عندما سقط المشبك و ارتفع العرض…/ حمه سوار عزيز (أربيل)
ضمن فعاليات مهرجان بابل للمسرح اللأكاديمى الأول، عرضت مسرحية (حين سقط المشبك) من قبل كلية الفنون الجميله/ جامعة بغداد، العرض من تأليف و اخراج (د.جبار خماط) من قصائد هدى الدغارى، تمثيل (اسراء رفعت، سيف الياس و جبار خماط)، العرض كان ضمن فسلفة العياده المسرحيه التى يعمل عليها د.جبار خماط و تهتم بتأهيل شرائح معينه من المجتمع الأنساني التى تعرضت الى الاضطهاد أو واجهت ظرفا قاسيا عن طريق المسرح و الرقي و السمو الذى يمتلكه المسرح و يأثر ايجابيا في نفسية المشاركين به و حتى المتلقين له، ولو أن هذا العرض مثل من قبل ممثلين محترفين في السلك الأكاديمى و لم يكونوا من الشرائح التى تعمل عليها العياده المسرحيه.
أول ما شد انتباهى في العرض، هو وجود ذلك العنوان أو المانشيت المحير (حين سقط المشبك)، هذا العنوان مثل لي بذاته عرض متكامل يحتاج التنقيب و التفكيك و اعادة البناء، ماذا أراد المؤلف و المخرج حين وضع هذا العنوان على المسرحيه، مانشيت غامض و عميق يحمل كثير من الدلالات السيمولوجيه المتعدده اذا ربطناه بواقع العرض و الدلالات البصريه و الموضوعيه الموجوده بكثره في طياته، ماذا يحدث حين يسقط المشبك، وماهو وظيفة المشبك و ماذا يحدث بوقوعه، وماهى افرازات هذه الحاله التخيلييه العميقه في أذهان المتلقي و كيف نستطيع أن نربطه بالدلالات السيمولوجيه المسموعه و العيانيه و الحسيه داخل فضاء ذلك العرض الملئ بالصور الفنتازيه و الخياليه الايحائيه المتعددة الدلاله ، والاشكال المتولده من كل ذلك التعدد.
حين يسقط المشبك، يتعرى الحقيقه و ينكشف المستور و يزيد مساحة الرؤيا و التفكر و التأمل، فالمشبك هو المانع أو الوسيط الذى يحجب الصوره الكبيره، المشبك هو ذلك المسند الضعيف الذى قد يخيل لنا بأنه يمكن له أن نستند عليه و نختفى أو نتخفي من وراءه دون أن يرانا الأخرون كما نحن، هو ذلك الفاصل الذى يفصل بين عالمنا الخارجى و ما نخفيه من الغوامض و الأسرار الذى يتحكم بداخلنا و بكل ما مدفون في أعماق هذا الداخل المخيف، الدامس الظلام، الداخل الذى نسوقه في الخارج في صور مزيفه و مفتعله و غير متأصله، الداخل الذى طالما عشنا داخله دون أن نتمكن من فهمه و نمتلك الجرئه في بيانه أو اظهاره للعيان، فأصبحنا نتمسك بأى وسيله حتى لو كانت هشه، تبقى التعتيم على هذا الداخل و لا يسمح للأخرين الغور فيه و أكتشاف الخبايا العميقه و المسوده فيه.
السؤال هو ماذا يحدث عندما يسقط هذا المشبك، وتتعرى الحقيقه المجرده و البسيطه للعيان، ماذا يحدث عندما لايعود المشبك قادرا على شبك الأحاسيس و الافرازات الأنسانيه المنغلقه في داخلنا لكي نتمكن من التنفس و نوهم أنفسنا بأننا أحياء نرزق، نغني في حين حنجرتنا تملؤها البكاء و الونين، نضحك حين قلوبنا توزع الهموم و الدموع في داخل الشرايين و تغذى به كافة خلايا الجسم، الدماغ لا يملؤها الأ صرخات الموت و أهات العجز و صور الأجساد الدمويه المشوه التى ترقد داخل برادات حفظ الجثث من دون الملامح و الهويه.
ماذا يحدث حين يسقط مشبك الاكاذيب الذى نتغذى عليه يوميا، الأكاذيب الذى يصدر الينا كحقائق و ثوابت غير قابله للنقاش، أكاذيب السلطه، أكاذيب المجتمع، أكاذيب الثقافه، أكاذيب الاعلام، أكاذيب التحضر، أكاذيب المستقبل، أكاذيب الماضي المبجل، أكاذيب التاريخ المشوه، أكاذيب الأنسانيه ، أكاذيب الرسالات و الفلسفات المزيفه التى نتعيش عليها و نصدرها دون أن نتظلل في ظلها، أكاذيب الأديان الذى نتمسك بصورتها الخارجيه والخشنه و المتوهمه، و نتجنب الجمال و الحب و التسامح في أعماقها.
المسرحيه تبدأ بأمراه متشعه بالسواد، أرمله تكره الطبخ، الطبخ لأنها عمليه أستهلاكيه تنتهي في بيت الأدب، بيت الأدب ليس بيت الأبداع للشعر أو القصه أو الروايه، انها التواليت أو المرافق الصحيه، لهذا أنها تكره الطبخ، أرمله تنتظر أبناءها الثلاثه الذين فقدوا في ثلاثة حروب متلاحقه، من هنا فأن المخرج يجمع بين مجموعة من ثنائيات متضاده و مختلفه، كالأمل و الأنتظار، الحرب و الحياة، الوهم و الحقيقه، الا ان تلتقي في نفس المكان برجل أخر يعرف عن نفسه بأنه ساعي البريد، ولكن ساعي بريد من نوع مختلف، الساعي الذى لم و لن يسافر، فقط رسائله تسافر، لأنه سجين بلد، الساعى الذى لايحمل أخبار المفقودين، انه هو نفسه من يبحث عن المفقودين، حتى رسائله رسائل قديمه أصحابها موجودين في الجنه و ليسوا على الأرض.
المسرحيه فكرتها المثلث الأبدى الذى عاش في ظلها الأنسان، مثلث (الرجل و المرأة و المجهول)، المجهول الذى كان شيطانا في أول وهله عندما وسوس لأدم و حواء أن يأكلوا من الشجره المحرمه و يخصف عليهما من ورق الجنه و يتعرون، فيطردون من الجنه و يسكنون الأرض، المجهول الذى كلما تغير الزمن و المكان يظهر بصوره مختلفه و متلائمه مع الظرف الجديد، فيصبح هو المتحكم و المسيطر بقدر الأنسان و توجيه مصيره، فتارة نراه في شكل السلطه و المال و المجتمع و التاريخ و العادات و الذاكره الجماعيه، تارة أخرى يطلع علينا في فورمة القوه الغيبيه المتحكمه، و أحيانا يلبس ثوب الغريزه و الجشع و النرجسيه التى ترسم دواخل الشخصية الأنسانيه.
امرأه تنتظر منذ ثلاثين سنه عندما أخبروها بأنها ستصلها رساله من ساعى البريد، فهي تنتظر يوميا لمدة ثلاثين سنه ذلك الساعي، في أنتظار يشبه كثيرا أنتظار فلاديمير و أستراكون لكودو الذى لا يأتى أبدا، أنتظار العجوز و العجوزه للخطيب في مسرحية الكراسي، و عندما يأتى الخطيب نكتشف انه أخرس و لايستطيع الكلام، هذا ما يحدث بالضبط في هذه المسرحيه، المرأة تنتظر ساعي البريد، ولكن عندما يأتى ساعي البريد، نكتشف أنه هو الأخر ينتظر جثه ابنه الذى لايستطيع أن يتعرف عليه بين الجثث المتراكمه و المتراصفه المشوه، هذا هو الثنائيه الذى عمل عليها المخرج و المؤلف في هذه المسرحيه، ثنائيه الأنتظار و الوهم، الأمل و السخريه، بيت الأدب (التواليت) و الشعر و التصوف.
المسرحيه في فورمتها البصريه ممتع و جذاب، يشد المشاهد من حيث كثرة المشاهد الصوريه الفنتازيه ذات الجماليه العاليه، فنرى توظيف رائع و مبدع لجسد الممثل و خاصة شخصية ساعى البريد التى مثلها د.جبار خماط، تمكن جبار خماط من توظيف رائع لمفردات الجسم و الحركه الدراميه المنتجه لدلالات متعدده يصاحبها أناره خلاقه و بألوان معبره و مشبعه للمتلقى، خاصة في المشاهد الكروتيسكيه التى وظفت بشكل مبدع و متناسق مع ايقاع العرض و كسر جمود الايقاع السمعي نحو ايقاع مرئي ذو حسيه عاليه، كما في مشهد (الغابه من دون دب)، حيث يرقص الشخصيه على ايقاع ذلك الصوت الذى يصدر من الشخصيه الثالثه المتحكمه بالأنسان، أدى د.جبار هذا المشهد بانسيابيه رائعه و جسم مساعد وأحساس عالى، وقد أضافت المشاهد الكروتيسكيه كثير من الروعه و الجمال لفضاء المسرحيه الممتلئ بلفتات و لمسات ابداعيه جعلت من العرض أن تكسر ايقاع و ريتم العروض المشابهه التى تروي ويلات الحرب و المأسي المتمتده لما بعد الحرب، بحيث تسيطر عليها نغمه بكائيه و ايقاع مشجون بالحزن و الألم.
أمتلء العرض بكثير من الدلالات السيمولوجيه أغنت العرض و جعلها في مصاف العروض التعبيريه و الرمزيه، فالهاون الذي يدق و يسيطر على الفضاء مثل صوت رأس المثلث الذى يتحكم بحياة الانسان و يتحكم بمصيره من دون رحمه، والحيوانات التى تستمع للنفرى و تنام على كلمات هدى الدغاري، وتتحول من حيوانات مفترسه الى كائنات أليفه محبه و رقيقة القلب، فالأسد يمد يده للهدنه، والذئب ملمسه ناعم و شهيقه عذب، هذه المقاربه بين الأنسان الذى كتب من أجله الشعر و النثر و القصائد الصوفيه، لكن لايتأثر بها و ويستمر في افتراس من حواليه بدون الرحمة و التفكير، فيبتكر و يبدع الحروب التى تكره الاجازات و تمتلئ بالجثث المشوه التى لايمكن التعرف عليها، على عكس الحيوانات التى تتأثر بالكلام العذب و المنطق الانسانى الذى خرج من الانسان، فيتحول الحيوان المفترس الذى يتغذى على الدم و اللحم، الى كائنات أكثر أنسانيه من الانسان ، تتغلب على أنانيتها و جشعها و تتنازل عن خاصيتها الالهيه المفترسه، لكى تتحول الى كائنات عاشقه تتذوق الجمال والحب، فتلعس خدود امرأة مليئه بالحب الذى لم تحصل عليه بسبب افتراس و وحشية الانسان.
استنجاد المؤلف و المخرج بالشاعر و الكاتب الصوفي العراقي (محمد بن عبدالجبار النفرى)، صاحب المقوله الشهيره ، (كلما توسعت الرؤيه، ضاقت العباره)، كان له مفعول ايجابي كبير على فلسفة العرض، الذى عمل عليه المخرج في هذه المسرحيه بالضبط، فلكى يوازى الرؤيه، أستنجد بكثير من المفردات الحركيه و الحسيه و الصوريه، كالرقص و الطقوس و الحلم و الخيال المحسوس، فأصبح الرؤيه الفنيه متوازيه مع الرؤيه البصريه و الحسيه العاليه المجسده لفضاء العرض.
التمثيل و الأداء أخذت مساحه واسعه من المساحه الأبداعيه للعرض، فالأستاذ جبار خماط أظهر لنا قابليه كبيره في الأداء و التنوع و رسم الأشكال و الفورمات المختلفه لمراحل شخصية ساعي البريد، فكان جسمه متناسقا مع الوضعيات الحركيه و الطقوس الدراميه التى أداها باتقان و ابداع و كان له شخصيه مؤثره و مسيطره على فضاء العرض و تمسك بزموم المبادره و الايقاع المبدع و الهارمونى المتجانس مع فورمة العرض و الفضاء الدرامى لكل مشهد من المشاهد العرض، ساعدته في هذا التألق الممثله المبدعه بأحساسها الرائع و المعبر، التى أمتلأت الخشبه بالحياة و الجمال و الأناقه في الأداء، الروعه و الأنسيابيه في الحركه و الايحاء، المبدعه (اسراء رفعت)، فمثلت ثنائيه متوافقه مع الشخصيه الأخرى و ملئت الفضاء المسرحى بالأحساس العالى و البراءه و الجمال و الأصاله الخاكيه للمرأة التى تتنفس العشق و الحياة، فقد أستهلت و بجداره جائزة أفضل ممثله التى حصلت عليها.