"سأموت في المنفى" عرض يُجسد علاقة الإبداع بالألم والمعاناة/ نور الهدى عبد المنعم
الإبداع ابن شرعي للألم ولولا الألم لما استمعنا إلى أعزب الألحان والكلمات، ورأينا أروع اللوحات الفنية، ولا قرأنا آلاف الروايات التي تربينا عليها واستقينا ثقافتنا الأولى منها، ولا شاهدنا أفلامًا ومسلسلات وعروضًا مسرحية، ولعل أشهر القصص التي تؤكد على علاقة الألم بالإبداع هي قصة اللؤلؤ، فاللؤلؤ حيوان صدفي، يفتح صدفته ليتنفس فيدخل مع الهواء محارات صغيرة تجرحه وتؤلمه، من شدة الألم يبكي اللؤلؤ وينتج عن بكائه دموعًا، هذه الدموع هي حجر اللؤلؤ الذي نتزين به ويعد من أغلى الأحجار الكريمة الذي لولا الألم ما عرفناه.
اللؤلؤ هنا هو الفنان “غنام غنام” الذي صنع منه الألم كاتبًا، مخرجًا، ممثلًا، سينوغرافيًا، إداريًا ناجحًا في أكبر مؤسسة مسرحية في الوطن العربي “الهيئة العربية للمسرح”. حيث شارك -على هامش فعاليات مهرجان القاهرة للمونودراما الذي عُقد مؤخرًا بمسرح الهناجر بالعرض المسرحي “سأموت بالمنفى” تأليفه وإخراجه وتمثيله، الذي تم عرضه في بهو المسرح وسط دائرة من الجمهور الذي لم يسعه المكان فافترش عدد كبير منه الأرض.
أثناء مشاهدة العرض سمعت همسًا حولي: “دي مش مسرحية ده واحد بيتكلم عن نفسه”، العبارة صحيحة وعكسها أيضًا صحيحًا، فهو ليس عرضًا مسرحيًا بالمعنى المتعارف عليه، فلا إضاءة ولا موسيقى ولا خشبة مسرح ولا ديكور سوى كرسي واحد يتم توظيفه في عدة مهام منها: حقيبة، كرسي، قبر،..، ولا ملابس مخصصة للعرض سوى الشال الفلسطيني، فقط ممثل واحد “ألم تقل القاعدة أن المسرح ممثلاً”، إذن هو عرضًا مسرحيًا لا تقليديًا، وهنا أطرح سؤالاً آخر: ألم تصلح السير الذاتية للأعمال المسرحية؟ فمعظم الأعمال الفنية التي قدمت من خلال المسرح أو السينما أو الدراما التليفزيونية سيرًا ذاتية، ثم أنه لم يكن سيرة ذاتية فحسب بل سيرة وطن لم يعد له وجودًا واقعيًا إلا في المقابر، طرح للقضية الفلسطينية من منظور جديد، بعيدًا عما يتردد في الإعلام والأغاني، من خلال سرد ملحمي لسيرة عائلة فلسطينية ومعاناتها التي توارثها الأبناء والأحفاد الذين يعيشون في المنافي والشتات، يرويها أحد ضحاياها، الذي تجرع مراراتها وما زال لدرجة أنه لم يكن سعيدًا بالمكانة التي قد وصل إليها ويتمنى مكانة أخرى ولو أقل شأنًا، لكن على أرضه وفي أحضان وطنه.
حكى غنام حكاية والده صابر غنام الذي تم الإستيلاء على أمواله عقب وفاة والده بحيلة وهو طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، وهو السن نفسه الذي بدأ منه رحلة معاناته مع الحياة، وقد تجاوز كل الصعاب، وأنجب أولادًا ورباهم التربية التي جعلته يفخر بهم، هو نفسه الذي توفى في المنفى نتيجة احتراق قدمه التي التهمتها النيران، لكنه يرى أن ما أماته هو احتراق قلبه أولاً على ابنه المحبوس في قضية سياسية ويتم تعذيبه للإعتراف بجرائم لم يرتكبها، وقد قال له في مكالمة هاتفية -حيث طُلب منه أن ينصحه بالإعتراف- (أنا خلفت رجال) ولم ينطق بكلمة أخرى بعدها وأسلم الروح لبارئها. ولم تنته رسالته بوفاته بل كانت الوفاة سببًا ليعثر الإبن غنام على وطنه المفقود في المقابر فكل شاهد يحمل اسم من بداخل القبر وقريته التي ينتمي إليها بفلسطين، وهي صورة لم تتمكن كاميرات الدنيا ولا أفلامها من تصويرها كما صورته عيون غنام الذي فقد والده بينما حصل على وطنه الذي تم محوه وإنكاره تمامًا، رغم أن وعد بلفور الذي أضاع هذا الوطن أقر وجوده.
غناء الأم الذي أبدلته بعديد بعد استشهاد الأخ الأكبر إلى أن لحقت به، ولم يكن مجرد اجترار لمعاناته السابقة فحسب، بل يتخيل أيضًا ما سيحدث بعد رحيله بداية من القبر الذي سيجمع اسمه باسم وطنه للمرة الأولى معًا في عبارة واحدة كما حدث مع أبيه، لكنه سيفتقد لأمر هام فلم يجد من يلقنه كما لقن هو والده بعد الوفاة والدفن كعادة الفلسطينين، فمعظم أصدقائه إن لم يكن جميعهم شيوعيين لم يعرفوا شيئًا عن هذا الطقس.
كلها آلام وأحزان محفورة داخله، وقد نجح في نقلها إلينا كمتلقين، لكونه فنانًا قديرًا قادرًا على حمل عرضًا مسرحيًا بمفرده وتوصيل رسالته التي لم تكن قضية شخصية، فهي قضية كل فلسطيني، كل عربي، كل إنسان، أوجعنا وأبكانا وأمتعنا بآداء خال من أي افتعال، متواصلاً مع الحضور ومتداخلاً معهم، مستعينًا بالكوميديا أحيانًا فشر البلية ما يضحك، مما جعل زمن العرض يمر سريعًا من دون الشعور به.
العرض يحمل عنوانان” سأموت بالمنفى/ بدل فاقد” فغنام يعتبر أنه عاش كل حياته بدل فاقد لحياة أخرى كان لابد أن يحياها، الجنسية التي يحملها، الوطن الذي ينتمي إليه، مدرسته التي تعلم بها، الجامعة، قصص الحب والزواج، أبناءه الذين أنجبهم، مهنته التي أمتهنا، كلها بدل فاقد لأشياء وحياة مختلفة كان سيحققها ويعيشها في وطنه الضائع.
من خلال هذا العرض أجاب غنام على أسئلة كثيرة طرحتها عليه في حوارين أجريتهما معه، لو أني شاهدت هذا العرض من قبل ربما لم أكن بحاجة لإجرائهما، بل تأكد لي مدى مصداقيته وامتلاكه لوجه واحد فالإنسان هو الفنان.
وأجاب على سؤال لم أطرحه ماذا يعني الشال الفلسطيني الذي يلازمه، فهو يجسد خريطة فلسطين الضائعة والتي يحملها على كتفيه كما يحملها في قلبه.