الفقرة 8 و 9 من الفصل الثالث من كتاب: "البطل المسرحي سؤال المبنى والمعنى في الفن" /تأليف: يوسف رشيد جبر

الفصل الثالث

البطل المجاور

قوة الارادة في بطل مسرح الحرب 1980

في الباب الشمولية والموقف الذاتي للبطل 1986

مائة عام من المحبة* 1994

———————————

 
البطل المجاور
اذا كانت مرحلة السبعينيات قد تميزت بوصفها واحدة من المراحل الخصبة في تاريخ المسرح العراقي حيث النشاط المسرحي بشكل عام في تصاعد، فان للنص المسرحي نصيب في هذا التصاعد والتطور، ويبدو ان (مسرحية السؤال) كانت واحدة من المؤشرات التي يمكن من خلالها تاشير هذا التطور على مستوى النص، ففيها وبعد كلما تقدم من تحليل لشخصية البطل (صفوان) يبرز مؤشر فني مهم ذلك هو فنية النسج على منوال الحكايات الشعبية من حيث توزيع الشخوص والاحداث والبناء الفكري للشخصيات المجاورة للبطل، حيث يظهر لنا (امين بن العطاء) في مجاورة الطبيب (صفوان) على غرار تلك النماذج المجاورة في الحكايات الشعبية ىالقديمة مثل السيرة الهلالية وسيرة عنترة بن شداد وغيرها من معطيات الادب الشعبي فـ(امين) يمثل خطا انسانيا له مساحته الفنية المناسبة، فضلا عن مكونه الفكري الذي يؤهله لتطوير المحور المجاور في البطولة، اذ انه الموازي لتاريخ وتطور شخصية البطل عبر الاحداث حتى ان له فلسفته التي هي لاشك تمتد جذورها في فلسفة وشخصية البطل صفوان، ويصل حد الاعلان عن هذه الفلسفة الفكري احيانا حد التقاطع والخروج على منابعها الصوفية التي استقاها من صفوان الى حد تشعر معه احيانا باستقلالية هذه الشخصية بوصفها خطا انسانيا مجاورا.
فكينونة الانسان في شخصية (امين) تحمل بذرة البطولة في عمق تاريخها حيث رفض امين وهو في العاشرة من عمره ان يرى اباه متسولا او ان يكون مبصقة للصدقات*، فدفع بنفسه الى مشقة العمل المضني حيث عمل حمالا وهو لا يزال بعوده الغض، مرتضيا لنفسه ان يعيش صراع الكينونة من اجل كرامته وكرامة عائلته.
اما على مستوى التكوين الفكري فقد استقلا من فلسفة صفوان واختط لنفسه الموقف الفلسفي الذي اشرنا اليه** حيث ينطلق من قلب صوفية التفكير تعلمه من صفوان الى موقف مغاير في جدل فكري يتم الاستلالية التي اشار اليها الكاتب.
اخيرا فان مسرحية السؤال قد افرزت نوعا من (البطل الثوري) في اطار مغرب زمانيا و (بطل مجاور) يشبه الى حد كبير مثاله في الحكايات والسير الشعبية القديمة.
3-قوة الارادة في بطل مسرح الحرب 1980
اذا كانت قوانين الاشياء وانظمة الحياة قد اكتسبت في زمن السلم شكلا منطقيا فهي في الحرب غير ذلك ففي نسق زمني غير طبيعي تتنامى شخصيات الكاتب (عصام محمد) في مسرحية (مذكرات رجل ميت). فالمسرحية كتكوين فني عام من فصلين كل منهما يشكل بنية وكلاهما من ابداع مذكرات الشخصية المحورية، هذه المذكرات التي كتبها القاص (باسم) وتركها وغادر المكان املا منه بالخلاص فتلقفها (احمد) الشخصية الثانية وراح يقراها على مسامع (حسين) الشخصية الثالثة…حتى نفهم منذ البداية ان المسرحية تعرض لنا عبر مذكرات (باسم) الساعات الحرجة من ضياع الشخصيات الثلاثة في الصحراء من جبهات القتال.
فياخذ البطل في هذه المسرحية شكل الراوي منذ بدايتها، ليعرض لنا من خلال حواره الذي اتسم باللامعقولية وغياب التسلسل المنطقي الذي من شانه ان يؤثر فنيا في منطقة تطور الشخصيات، حتى لكان المذكرات قد بدت في بعض اجزائها شيء يشبه المونودراما مجسدة في اكثر من شخصية، ولعل المؤلف كان قد احسن صنعا حينما ركز على المقترب الفني بين المونودراما والهلوسة حينما جعل القاص يكتب مذكراته وهو يعاني من حمى جسدية وفكرية شديدة وهي حالة برر بها القاص الكتابة بهذه اللامنطقية. مازجا في اسلوب فني معقد بين الواقعية الافتراضية وبين الفنتازيا واضعا المتلقي داخل الازمة منذ الحوار الاول في المسرحية، عليه فان الشخصية البطلة في هذه المرحلة من النص حتما تكون ساخنة ومحتدمة في انفعالها لذلك فقد عمد المؤلف من حيث البناء الفني والفكري الى جعل الشخصيات الثلاثة الرئيسة في المسرحية- شخصيات محورية- وابرز من بينها (باسم) كاتب المذكرت بوصفه شخصية اكثر ارتكازية من خلال السات التي اتكات عليها. فكانت شخصية (العريف حسين) واحدة من الشخصيات الثلاثة لها موقفها الفلسفي من الحرب والحياة والضياع. فكان هذا العريف له تجربته العسكرية الطويلة وخبرته الميدانية في الحرب والتي يجزم انها تساوى تجربة عمر بكامله، علمته الصبر والحكمة في مواجهة الاخطار لذا فهو من حيث بناءه النفسي يدعو الى التمسك بالعقل ونبذ التهور والتسرع في اتخاذ القرار*..
اما (احمد) فهو مضطرب فكريا ونفسيا وهذا الاضطراب غالب عليه بسبب من محدودية وعيه وقلة تجربته في مواجهة المحن وتشبثه المطلق بالمحن وهو رغم ذلك يرى ان من العبث ان يموت الانسان ميتة سهلة بسبب ضياع فرصته عليه الطبيعة بخداعها واذا كان لابد من الموت فليكن في المنازلة مع العدو دفاعا عن الحياة التي يريد العدو اغتيالها.
اما (باسم) فبحكم تكوينه الفني فهو شخصية تطرح اكثر من موقف، البعض منها ايجابي والبعض الاخر سلبي تبعا للضرورات الدرامية التي يفرضها بناء المسرحية، الا ان القيمة الجوهرية في تكوين هذه الشخصية هي فيما يشكل عبر ايجابيته، ان (باسم) واحد ممن يهتمون بكتابة القصة عن موضوعات يومية وحياتية وهم قابعون بعيدا عن الحياة ذاتها وان خبرتهم التي يمتلكونها لا تؤهلهم للصدق فيما يكتبون غير ان القيمة الجوهرية التي تتشكل منها فضيلة (باسم) تكمن في اكتشافه لهذه الحقيقة وتعريتها امام الجمهور حينما تصدمه تجربة المعايشة في الجبهة. وترتبط احلامه وحياته بتفاصيل الحياة هناك. وهنا يكون له تشكل فكري وتكوين فكري متغير تبعا للظروف الجديد الذي املاه عليه الواقع الجديد.
وعليه فان الشخصيات الثلاثة تجمعهم ظروف موضوعية واحدة، وهم رغم تطابقهم في بعض الاحيان مع لسان وعقل المؤلف احيانا، واحيانا اخرى تتبادل المواقع من حيث المكونات الفكرية الا ان هذا لا يمنع من ان تجد كل شخصية تتميز بتفرد واضح في مكوناتها وابعادها الفكرية والنفسية والاجتماعية والطبيعية وهذا التميز هو الذي من شانه ان يذكي جذوة الصراع الى اعمق مدياته الدرامية، ان هذا المثلث من التكوينات الشخصية لم يكن غريبا على الادب المسرحي العراقي او العالمي فالكاتب رغم تاثره بكثير من الاعمال المسرحية العالمية التي عالجت مثل هذا الموضوع والتي نذكر منها مسرحية (في اعالي البحار) لسلافومير ميرجيك. الا ان حرارة الموضوع واجتماعيته العراقية استطاع عصام محمد ان يعبر عنها من خلال توظيف اثر اللغة في التعبير عن شاعرية الشخصية، واذا ما حاولنا ان نطبق مثالا للمقارنة بين البطل والشخصية المجاورة من حيث التكوين وليكن (احمد) فاننا نكون امام تركيبه من التناقض اعتمدها المؤلف وهي جزء من التكوين الفني العام الذي عمد اليه في اشعال الصراع من خلال تعارض الارادات الذاتية، حيث يبلغ (احمد) درجة من اليأس مبلغا تشل عنده كل قدرة له على التفكير واتخاذ القرار بحيث يسلم قيادة تماما لاي قرار يمكن ان يتخذه (حسين)*، في حين يستعين باسم دائما بقدراته العقلية التي تصارع الياس المحيط به بقوة، وهذا الموقف مخالف تماما لاحمد، وهنا تبرز بينهما الفروق الفردية في درجة الانهيار والتماسك النفسي عبر ثنائية التشائم والياس في مقابل التفائل والامل** الذي تتشكل عن ارضية فكرية تحاجج الاشياء بمنطقها الصحيح ويعزز هذا التصارع بالارادات عامل الشجاعة الذي يتفاوت هو الاخر بين الشخوص بحيث يبدو البطل باسم (بطلا ايجابيا) في حين تظهر السلبية والانهيار التام في شخص احمد، كل ذلك في اطار الرجولة المحكومة في زمن الحرب بالثنائية النسبية (ثنائية الخوف والشجاعة) وشتان بين خوف المتردد المنهار وبين خوف المحتسب الذي يجعل من خوفه عاملا يغذى المثابرة في النفس مستعينا بالحكمة ليتشكل في صورة البطل.
واخيرا نجد ان البطولة في هذه المسرحية قد انعقد لوائها فنيا للحالة الانسانية وللتنويعات البشرية في نمط الانسان المقاتل ولشد ما يذكرنا هذا بالنماذج والتنويعات البشرية التي يتعامل معها (تشيخوف). ولعل حسن السبك الفني قد اوضح بشكل جيد الترابط بين الشخصيات عبر بنية واقعية افتراضية، اما بالنسبة للشخصيات الثانوية فقد كان ينبغي ان يكون وجودا محركا اساسيا الا ان المؤلف قد ابقاها في حدود الذاكرة الشخصية لذاكرة باسم وحسين واقصد بالشخصيات الثانوية فاطمة مثلا او سعادة التي لم ترقى حتى ان تكون رمزا في قيمة دلالية بالنسبة لحسين.
في الباب الشمولية والموقف الذاتي للبطل 1986
تقدم مسرحية (الباب) الماخوذة عن حكاية من حكايات (الف ليلة وليلة) قصة (هو) رجل تضطره الاعراف الاجتماعية الى ان يدفن حيا مع زوجته المتوفاة رغما عنه، وفي ساعة التنفيذ يفزع من هول ما سيقع عليه فيتخلى عن العهد الذي قطعه على نفسه في نشوة حب وانتماء حقيقي لهذه العلاقة التي كانت سامية بينه وبين زوجته الا انه اكتشف فيما بعد ان من الاجحاف بحقه ان يدفن مع جثة لم يعد فيها من الحب سوى النتن والعفن. واخيرا يذعن للدفن على امل وحيد ضعيف لابد منه، هو ان يحرره المدعي العام فيما بعد…وهناك يلتقي بشابه (هي) رضيت خلافا له عن طواعية الدفن مع زوجها الراحل مستسلمة لموتها من اجل ذلك العهد، الا انه يعمل على استعادتها من حالة الاستسلام هذه الى حالة التشبث بالحياة معززا فيها الاحساس بلا منطقية موت كهذا.
المسرحية بشكل عام تقترب في ملامحها الاتجاهية من المسرحية التعبيرية فهي على المستوى الفكرية تسعى الى تقديم نموذج شمولي تداخله ازمة شخصية ذاتية، ويبرز ذلك حتى في انتقاء اسماء شخصياتها (هو-هي) وكذلك في بنائها المشهدي حيث يبدو المشهد الاول واقعيا ثم تتحول فيما بعد كل البناءات الى ميدان خصب للدلالات والرموز حول محور فكري واحد هو المحور الاساس لتكوين شخصية البطل (هو).
حيث يبدا الموقف الفكري للبطل (هو) بالتنامي منذ اصراره الاول على ان لا يدفن حيا، فتتضح قدرته على المحاججة وانتمائه الى الحياة، فهو يرفض لانه يجد في موت كهذا مجانية تجعل من موته بلا قضية، وبالتالي فان هذا الموت سوف يسقط عنه شرط البطولة، لذا فان الرفض بحد ذاته هو قضية البطولة بالنسبة له.
وهكذا تتطور فاعلية البطولة لتتمظهر بالتردي في الخطا الذي توضع فيه الشخصية ولكي تاخذ البنية الدرامية شكلها الموضوعي كان لابد لهذا البطل ان يقبل الدفن بشروط يضعها هو، بغض النظر عن التزام الطرف الاخر بهذه الشروط واحترامها ام لا واعني بذلك الاتفاق مع المدعي العام.
وعلى الرغم من ذلك فان بطولة (هو) تظل احادية الجانب، اذ لم نكن مغالين في تقديرنا لها الى الحد الذي نضعها فيه بمصاف الابطال السلبيون قياسا بابطال جيل الثمانينيات وما اتسموا به من سلبية في تعاملهم مع الواقع وما تنطوي عليه هذه ىالسلبية من تراكم فكري.
فهو بطل مستلب الارادة ضعيف الى حد برزت معه براعة (الصائغ) في صياغة مكونات الضعف فيه، وهو خاضع بكل مكوناته للارادة القدرية الارضية المفروضة عليه، وبرغم قدر الرفض الذي اوجده الكاتب في بطله الا انه لم يجرده من خضوعه للشرط التراجيدي الذي وضع فيه (ان يقبل الدفن حياغ في حالة وفاة زوجته).
وعليه فان البناء التطوري للاحداث كان بناءا يسير على الضد من نزعة البطل وهذا مشروع يصل حد الشرطية في الدراما، الا ان هذه المقابلة بين سير الحدث ونزعة البطل الشخصية سرعان ما اخذت شكلا مغايرا تماما، حينما تنزل المراة (هي) الى القبر لتبدد عليه وحشته واحساسه بالنكوص والخذلان، في مغايرة للشرط التراجيدي المالوف أي جريان الاحداث على العكس من نزعة البطل.
وهنا تبدو قوة رسم مكونات الشخصية مستمدة من البناء المحكم لمسارات الحدث ومن موقفها الفكري، فضلا عما خلعه الكاتب عليها من شاعرية الحوار بوصفه مكونا فنيا والقدرة على التعبير عن الحيثيات الشخصية للبطل.
ففي بنية حدثية افقية استطاع (الصائغ) ان يظهر تطور شخصيته (هو) رغم ان هذا التطور قد يبدو روائيا مسهبا اكثر منه مسرحيا بليغا، حيث تتطور الاحداث ببطيء واضح، وان البطل من هذا النوع لا يبدو من النشاط كالابطال في المسرحيات الاخرى واخص بالذكر المسرحيات ذات البناء التصاعدي.
هذا من الناحية الفنية، اما على مستوى التكوين الفكري فان البطل (هو) ينطوي على قضية وموقف فكري مرمز بالحكاية، فهو برغم الخلط في محاولة ابراز ما هو شمولي بالموقف من الحب والحياة والموت والانتماء وبرغم هذا الرواح الى عمق الحكاية التراثية واستثمار معطياتها لتاطير المكون الفكري الا انه اغنى وبشكل واضح قضية عصرية تتعلق بموقف الانسان في قضيته “وان من حق الانسان التخلي عن موقف اختاره في لحظة ضعف شبيهة بسكرة او غياب وعي، ومن حقه التخلي عن انتماء ما اذا ما وجد القضية قد ماتت الى الابد وله بعد ذلك ان يعيش حياته بمحبة وسلام دون ان يشعر بالحرج اذا نظر في عيوب الاخرين وراى فيها تلك النظر التي اعتادوا ان ينظروا بها للخائرين وناكثي العهد”([1]) فالبطل يتحدث عن تجربة غير مجدية في حياته، تلك التجربة هي مشوار طويل من تاريخه..تجربة اكتشف فيما بعد لا جدواها..تلك التجربة التي لا تلد شيئا يجعل منها خالدة، ما هي الا ساعات مهدورة لا تعطي لايامها أي معنى، ويبدو ذلك في الحوار الذي يسوقه على لسان البطل.
“هو: في كل ساعات الحب المهدورة تلك كنت انتبه الى انني..الى اننا نرتكب جريمة، وكنت اتمنى ان اصيح، هو ذا ولد انحدر من صلبي يجف ويموت”([2]).
(ويسالها اتفهمينني)؟ فتقول له اجل لانه يتحدث عن تجربة عاشتها (هي) ايضا.
ويسترسل البطل في ادانة مكون الماضي في حياته عبر تشريح مغرق بالرمز للتاريخ الشخصي وعقم ذلك التاريخ بقوله:
“لو كنت امراة..لو كنت استطيع ان الد، كما تلد المراة..لله لو كان لي ذاك فانا احسب انه ما من اغراء في هذا الكون، يجعلني اتنازل عن مجد كهذا…مجد ان الد”([3]).
انها مسرات ينفثها بطل عقيم الاختيار، ادان ماضيه بالعقم ليبرز ضعف ارادته..لكنه بطل يلجا الى الشمولية في تقريع الخطا الذاتي، متخذا من شمولية الموقف من الحياة والموت والحب والانتماء ستارا للتعري الفريد من نوعه في محاولة من البطلين (هو) و(هي) للاستدراك حيث جربا معا، الموت من اجل الحب فهل بمقدورهما الا ان يجربا الحياة من اجل الحب وصولا الى الدقة في اختيار مواطن الخصب والنماء الحقيقي.
 
4-مائة عام من المحبة* 1994
(البطل لكل) والانسحاق
اكتسبت المسرحية العراقية الحديثة في فترة التسعينيات شكلا بنائيا مميزا على يد يوسف الصائغ وفلاح شاكر وعدد من الكتاب الشباب، ولعل هذا التميز انما هو اختمار لحالة وعي المرحلة أي بعد حرب الثمانينيات وحرب التسعينيات وبلورت افكار جديدة لمعالجة هذا الوضع.
فكانت مسرحية (فلاح شاكر) (مائة عام من المحبة) واحدة من هذه النماذج المميزة، حيث تتلخص حكايتها بعودة الاسير (فيصل) من اسرة الذي دام عشر سنوات ليجد ان زوجته قد تزوجت من رجل غيره بعد ان فقدت الامل من عودته.
يعود (فيصل) من اسرة ليجد في الوطن زوجا بديلا له وابا بديلا لطفليه، يعود لزوجته بعد ان غادرها ولم يترك سوى طفلين وذكريات في صدر زوجته الذي صار تركيبية من الياس وتاريخا طويلا من الحزن.
تشكل عودة (الاسير) هنا صعقة اجتماعية كبيرة تضع الاعراف والقوانين الانسانية في موقف حرج امراة لرجلين وكلاهما تحبه كل الحب، ويبدا الصراع حول من هو الاحق بها وهل ان غياب احدهما سيتيح لها حرية الاختيار او حرية الحياة مع الاخر؟ من سيكون احدهما؟ ومن سيكون الاخر؟
كلاهما زوج، وكلاهما شرعي، وهي وفيه لكليهما ولا تريد ان تضحي باحدهما…تنتهي الى اللاخيار سوى الخروج على تقاليد الشريعة.
المسرحية كشخوص تفرز ثلاث محاور لكل منها محنته –فيصل الاسير- تاريخ طويل من الذكريات المريرة ووجع الذل والاسر يقابله حلم بالعودة يرمم فيه ما تهدم من انسانيته في الاسر.
ان قراءة الشخصيات الثلاثة تجعلنا امام تصور عن التكوين الفكري المتعادل لقيم الحق والخير والعدالة المتوازنة في الشخصيات رغم تباين ظروفهم وهذه السمة من شانها ان تفضي الى مؤشر اولي فني يجعل من الشخصيات الثلاثة (صوت واحد) متعدد الاحساسات والهواجس، صوت تاملي تتفجر عن تامكلاته مستحيلات يحاول النزول بها الى ارض الواقع بصور تتراوج بين الانسابية وبين القسر.
فاذا كان ما يتوافر عليه (فيصل) من مواصفات تؤهله ليبدو بمظهر البطل فان الزوجة وزوجها يظهرون بمظهر (البطل المجاور)، لابل تجدهم في بعض مواقع الحدث ابطالا لما ينطون عليه من قيم نبيلة ودورهم كمحور للاحداث يؤهلهم لدور البطولة.
وعليه فان نموذج البطل في هذه المسرحية هو ليس البطل الفرد (فيصل) في مساحة تواجده الفني والفكري في النص وانما كل شخصية من الشخصيات الثلاثة هو بطل وله مكوناته التي تؤهله لذلك.
فالبطل (الكل) هنا يوضع في خطا تراجيدي ليست له يد في تغييره انه ارادة الحرب التي رغم انها لم تكن قدرية وانما صارت قدرهم الذي قادهم الى ما هم عليه.
فحتى الصراع بوصفغه بنية فنية لا يقوم على التضاد وانما على التالف وهو ليس صراع تناحر وانما صراع محبة، فالزوج يحب فيصل (الاسير) ويكرم ذكراه في غيبته ولا يدخر وسعا في ان يحب بعد عودته والزوجة محبة لكل منهم.
فالشخصيات والحالة هذه محورية كليا رغم ان المؤلف قد عمد الى خلق حضور مستمر للبطل (الاسير) من بداية العرض وحتى نهايته. ان هذا الحضور المستمر انما هو استمرار للمشكلة، فكان هناك توازي متوازن بين تطور بناء شخصية البطل وبين تيار الفعل المتصاعد المتنامي في بنية متداخلة من تطور الفعل ووحدة الصراع كذلك فان (فلاح شاكر) قد سعى الى اثارة انحياز متوازن لدى المتلقي ازاء الشخصيتين معا (الاسير+الزوج) على الرغم من اختلاف تكوينهما النفسي، فالاسير، انطوائي لاستقر بحكم ما مر به من تاريخ قاسي من العذابات والامتهان والزوج انبساطي واحيان كثيرة تلقائية حد التعبير عن الواقعية.
ولعل هذا الانحياز الذي تثيره الشخصيتين انما هو بسبب قوة الدوافع التي منحها الكاتب لابطاله وقوة الحجة التي يبرر من خلالها سلوكه الانساني العام والنفسي بشكل خاص.
الا ان هذا الوضع لا يمنع من ان تبدو الشخصيات بسيطة وشفيفة، شفافية كاتبها وفي الوقت نفسه تحمل الينا تاملاته العقلية وتاثيراته الفلسفية وما يعتلج في روحه من احتدام صراعات روحية وفكرية تصل به حد الضجر والقرف احيان فابطاله هنا انطلقوا من سوداوية وشحة الامل الانحصار الى مستوى الممكن المقيد من الحياة…وان ضراوة القيود التي تحيط بهم تجعل من حياة كل منهم ممكنة ومستحيلة في ان معاً. اسير من الممكن له ان يعود الى زوجته واطفاله الشرعيين، ورجل من حقه ان يهنى بزوجته التي اختارها واحبها واحبته واحتضن حتى ذكرياتها باعتزاز، وزوجة كانت وفية طيلة حياتها وليس ذنبها ان يقسم التاريخ والقدر حياة وفائها على مرحلتين وفي رجلين لذا فان انسحاب أي منهم مستحيل وانتحار أي منهم وكذلك فان سحق أي اثنين منهم للثالث مستحيل.
فالبطل (فيصل) الاسير يتحرك على ارضية تاريخية عاطفية في حياة زوجته وهذه الارضية هي التي شكلت البنى التكوينية الاساس في عواطفها التي نضجت في مساحة (الحالية) التي وجدها عليها بعد عودته من الاسر لتكون مرتع خصب وعطاء لزوجها الثاني الذي لا يقل حبا ووفاء، فالزوج بين ماض لم يشيء ان يستقر في موقعه التاريخي كماضي وبين حاضر لا يقل شانا عن ذلك الماضي في عمقه الانساني، وهي بين التقاء ذاك الماضي وهذا الحاضر ورغم كل شيء لم تجعل من نفسها صورة لنمط التردد في الاختيار رغم انها صاحبة القرار في بعض من المشروعية. انها تحسم ترددها منطلقة من تكوينها المتعادل في الحب، تحسم ترددها من عقل وقلب كل واحد وله قرار واحد..في الحب والاختيار الذي يتناسب ومساحة هذا الحب.
واذا كانت المسرحية في مضمونها الانساني تفضي الى شكل من اشكال الصراع بين الحب عندما يكون اختيارا وبين الشرائع بوصفها نظاما مهما يكن نوعه، فانها تعبر عن صراع بين عناصر الحياة فيما بينها ولكل من هذه العناصر خصائصه التي تؤهله لهذا الصراع، فالحب يمتلك قوة الواقع بكل ما فيه من حياة ومن صدق وانسانية تشكل الانسان بكليته، والشرائع تمثل العقل المنطقي المطلق الذي يحكم الحياة بقوانينه الصارمة رغم ان ارضية الصراع لا تقوم على خرق لهذه القوانين.
كذلك كانت فلسفة الكاتب (فلاح شاكر) في ان الحرب وحدها هي القادرة على خلق مثل هذا الانسحاق الانساني، والحرب وحدها هي التي بمقدورها ان تقدم تناقضا تاريخيا كهذا ونموذج البطل هنا هو عندما يكون البطل ضحية، فهل للارادة ان تفعل فعلها في تعيين الموقف الصحيح.
ففي هذه المسرحية تجتمع للبطل مكونات يختلط فيها البطل التراجيدي بالبطل في الدراما الحديثة. البطل هنا صاحب قضية انسانية هي التي تجعل منه بطلا، وهو لسبب خارج عن ارادته قد وضع في الحالة التي تجده عليها، صحيح ان الحرب هي من صنع الانسان، الا انها بالنسبة للابطال هنا صارت قدرهم الذي شكل الخطيئة الاولى التي جعلتهم يتردون في متوالية الاخطاء في ما بعد نحو المصير الذي لابد منه.
وعلى الرغم من ان البطل لا يصل الى نهاية البطل التراجيدي الماساوية الا انه يصل الى خرق للتقاليد يضاهي في قوته الموت من اجل القضية.
ومن حيث البناء الفني فان خروجا واضحا على الصيغ التقليدية في تطور شخصية البطل من حيث النهايات وترتيبها على المقدمات، ومن حيث التحول في حياة البطل وحتى في مستويات الصراع فلا نجد تحولا بالمعنى الذي يؤدي الى الاكتشاف في المرحلة الاخيرة من مراحل النص، انما يقوم النص على وضعية اساسية مكتشفة هي واقع علاقات الشخصيات فيما بينها، فالاكتشاف والتحول هنا يتضائلان امام جسامة الحدث الواقع وقوة التعقيد في الوضعية الاساسية بحيث تطفو على السطح القوة والدقة في رسم شخصية البطل في المسرحية من خلال البناء المحكم لحوار الشخصية وتكاملها فكريا في التعبير عما تريد. والارتقاء بمستويات الصراع الذي اشتمل على غرائبية في تركيبه وحيث يبدو الوفاق بين عناصره في تكرارات تناظرية واضحة، هذه التركيبة انما كان قد عمد (الكاتب) اليها لابراز اثار الانسحاق بالحرب وتجسيد فكرة الانسان في مقابل الدراما بكل اشكاله النفسية والحضارية وكل الاعتبارات القيمية الاجتماعية ليفرز بالتالي بطلا من نوع جديد هو خليط من البطل التراجيدي والبطل الحديث على المستوى الفني وهو (الانسان الكل) بوصفه ضحية الحرب الدائمة بكل اشياءه وانسانيته من الناحية الفكرية.
 
 
 
*  فلاح شاكر، مائة عام من المحبة، مسرحية غير مطبوعة، كتبها في الفترة من شباط 1993، وانتهى منها في 6/7/1994.
*  للمزيد: نص المسرحية، ص 100.
**  ينظر: المصدر نفسه، ص 62.
*  عصام محمد- مذكرات رجل ميت، دار الشؤون الثقافية 1988، ص 12-14.
* انظر: ص 45.
**  انظر: ص 41.
([1])  علي مزاحم عباس، من فتح (الباب) ومن سده؟، (بغداد، جريدة الثورة الصادرة بتاريخ 15/4/1986)، ص5.
([2])  يوسف الصائغ، مسرحية الباب، بغداد: منشورات مطبعة الاديب، 1986، ص 58.
([3])  المصدر نفسه، ص 57.
*  فلاح شاكر، مائة عام من المحبة، مسرحية غير مطبوعة، كتبها في الفترة من شباط 1993، وانتهى منها في 6/7/1994.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت