"مفوض عبد" و "أيها الرئيس"…الجمال و الامتاع في صور بسيطه/حمه سوار عزيز (اربيل)
قدمت خلال مهرجان بابل الأكاديمى الأول، عروض مسرحيه متعدده الفورمه و البناء الدرامى و التكوينى، من ضمنها عرضين مسرحيين لفرقة مالتوس المسرحيه التى يديرها المسرحي الشاب المبدع حسين مالتوس، بمشاركة مجموعه من الشباب الواعيين بما يقدمونه على المسرح من فورمه مسرحيه متميزه ذات خصوصيه شبابيه و تكوينيه مختلفه عما يقدم في المسارح الأخرى.
عرض ابتدأ به المهرجان و هو العرض الكوميدى الصامت (مفوض عبد)، فكره وأداء و اخراج المبدع حسين مالتوس، فكرة العرض تتحدث عن رجل المرور في المجتمع العراقي و لما يتعرض له يوميا من المواقف المختلفه و خاصة من المسؤولين و رجال السلطه الذين لايلتزمون بأية قوانين و يعتبرون أنفسهم فوق القانون، عرض ايقاعي و موسيقى يرتكز على جسد الممثل و الحركات الأيقاعيه و الرقصات المتنوعه و المعبره و الأيحاءات الدراميه الصوريه و الحسيه، باداء راقي من الممثل الذى يمتلك مواهب جسمانيه و ايحائيه عاليه مكنته من تقديم عرض متكامل البنيه من حيث مرتكزاته الدراميه و الجماليه و الحركيه،
بمصاحبة سينوكرافيا رائع المتكون من كتلة الممثل كالجسد و الحركه والأيحاء، أضافه الى الملابس و الاناره و المؤثرات الصوتيه و البصريه و الموسيقى الذى كان عنصر مساهم بفاعليه كبيره و كان يمثل المساحه الأكبر لرسم الخط الدرامى و مشاركة الممثل في رسم الصور الأبداعيه الجميله في العرض، فالمسرحيه لم تكن من المسرحيات أحادى الشخصيه لأن جسدت من قبل ممثل واحد، بل كان لحضور الموسيقى و المؤثرات الصوتيه و البصريه، شخصيات دراميه أخذت لها فضاءا واسعا من الفضاء الفعلى للحدث المسرحى، و أضافت كثير من الصور الدراميه المرئيه الحسيه لا عيانيه للعرض المسرحى.
والذى جعل من المسرحيه تخرج بهذا الثوب الراقى هو التجانس الخلاق الموجود بين عناصر العرض من الممثل و الأناره و الموسيقى و المؤثرات المختلفه، فالتجانس وصلت الى حد التوحد فيما بين كل تلك الشخصيات في صورة العرض المسرحى ذات تكنيك عالى، بحيث لم نشعر بأي وقت من أوقات المسرحيه بوجود شخصيه وحيده على المسرح، أنما التكنيك العالى و الايهام الحركى و الموسيقى المرئى و اللامرئي، جعلنا دائما نحس و نشعر بأن المسرح مزدحم بتلك الشخصيات التى أعتمدها المخرج و المؤلف للعرض، فالدقه في التجانس و التوحد الأبداعي لعناصر العرض، جعلنا كمتلقين نحس بالشخصيات الأخرى الغير الموجوده جسديا في العرض كأنها شخصيات مرئيه و محتله للمساحات فوق الخشبه، بل أكثر من ذلك العرض تولد لدينا أحساس عالى بالمكان و الزمان و الأكسسوارات الوهميه الموجوده و المستحضره في العرض، فكان أحساسنا بوجود الشوارع و السيارات و العربانات و الحيوانات و الأبواب و جميع ما استند عليه العرض من السينوكرافيا الأيحائي للعرض، بشكل أستطيع أن أجزم أنه كان أقوى حضورا من الحضور الفيزيائي و الحقيقي لهذه الكتل.
في العرض الثانى (أيها الرئيس)، توليف و أخراج حسين مالتوس و اداء كل من (سجاد فلاح، عبدالله احمد، حسين مالتوس،جهاد العكيلى و على الدر جبار)، أعتمد العرض الثيمه الكوميديه المباشره في أنتقاد الوضع الراهن في الوطن، و كان عرض جريئا في فضح ما يتعرض له العراق من السلب و النهب على أيدى مجموعه من الفاسدين المتواجدين في داخل السلم السلطوي المتحكم في البلاد.
من جمالية هذا العرض رغم انه كان كوميديا و مباشرا في طرحه، الا انه لم يتدحرج الى مصاف العروض الغير الفنيه التى هدفها اضحاك الجماهير و دغدغة المشاهد على حساب الخطاب الدرامى و الجمالى للعرض، فحاول المخرج ايجاد توليفه راقيه بين العناصر الكوميديه المشكله للعرض، مع التوليفه الحركيه و التكوينيه التى شكلت الصوره الجماليه للعرض، فالعرض كعمل متميز جمع بين الجمال و الجماهيريه، بين المتعه الشعبيه و المتعه الفنيه، بين الكوميديا البسيطه و الفورمه الراقيه، أي خلطه منسجمه من البساطه و الابداع.
طبعا ليس من السهل ايجاد تلك الخلطه الصعبه من امتزاج الكوميديا و المتعه الجماهيريه مع الفورمه الفنيه التى تحافظ من خلالها المسرحيه على صورها الجماليه و بنيتها الابداعيه، أن نخرج بالعرض كعرض كوميدى و جماهيرى ممتع، دون أن نقع بالمطبات الهابطه و المتجرده، التى تجرد العرض من بناءها الفنى و شكلها الجمالى و توجهها الى مصاف العروض التجاريه المضحكه، لكن المخرج بوعيه العالي و وبمساهمة الكاست المبدع من الممثلين المبدعين و المتمكنين من أدواتهم التمثيليه بشكل راقى، حيث خلقوا عرضا كوميديا ممتعا مع الابقاء على الفورمه العاليه للعرض و الحفاظ على مستوى معين من التناسق الجمالى و الجماهيرى للعرض.
طبعا هذا لاينفي أن العرض كان عرضا أستثنائيا بدون فجوات و ثغرات فنيه، فالمساحه الحركيه للعرض كان في أغلب الأوقات تمثل خط مستقيم مواجه للجمهور، فكان من الممكن أستفاده من الكتل الجسمانيه للمثلين الخمسه لكى يتشكل من خلالها حركات أبداعيه و جماليه متنوعه و متفاوته تغطى المساحات الأخرى من جغرافية الخشبه التى لم تستغل بشكل كبير، و كذلك كان من الممكن كسر الحاله السرديه و الروائيه للعرض التى أستند عليها كثيرا، من خلال تحويل الحالات السرديه و الحكائيه الى مشاهد دراميه عاليه تمثل تلك الحالات و المواقف من خلال توظيف الممثلين في أداء تلك الشخصيات، حتى يتسنى للعرض أن يخرج بشكل أكثر جماليا و أكثر أمتاعا كالشكل و الموضوع، و كان هذا كفيلا بكسر الريتم المكرر للمسرحيه بأضافه الى صنع فضاءات أكبر للمثلين لابراز طاقاتهم الفنيه التى كانوا يتمتعون بها.
في النهايه رغم ان هذين العرضين لم يكونا ضمن مسابقة المهرجان لأن المخرج لم يكن تدريسيا في الجامعه كما نص عليها قوانين مشاركة العروض المتسابقه للمهرجان، لكن كمشاهدين أستمتعنا بهم كثيرا كعروض متباينه من حيث الشكل و الطرح مع ما قدم في المهرجان، فتحيه لفرقةالمالتوس المسرحيه و لمجموعة الشباب الذين يتفانون في حب المسرح و كان تواجدهم في المهرجان شمعه جديده أضاءت سماء المهرجان.