قراءة نقدية لمسرحية "الساحل والمصباح" / د. ايمان الكبيسي
المسرح ديالكتيك هدفه تحريك الساكن، وحركة تثوير وتنوير ازاء كينونة الواقع والانسان، ولمسرح الطفل خصوصية متفردة.
لذا يعُول على مسرح الطفل تقديم تجارب، تكشف بؤرًا أو مساحات جديدة، وتسلط الضوء عليها بطريقة مغايرة، لا سيما حين تتسيد الحركة على النص المنطوق، اذ يكون لتقنيات الصوت إشاراتٌ أو علامات تعكس هواجس الشخصيات، وكذلك المنظر والاضاءة، وهذا ما سعت اليه فرقة محمود ابو العباس في مسرحية (الساحل والمصباح) تأليف واخراج (محمود ابو العباس)عبر تكوين نسقي علاماتي تمكن المخرج عبره من التعبير عن المضمون الفكري للعرض، فعالج عبر العلامة قضية الصراع بين ثنائيات الخير والشر الجمال والقبح، وبين الصدق والكذب في جو محبب للطفل تمكن عبره من مخاطبة ذهن المتلقي وإيصال المعرفة التي عمد المخرج إلى إيصالها عبر محاكاة مكانية المنظر المسرحي.
جسد العمل سبع شخصيات مسرحية تناوبت على إبراز الفكرة الأساسية للعرض المسرحي (الساحل والمصباح) في تباين فلسفي ومرجعي فبعض منها ظهر في شخصيات حيوانية وأخرى فنتازية لاشياء غير عاقلة، وهذا التنويع اتى في صالح العمل لتأكيد المعرفة بصحبة المتعة، تمكن المخرج من تجسيد هذه الشخصيات عبر استعارة أشكال وصور تصارعت في ذهنه بمخيال ميتافيزيقي لحظة الومضة والتي أدخلها ضمن نسق التوظيف العلاماتي، فتمثلت شخصيات(الساحل، كيس النفايات، بقايا الطعام، علبة القناني، المصباح، والعفريت، النورس ) باستعارات أيقونية تبعاً لطبيعة كل شخصية بفنتازية تحددت فيها كل معالم الشخصيات، فقد لجأ مصمم زي الانزياح إلى الواقع في إنتاج صور غير واقعية مصاغة وفقاً لمجالات الخيال عبر تحليل وتركيب للمدركات الحسية والمخزون الذهني بتوظيف رموز محاكية للواقع تدفع بالتأويل وفقاً للمتداول.
نقل مصمم الأزياء المعارف الذهنية المرتبطة بكل شخصية من الشخصيات عبر استعارات فنتازية من عالمها المجرد إلى المحسوس الذي يعتمد على تدليل الظواهر المجردة ضمن عوالم محسوسة بصور إشارية، تمثلت في تصميم زي كل شخصية فقد وظف الزي بشكل فاعل ومشوق وبدلالات مهمة تحيل الى ما مخزون ذهنيا عن شخصيات المجرمين والقراصنة كونهم يعبثون بالبيئة، كذلك الاسلوب الفنتازي في وضع المكياج الذي يحيل إلى صور إشارية في شكل وتصميم المكياج. واخرى رمزية في استعمال اللون في مكياج الشخصيات. في حين تمثل دور الاضاءة في الإيهام بالواقع وإضفاء الجو العام فقد اجاد المصمم في توظيفها بأنماط متنوعة ضمن نسق دلالي يتمظهر في موضعية الاضاءة وانتقاليتها.
اما عن الحوار المسرحي الذي اتخذ من تراكمات الخبرات المعرفية لكاتبه صورا لإنتاج نُظم فاعلة ضمن أنساق علاماتية معرفية تعمل متضافرة مع الإيماءة والحركة وباقي العلامات المسرحية لنقل المعرفة من إطارها الذهني إلى الواقع المحسوس، بعد ان استعار مخرج العمل تركيب أنساق الحوار الرمزية ليخلق صوراً بلاغية جديدة تستند إلى تصور ذهني يوفر للمدلولات العلامية تعددية لتقريب المعرفة لذهن المتلقي الذي يسعى إلى تلقي العمل، لكننا فقدنا هذا التلقي عبر ادغام بعض الحوارات او تجاوز بعض المؤثرات الصوتية على الحوار وتشتيت الانتباه حوله، ما احدث قطعا في التلقي لدى الطفل، فالتلقي والايقاع في عروض مسرح الطفل معيارها الطفل ومدى اندماجه وتفاعله، في الوقت الذي برز فيه التوظيف التربوي والتعليمي خلال بعض الحوارات منها (الحق على السمكة التي تقابل الاحسان بالاساءة) فضلا عن توظيف بعض الكلمات الانكليزية للتعليم.
نجح العمل في كسر افق التوقع لدى المتلقي لا سيما في نهاية العرض بعد ان ادخل المتلقي في دوامة الغموض بسبب وجود شخصيتين للمارد على المسرح بقصدية من المؤلف لبث رسالة تدعو إلى الانزياح عن المتوارث الخرافي نحو واقع علمي مدروس.
كان العمل ابن بيئته بامتياز فيما وظف من رقصات وايقاعات تحيل إلى اجواء البصرة، كذلك تمسكه بالموروث الثقافي والاجتماعي عبر توظيف رموز خرافية باحترافية عالية، فضلا عن توظيف الموسيقى والاغاني الجيد الذي حاول ضبط الايقاع بعد ان اسقطه الترهل والتكرار وعدم وصول الحوارات في بعض المشاهد، وقد يعود هذا الترهل للنص الذي ما ان يشذب ويهذب ويلاقي تلك المعالجات الجمالية الذكية التي شاهدناها في العرض حتى يظهر بالشكل الامثل .
اخيرا اقول لاعضاء مسرحية (الساحل والمصباح) كنتم كرماء معنا سينوغرافيا لكنكم بخلتم علينا بتواصل يوفره الحوار. شكرا لفرقة محمود ابو العباس على هذا الامتاع البصري وشكرا للمخرج الفذ الذي استثمر اصحاب المهن والكسبة في انتاج صورة جمالية غاية في الروعة والابهار في تجربة متفردة اثمرت عن مخرجاتها الجمالية الممتعة.