عرض "خريف" الجسد والمرض تجانسٌ راقص لمواجهة الموت/ عزيز ريان (شفشاون ـ المغرب)

بمدينة شفشاون”خريف”  برؤى إخراجي أخرى فرضتها ظروف فنية وتقنية جديدة

 
حلت مؤخرا فرقة أنفاس بقاعة دار الشباب بمدينة شفشاون الواقعة بشمال المغرب،لتقديم عرضها المسرحي الموسوم ب: خريف. القاعة الفضاء الوحيد التي يمكن العرض بها بالمدينة.
“خريف” عرض الذي عرف نجاحات جماهيرية وفنية بشكل ملحوظ وحاز على العديد من الجوائز في كثير من المهرجانات بالمغرب وخارجه.
يبدأ العرض ببطلة العرض وهي تقاوم ورقة تحدد مستقبلها..مصيرها..حياتها. ورقة تظهر إصابتها بالورم القاتل: سرطان الثدي. طاعون العصر الذي خلف(ويخلف) الكثير من الضحايا من كل الطبقات الاجتماعية. هي مرحلة أولى للإعلان وإخبار المريضة الصعبة.
تبدأ رحلة مرض البطلة وهي تظهر لنا كيف غير هذا الورم المميت كل حياتها واستطاع أن يحيلها لكائن حي بدون حياة ولا روح قبل أن توارى التراب.
رحلة حياة..موت بطيء تنتهي بتخلي الزوج وشريك الحياة وهروبه من قرف المرض دون مراعاة لحرقة المريضة وألمها في قدرتها على الكلام البوح الشكوى لحبيب رحل في بداية أزمتها.. في عز احتياجها له وللسند.
رحلة موت.. السرطان الطاعون الذي يطيح بأرواح كثيرة بالمدينة ومنذ فترة  والكثيرون يتهم الغازات والقنابل المحظورة للإستعمار الإسباني إبان فترة ما قبل الإستقلال.
“خريف” شكل بداية لعروض مسرحية مغربية مغايرة تعتمد على تفكيك بنية النص الأدبي حتى وان لم يكن نصا مسرحيا بل بمسرحته الكاملة بأساليب متنوعة تحتكم للمتعة والتنوع البصري والسمعي. خريف هو تأريخ ذكي لمرض خطير يصيب المرأة ويؤثر في كل شي عندها. النص عبارة عن خواطر لأخت المخرجة التي صرعها المرض بالضربة القاتلة مخلفة شذرات أدبية أو بوحية لجأت لها المريضة لمحاربة الموت أو لمحادثته. فقامت المخرجة بذكاء مسرحي بتقديم الشخصية المحورية رفقة ضميرها أو مرآتها التي لم تنطق بكلمة وهي أصلا راقصة.
إذن لعبت المخرجة على ثنائيات ذكية بدون أن تستعرض الموضوع بمباشرة مملة،وإن لامست مشاعر الحضور لمن فقد قريبا بنفس المرض. إذن المتلقي طرف أساس باللعبة الركحية التي اعتمدتها المخرجة،بطرق فنية مختلفة وبسيطة حد الألم.
الجسد : شاعرية الضياع أو كيف تحارب الموت الرمزي
خريف يمكن اعتباره عرضا شعريا من نوع خاص،حيث وظف الجسد بشكل شاعري وقدم مقاطع شعرية ومسرحية بشكل متقن. الجسد في حضوره واستعداده للغياب،والعيش بين البدء في التعرف على المرض الذي يعتبر عدوا للجسد. وبين بدء الأعراض والتحولات الفيزيولوجية التي ترافق عادة هذا المرض: تساقط الشعر،قطع رمز الأنوثة الثدي،القيء.. وبين النهاية،نهاية جسد بكل ما يحمل من حيوات ومن شعرية الحياة.
لم يوفق الخطاب العربي في تناول موضوع الجسد وكل ما يتصل به، ولم يصل هذا الخطاب بعد لمرحلة التشخيص التي تتطلب الجرأة والشجاعة في طرح هذا الموضوع الحساس , فما زالت وسائل الإعلام العربية والأعمال الفنية تتطرق لهذا الجانب بشيء من الخجل و التحفظ ان لم تكن غير إشارات عابرة تتوقف عند حدود الرقابة المنيعة . الجسد هنا هو الوسيلة الحقيقية للتواصل بين البشر وانطلاقا من هذا التوصيف كان لزاماً علينا ان لا ندرج الأخير في خانة العورة والتحقير كما لا يزال يتصور الكثير اليوم.
إذن الجسد في حقيقته يرتكز على مفهوم علمي شامل يتوجب الوقوف على جميع أركانه بل الكثير من الأدباء والنقاد يعتبرونه لغة قائمة بذاتها . أما الجانب الجنسي الذي هو محور حديثنا والذي يعتبر الأساس للجسد ان لم يكونا شيئاً واحداً لا يختلفان غير في التسمية فلو سألت الطالب العربي اليوم عن خارطة الوطن العربي سيعرفها وهو مغمض العينين , ولكن ان سألته عن خارطة جسده فسيظل يراوح في السؤال دون إجابة !, وهو معذور في ذلك خاصة و ان الجسد لم يدرج الى اليوم كمنهج علمي في المناهج التربوية ولا حتى في الجامعات التي يعتبر طلابها اجتازوا مرحلة البلوغ ولهذا نرى تغييب الجسد بهذا الشكل انعكس على الواقع العربي وعلى الأخص على العلاقة الزوجية التي هي لب المشكلة في مجتمعاتنا وخير مثال على ذلك جهل الرجل العربي بالخارطة الجنسية لزوجته ونفس الأمر ينطبق على الزوجة التي تجهل هي الأخرى الخارطة الجنسية لزوجها, بل وصل الأمر الى حد طلب الزوج من زوجته الامتثال لأوضاع غريبة أثناء الممارسة الجنسية لا لشيء غير إشباع رغبة خيالية مكبوتة دون مراعاة للظرف والمزاج النفسي للمرأة التي يجب عليها الامتثال وان كانت على ظهر بعير كما يقول الدكتور خالد منتصر .!
ومع ذكر هذه الأسباب نستطيع ان نقول بأن الجسد في مجتمعاتنا لا يزال يعتبر منطقة محرمة ممنوع الاقتراب منها في وقت يقطع فيه العالم المتقدم أشواطاً كبيرة في موضوع الجسد والثقافة الجنسية سواء اقتصر ذلك على المدارس والجامعات ومراكز الدراسات والبحوث في الدول الغربية بخلاف مجتمعاتنا التي حذفت علم “السيكسولوجي” من المناهج لا لشيء غير إرضاء للمؤسسة الدينية التي تحتل النصيب الأكبر من كل هذا القصور ولهذا صار هذا العلم الواسع مجرد مصانع لإنجاب الأطفال ومجرد كلام في الإباحية في مجتمعاتنا التي ستظل أسيرة هذه التصورات ما لم تزيل عن جسدها الشوائب التاريخية وتتجه نحو بوصلة الرقي واحترام الإنسان واحترام هذا العلم الذي يجب ان ننطلق منه في تقييم جوانب الحياة لأننا ببساطة لولا هذا الجسد لما أبصرنا النور في هذا الكون الفسيح الذي هبطنا إليه عن ضرورة وليس عن خطيئة !
الجسد إذن حسب العرض عبارة عن موسم كامل يضم فصوله الأربعة: شتاء،خريف،ربيع وصيف. الجسد إذن في مقابلة الطبيعة التي افتقدناها في حياتنا المليئة بالمزيف والغير الطبيعي.
السرطان عدو كبير للجسد يصيبه بخريف يقضي عليه وعلى أوراقه الخضراء. السرطان مرض قدمته أسماء بذكاء وبحرقة خلفتها فقدان الأخت العزيزة. الجسد في رقصه الشكلي خلال المرض والاستعداد للفناء يخوض الكثير من المراحل الإستيتكية المؤلمة أحيانا والمريحة قليلا..
الرقص المحور الذي طغى وشكل متون النص المرئي،الذي شرح لنا ببساطة ماذا خلفه المرض على جسد انقسم لجزأين: جزء مريض عليل،وجزء يحاول الحياة ،لينمو صراعا خفيا بينهما طوال العرض..المرض. الذي كان بطلا كذلك في شكل رمزين أساسين: الشعر الحليق للراقصة والعصابة التي وضعت في صدرها كعلامة على فقدان الثدي المصاب بالورم.
الرقص وهو التعبير الجسدي الذي اعتمد على التنوع الأدائي بحسب الحوار الذي تعمدت المخرجة التقليل منه وترك مساحات للصمت،للرقص،الانهمار الفني للتعبير على الكثير،على كل حيثيات الفاجعة التي لم تكن المريضة مستعدة لها ولا تم تهيئها لها قبلا. وهي ترى البعض يبتعد عنها ليتركها في خضم المعاناة وحيدة.
تخصصت النساء فى فن الرقص غالبا بالعالم العربي.. ونحن نجد العديد من الفتيات والنساء يتقن هذا الفن  ودون تعليم أو تدريب. ولعل ارتباط هذا (الرقص) بالجسد، وتركيز الفتاة على جسدها فى مجتمع مازال ينظر إلى غالبية النساء على أنهن (مجرد جسد)، إضافة إلى استغلال جسد النساء، و(الموديل) فى الكثير من (الإعلانات) خير نموذج على (تركيز الاهتمام بالجسد)، ويلعب الجسد الدور الرئيسى فى الرقص في عرض خريف حيث تعبر الراقصة عن كل ما تريد أن تبوح به البطلة من خلال جسدها.. إنها تصمت تماماً.. وتترك الجسد بكل تفاصيله يعبر ويبوح ويقرأ ويكتب ويذكر كل ما يمكن أن يقال أو لا يقال.
إن الجسد يمثل علامة فارقة ومهمة فى حياة كل أنثى.. لذا لا عجب أن نجد كل أنثى، بالفطرة، قادرة على الرقص.. وقد تتخذ الرقص حرفة (إن وجدت التشجيع والتأوهات- الإعجاب من الآخرين).. إضافة إلى نمط شخصيتها النرجسية.. حيث الحب الطاغي، والذى يكون بلا حدود لجسدها ولكافة معالمه وتفاصيله.وخصوصا لقيمة ورمزية الثدي كرمز للعطاء والإطعام للمواليد ورمزيته الشبقية لدى الرجل.
 

 
الدراماتورجية:مسرحة الموت
شكل الاعداد أو إعادة الكتابة بطلا خفيا (يضاف لكل الكم الهائل من أبطاله)لامس الكثير من تكثيف للغة والاعتماد على نقل حرفي لأهم مقاطع الخواطر الأصلية التي تهم جوانب الأحاسيس والضياع والألم.
الأكيد لو تم نقل النص حرفيا فوق الخشبة فسوف يسقط في الكثير من الزلات الدرامية والمباشرة التي تدخله في تيمة التحسيس التي ينفر منها المتلقي غالبا. لكن اللعب على الرقص والإكسسوارات المركزة التي أكملت ما بدأه الرقص اللغة الأخرى الجديدة التي طفت على سطح المشهد البصري ناطقة بكل ما يمكنه أن يقوله الجسد الحاضر بقوة عبر راقصة محترفة رفقة ممثلة محترفة نجحت في نقل الصورة ولعب دور يحتاج للكثير من ضبط لآليات التشخيص ولأبعاده الكاملة.
 

 
الرؤية الإخراجية: قاعة فرضت رؤية جديدة ومقلصة…
يمكن أن نقم خريف إلى نوعين: نوع عرض بقاعة دار الشباب بشفشاون وعروض أخرى بمدن وقاعات أخرى وأسميه العرض الرسمي،حيث فرضت القاعة بشفشاون على العمل التقليص في الكثير من القطع والاكسسوارات وخصوصا في ظل غياب ممثلتين.
الملابس وحدت في لون برتقالي لكل الممثلات في شكل لباس أنثوي يميل لابراز الأنوثة برغم تعرض الجسد لخطر المرض..خطر الموت.
الإنارة بعرض شفشاون اضطرت للعب على بعض التفاصيل القليلة الحاضرة فوق الركح ولم تنجح في الكشف على كل التفاعلات والأبعاد والصراعات الداخلية والخارجية لكل مسار العرض. وهذا نظرا لصعوبة وضعها كما بالقاعات المتخصصة الأخرى.
أما الموسيقى فلم يصبها أي (تقليص) واعتمدت على العزف الثنائي المباشر على آلة العود التي تشير للحزن وللمعاناة الداخلية لشخصية العرض التي تشبه عودا بأوتار يعزف الموت،السرطان،الحياة على أوتاره بتنوع رهيب ومميت. الموسيقى لامست كل هزائم البطلة،وتوترها بالتنويع في الأوتار الصغيرة والغليظة.
الديكور وجد صعوبات في شكل الركح وما يمكن أن يٌضاف عليه بسبب الإسمنت الصلب الذي يمنع الكثير من الإضافات. فاكتفت المخرجة بخزانة ملابس وظفت بشكليها الفعلي والرمزي الذي يحيل للكثير ويعطي الكثير من الاحتمالات والتفسيرات،مع قطع قماش ممزقة كأنها تعكس التمزق الذي أصاب البطلة. فقاعة دار الشباب لا تصلح للعروض المسرحية ولازال مهتمي المدينة يصرخون للحصول على قاعة مسرح متخصصة تليق بتاريخها ومسرحها.
لكن برغم هذا ونظرا لقيمة الموضوع وذكاء التناول لم يؤثرا على العرض وتمكن من إيصال رسالته الكبرى في تقبل واحتواء المصاب نفسيا.
أخيرا قدمت أسماء عملا جديدا تجريبيا مفعم بالإنسانية والامتنان لروح أخت التهمتها مخالب الورم. اعتراف وتأريخ لمصاب لعين سيظل في أرشيف التلفزيون المغربي الذي اشترى حقوق بثها وتسجيلها عند تحقيق المسرحية النجاحات وطنيا وعربيا.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت