعتمدت فرقة إيكلا جو لون وفرقة المسرح الرحال عروضا وجولات بآليات ودمى ضخمة على شكل كائنات بشرية أو حيوانية يحركها أشخاص لهم دراية وممارسة فعلية. كما الحال في عرض اللا ميكا لفرقة المسرح الرحال وقافلة أزلاي لفرقة إيكلادولون.
هناك فرق أخرى تتكئ على تيمة الحكي والسرد في موضوع محدد،معتمدة على الكلام وتقنية اللعب عند الممثل لأدوار درامية يتم التدرب عليها بشكل متقن. حيث يكون الممثل “عاري” من أي آلية أو عنصر تشكيلي من الممكن أن يتقاسم معها الحضور،أو تحضر على حسابه. حيث يحضر النص بشكل كبير وهام مما يعطي للكلمة المنطوقة مساحة فعالة،في كون أثرها على المتلقي حاسم في تكوينه لموقف ما من العرض وإختيار أسلوب للتجاوب معه. ومن هذه الفرق ترمينوس بالدار البيضاء وفرقة أونكور ،ونحن نلعب للفنون بالرباط…
تفاوتت مستويات الاشتغال على معطيات جمالية وفنية من عرض لأخر وفرقة لأخرى،الشيء الذي يجعل تأطير أنواع مختلفة من هذه الفرجات مهمة تكاد تكون مستحيلة،إذ باعتمادنا على علاقات سنذكرها لاحقا قد تحدد زاوية تناول كل عرض بالدراسة والتحليل. فكل تجربة تتخصص في اختيار جمالية محددة،وتصبح نوعا مسرحيا حضريا قائما بذاته، مما يؤدي إلى غنى وتنوع الفرجات المسرحية الخارجية.
ومن بين هذه العلاقات التي تتحكم في تنوع خصوصيات الاشتغال على هذه العروض نجد:
- مفهوم الفرجة في علاقتها بفضاء العرض،والمتنوعة بين الثبوت والتحرك والانتشار.
- الفرجة في علاقتها بالمتلقي والحضور،وهي علاقات تختلف بين ما هو أفقي وماهو عمودي،وعلى مستوى الدراية بالموضوع والقصة أو على مستوى التواجد في المكان العمومي واستغلال الفراغ المؤقت.
- الفرجة وموادها الجمالية التي تزين الفضاء (سينوغرافيا)،وهي تكون إما في وضعية الجمود أو وضعية التحريك.
- الفرجة ومضمونها الدراماتورجي والذي قد يتمظهر حكيا لفظيا،أو حكيا مشهديا بالصورة،أو حدثا بظروف تساعد على حكي يصنع باشتراك بين فعاليات العرض وجمهوره.
لقد كان دافع انتشار مسرح الشارع بالمغرب من تجليات البحث عن أشكال تواصلية جديدة بين الفنان والمتلقي،ويعكس حاجة الفرجة المسرحية المغربية لجمهور أكثر تجاوبا وأوفر عددا من جماهير القاعات المسرحية المعروفة.
فجمهور مسرح الشارع يختلف عن جمهور مسرح القاعة بكونه يقف بين الحر في أن يتابع العرض أو إكمال مسيرته اليومية،ثم في اختيار زاوية المشاهدة وطريقة تجاوبه دون تدخل جهة أخرى. فنجد المتلقي يبدع في خلق فرجة خاصة به انطلاقا من العرض المقدم. فتتنوع مشاهدة العروض لمسرح الشارع مقارنة بالقاعة حيث تصبح كل الاجتهادات ممكنة في غياب كراسي وأرائك مريحة.
لا شك أن تجارب مسرح الشارع المغربي في تزايد ونمو،سواء على مستوى الخلق والإبداع والإنتاج،أو على مستوى التوزيع والتدبير الفني والإداري،مما ينبأ بمزيد من تزايد للفرق المتخصصة وغير المتخصصة،وتزايد المهرجانات والفعاليات المحتفلة بالفرجة بالأماكن العمومية. حيث أصبح مسرح الشارع تحصيل حاصل يلمسه كل مهتم ومتتبع.
فبدأنا نتلمس الكثير من الفعاليات والمهرجانات المتخصصة أو التي تقوم بإدراج مسرح الشارع في مهرجانات معروفة. فجمعية أوديسا بمدينة العيون تضم مهرجان دولي لمسرح الشارع بمشاركة دول وتجارب مختلفة. ومهرجان آخر بمقاطعة اليوسفية االمنظم بالرباط …
والمغرب من بين الدول العربية التي تعرف انفراجا مهما في الحريات العامة،وحرية التعبير بالخصوص،مما يلزم تكثيف الجهود لتشجيع مساعي ظاهرة مسرح الشارع. فعروضه تتصف بالجرأة،على مستوى الخطاب والعناصر المشهدية كالحركات الإيمائية،التعري الجزئي… وهذا يثير بعض المتلقين لكن دون أن يؤدي إلى نفور،حيث يعبرون عن اشمئزازهم إلى أن يكتمل العرض فيرى التفاصيل تتكامل وتتماسك عناصره الإستيتيكية.
ومن المهم الإشارة إلى غياب واضح لنص تشريعي صريح يقوم بتنظيم الفرجات الفنية والأنشطة الثقافية والبرفورمونس،عبر نصوص في قانون الحريات العامة بالمغرب،مما يؤدي إلى فتح باب الاجتهاد القضائي والقياس على نصوص التجمعات والعمومية وقانون التجمهر والتواجد بالشارع. ونعترف أن السلطة لا تتدخل في النصوص المقدمة وتقوم بدور الحارس للفنانين وتحفظ الأمن العام.
وهذا بعد نضال لفنانين مغاربة ينشطون في مجال مسرح الشارع والذي ضغطوا على الجهة المختصة بالثقافة لكي تنظم الدعم للمهرجانات المتخصصة بمسرح الشارع في إطار مباردة محمودة لمساندة الإبداع الفني في الأماكن العمومية المغربية. فلا سبب لكي تنزع بعض المؤسسات العمومية والجماعات الترابية لكي تتملص من مسؤولياتها في تشجيع مثل هذه الفنون وبل بدعمها والإسهام في تنظيمها والحرص على التواصل افعال مع فاعليها،فذلك يدخل في قلب اختصاصاتها التدبيرية والتنظيمية بحسب ما ينص عليه الدستور الجديد لعام 2011.
** عزيز ريان (المغرب ـ شفشاون 2018)