حظر تجوال وتهميش الكائن الرائي ….. / د. عواطف نعيم

على مدى يومي 16 -17 من شهر كانون الثاني ومن على فضاء منتدى المسرح  تم تقديم العرض المسرحي القادم من محافظة الديوانية ، المديرية العامة للتربية ، معهد الفنون الجميلة ، قسم المسرح ، العرض الموسوم ( حظر تجوال ) للمخرج د مهند العميدي وتمثيل الفنانين مشكور ناصر و بسام الابراهيمي ، كاتب هذا النص هو مخرج عراقي متميز ومغاير وقد شاهدت هذا العرض حين تصدى لاخراجه كاتبه مهند هادي وقدمه من على خشبة المسرح العراقي وداخل فضاء المسرح التونسي في أيام قرطاج المسرحية ،
ما بين مشاهدتي لهذا العرض بمشاكسة و سخرية  مهند هادي وتحليل ورؤى د مهند العميدي تركض أمام أنظاري أثنى عشر عاما من الانتظار والوجع والتوق والخيبة ، هذا النص الذي يعبر عن خوالج مكتومة ومواجع مريرة ويستنطق وهو ينثال في هلوساته حتى الحجارة وبقايا الامكنة وما ينحشر فيها من نفايات رثة وحكايا عتيقة عتق قنينة الخمر التي يتناصفها الاثنان من المهمشين المنسيين في حفريات المدينة الغارقة في عتمة الخنوع والخيبة، يكاد يكون واحدا من النصوص التي تؤرخ وتشير لمرحلة من تأريخ العراق السياسي والاجتماعي  لما بعد  أعصار 2003 ، فهو بقدر ما يظهر ويناقش الواقع المر الذي أحاط بالوطن وما حل فيه من خراب طال النفوس وأغرقها في لجة الخوف واضطراب الرؤية وتشتت الولاءات بقدر ما كان جريئا في تشخيص وفضح الاحداث والتقلبات واللعب على حبال المواطنة والعبث بعواطف المواطن ، هو نص مكتوب بعمق وتأمل فلسفي ، يخاطب فينا العقول ويزج الينا بلسعات الاسئلة دون حرج أو تردد، ما هو الوطن ؟ ماهو الخوف عليه ومنه ؟ هل علينا أن نسمح ببيعه وتسليمه ونرتضي بما يلقى الينا وعلينا من فتات أو هراوات؟ من ذا الذي يتحكم بأحلامنا ويقود خيوط مصائرنا ؟ ما بين غاسل السيارات وماسح الاحذية طريق للبوح والحذر والترقب ، كلاهما مهمته أن ينظف أحذية يرتديها البشر وسيارات يقتنيها البشر والبشر لدى هذين الاثنين مختلف  متعدد الوجوه ، ماسح الاحذية ودون أن يرفع رأسه يعرف صاحب الحذاء من حذائه فهذا معلم وهذا محامي وهذا كادح وهذا كبير القوم وسيدهم ، لذا هو لا يكلم هؤلاء ويكتفي بأخذ أجره مقابل الخدمة والغريب أن الفقير يدفع ويتلذذ الغني بالالتفاف على الاجوروشفطها ، أحذية الفقير تحتاج الى الكثير من الماء لتنظف والكثير من الصبغ لتلمع والغني لا يحتاج الا الى ضربات فرشاة سريعة ليزاح الغبار عن جلد حذائه المصقول ، غاسل السيارات يرى أصحابها من محدثي النعمة ومن الباحثين عن الاستعراض ومن الذين يخافون على سياراتهم لانها مصدر رزقهم ومن المغامرين الباحثين عن الاثارة ،   يعرفهم ولكنه لا يستطيع ألا أن يعمل لهم ويزيح الاوساخ العالقة على سياراتهم، الماء والتنظيف هو الذي يجمع بين الاثنين كما يجمعهما المكان والغربة داخل الاوطان ولانهما في قمة الوجع في وطن صارت المعرفة فيه جريمة والخشية من الرب والتمسك بالقيم مضحكه فأنهما يعاركان بعضهما ويهددان بعضهما وهما لا يملكان سوى بعضهما أمام ضراوة ما يحيط بهما من ضباع ونهازي فرص وحاملي ثارات ، والاثنان في لحظة الخوف يحاولان التعامل مع جسديهما كما يتعاملان مع الاحذية والسيارات ، ينثران الماء والصابون ليزيحا البقعة
وكما فعلت الليدي مكبث في مسرحية شكسبير يعمدان الى ازاحة ذاك الخوف والرعب الذي حول حياتيهما الى مستنقع من الخيبة والمرارة والذي لا تستطيع نصف عبوة من الخمر الرديء أن تزيحه  يناديان بالبقعة  أن زولي والبقعة غادرت الجسد وأستقرت داخل الجلد  زارعة الخوف والرعب من القادم المجهول ،
أثنى عشر عاما ما بين ما قدمه المبدع مهند هادي وهو يلج العوالم الخفية لوجع العراقيين المهمشين ويفضح من خلال بوحهما عفن الفساد والشخوص والامكنة مع ممثلين رائعين أديا دوريهما بعفوية ودربة تشي بقدرتيهما وأنتمائهما للعرض  قضية وفكرا وبين ما قدمه الشاب أبن الديوانية د مهند العميدي من ادارة للاحداث بسلاسة وجمال وقيادة محكمة لمواهب شبابية نفذت ما أوكل ورسم لها من حركة وتقلب حالات لكنها بقيت أسيرة التنفيذ المتردد دون أن توغل في كسر التحفظات والخروج الى وهج المغامرة ، هو ذات النص الذي يمتلك ثراءا وغنى في التحليل والتأويل  وخلق الرؤى التعبيرية عبر الصورة الدلالية وأمكانات الاداء المتجدد واللاعب مهارة ووعيا ،
ولم يكن هناك من ضرورة الى عزل البوح عن طريق الداتشو لان البوح حاضر من أولى الخطوات بعد انفتاح الضوء على عتمة الارواح ، ولا أعرف السبب الذي دعى المخرج الى الاستعانة بالغناء الفارسي وهو يتصدى لموضوعة عراقية وناطقة باللهجة المحلية ويتردد فيها ولاكثر من مرة أسم دجلة وبغداد وساحة الحرية ؟؟ ( بغداد بالليل مقبرة  .. ما كو أحد ، الشوارع خاليه ) ، وقد كان بأمكانه أن يستعين بالموسيقى التراثيه العراقية ، كان الممثلان يتحركان في ضيق النفس ونفاذ الصبر قبل أن يتحركا داخل حدود المكان الذي حدد بالضوء ولو أن المخرج عمد الى رفع التحديد الضوئي وجعل الاجساد هي التي تحدد حركتها الجسدية المحاطة بالخوف والترقب لكان التأثير أكثر وقعا ، لا نملك سوى أن نبارك كل الجهود الطيبة التي تسعى لادامة حراك المسرح العراقي باعمال جادة وهادفة تمتلك حضورها الفني والجمالي وتحترم المتلقين في كل مكان حين تخاطبهم بلغة الفنون المسرحية العميقة ، شكرا لفريق العرض وقائده د مهند العميدي لقد كنتم في موقع قريب من القلب والروح انجازا ….
 
** د. عواطف نعيم/ كاتبة ومخرجة مسرحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت