بحث: "صورة الأم بين المسرح العربي والغربي"/ إعداد : د.محمود سعيد
سلطنة عمان
مؤسسة مجالس الأثير للمؤتمرات والندوات
منتدى المرأة للثقافة والفكر – صلالة
الموسم الثاني (الإبداع المسرحي) مارس 2019
مما لاشك فيه أن “الأم” هي أعز مخلوق على الإطلاق لدى الإنسان .. فهى البيت الذي يتكون فيه، قبل أن يولد.. وهى الرقة والدقة والعناية الفائقة له، حينما يخرج إلى الحياة .. وهي الأمان والحنان المفرط، عندما يشب على قدميه .. وهي المعلم الناصح المرشد للحياة، حينما يثوب الابن إلى رشده .. وهي المخلوق الفريد الذي يعطي بلا حدود، دون أن يسأل مقابل عطائه .. هي الدعاء المجاب عند الرضاء .. وهي لطف الله بنا عند نزول القضاء. هي التي يكرمنا الله من أجلها ..
هي التي أوصى بها – سبحانه وتعالى – في كتبه المنزلة .. وأوصى بها رسله الكرام ..
“هي الثوب الذي يدفعنا في الشتاء القارس .. هي الفراش الوثير الذي ننعم بالارتياح فيه .. هي الهرم الكبير الذي لا نشعر بنعمة الاتكاء عليه، إلا عند زواله”([1]).
لا يمكن لأي إنسان مهما کان، أن يحس بالمشاعر والآلام والمشقات التی تتكبدها أمه، إلا إذا عايش تلك الاحاسيس والمشاعر عن قرب، ولذلك فإن القرآن الكريم، والاديان السماوية أوصت الإنسان بأن يكون عطوفا رحيماً بأمه.
والام لها أثر كبير على أولادها، لأنها أشد الناس التصاقاً بأبنائها بفضل ما وهبتها اياها الطبيعة من صفات بيولوجية، ونفسية. وفي أعماق كل واحد منا حب كبير، عميق الجذور لأمه التي أنجبته، أو التي ينتسب إليها. هذا الحب يترجمه كثير من الناس – بل الأغلبية الساحقة منهم – إلى سلوك طيب تجاه أمهاتهم. ولكن بعض الناس الذين وهبهم الله ملكات خاصة في التعبير والخلق وهم الفنانون، يترجمون ذلك الحب إلى أعمال فنية خالدة تتمتع بها الأجيال تلو الأجيال.
وقد حاولت جاهدا أن أتتبع صورة الأم في المسرح العربي والغربي، وآثار فضولي ان الرجل العربي يحب أمه حباً لا يدانيه حب، ومع ذلك فان العرب نادراً ما يتفاخرون بأمهاتهم، أو يتحدثون عنها. فآلاف الأبيات الشعرية مثلا التي نظمها شعراء العروبة لا نجد فيها الشيء الكثير عن الأم.
“وبالرغم من أن القرآن الكريم والكتب السماوية وكتب السير والتاريخ قد ذكرت لنا قصص بعض الأمهات الفضليات مثل “هاجر” أم إسماعيل عليه السلام، ويوكابد” أم موسى، و “مريم” أم عيسى، و “آمنة” أم الرسول عليه الصلاة والسلام، والأساطير التي تتحدث عن الأم، وقلب الأم، إلا أن عملاً ضخماً لم يتركه لنان الفنانون العرب يدور حول الأم العربية”([2]). وكلنا نعلم أن هناك مئات من القصص والأعمال المجيدة التي قدمت بها الأم العربية في صمت، ولكن تلك الأعمال لم تخلد في إطار فني أصيل كما رأينا مثلاً في قصة “الأم” الشهيرة لمكسيم جوركي، أو “الأم” القصة التي نالت جائزة نوبل للكاتبة الأمريكية بيرل بك، أو قصة “الأم” للكاتب الهندي “عزرا”، أو مسرحية الأم للكاتب التشيكي كارل تشابك، أو “الأم شجاعة” للكاتب الألماني بريخت، أو دائرة الطباشير القوقازية لبريخت أيضاً.
مسرحية: “الأم” التي ظهرت سنة ۱۹۳۹ – أي بعد وفاة المؤلف في ديسمبر سنة ۱۹۳۸ … والتي ناقش فيها بطريقته الخيالية فكرة الحرب والسلم، ومتى نغلب إحداهما على الأخرى، من خلال منزل به الأبناء الثلاثة والأم.
“في هذا المنزل العظيم الحزين منزل البطولة والأبطال .. وها نحن نرى ثلاثة من أبناء رجل توفي منذ سبع عشرة سنة في معركة حربية بسبب خطأ قائده قصير النظر الذي أصادر إلى الرجل – أو الوالد ريتشارد – أمرا بالاستيلاء على أحد المعاقل دون أن يكون له ما تحميه من نيران العدو .. فإذا أبدى الرجل هذه الملاحظة عزه قائده بأنه – ولا بده – يشعر بشيء من القشعريرة تسري في رجليه – فلا يملك الرجل إلا أن ينفذ أمر القائد الجاهل .. وهكذا يقضي على ريتشارد، وعلى جميع من معه من الجنود”([3]).
ها نحن إذن نرى ثلاثة من أبناء هذا الأب الضابط البطل .. وقد جلس مهم اثنان: بيتر وكرستوفر، يلعبان الشطرنج … تلك اللعبة الأبدية الخالدة التي لا هي لمن يحبا ما إلا أن يقضی أحدهما على الآخر .. سواء كان الذي يتوه باللعب فرد .. أو فردين .. أو أمة أو أمتين .. أو مجموعتين من الأمم .. فالنتيجة واحدة .. القضاء على أحد الجانبين .. وإن لم تخرج الجانب الآخر سليما من المعمعة
أما الأخ الآخر: توني … وهو أصغر أبناء هذه الأسرة، فتراه مستغرقا في قراءة كتاب ما … لكنه يفيق من قراءته على شجار ينشب بين أخويه اللذين اختلفا على حل لعبة من اللعب كان أحدهما يذكر الطريقة التي يلعبها بها أبوه .. بينما بدا للأخ الثاني أن من الممكن .. بل الأصح .. أن تلعب بطريقة أخرى .. ومن هنا ينشب النزاع الذي يتطور فينقلب إلى معركة تختلط فيها نظام الحجرة وينقلب أثاثها رأسا على عقب .
وتدخل الأم دولوريس .. لتهر الشابين … و لتعيد الحجرة إلى نظامها .. ويخرج بيتر وكرستوفر ومعهما بندقية ليدخلا بها في مباراة لإصابة الهدف .. كما تخرج توني الصغير حتى تنتهي الأم من مهمتها .. ولا تكاد الأم تخلو إلى نفسها في الحجرة، وقد فرغت من إعادة النظام إليها
حتى تغلق النوافذ، وحتي يسود الغرفة شيء من الظلام بسبب ذلك .. وهنا .. نرى طيفا شفافا يبرز أمامنا من أحد أركان الغرفة .. فإذا هو روح الزوج المتوفي منذ س بع عشرة سنة .. يقف خلف زوجته – هذه الأم – وهي تنظر إلى صورة زوجها المعلقة فوق الحائط نظرة العاتبة اللائمة، وهي تتحدث إليها وتقول: إنها لا تحب أن يجتذب الأب أبناءه إليه حتى لا يشبوا على ما شب هو عليه … من هذا الإقدام الأعمى، فإذا الأب .. أي الروح يتقدم متمهلا نحو الأم ليقول لها: إنه لايجتذهم إليه، وإنما الذي يجتذبهم هو هذه التذكارات التي تملأ جوانب الغرفة … فلماذا لا تخفيها الأم عن أعينهم؟
و تستدير الأم لتكلم روح زوجها غير مشدوهة ولا مأخوذة .. كالتي تعودت أن تلقى تلك الروح .. وتدور بينهما مناقشة يتحدث فيها الأب عن الدور الذي قام به في قتال ثورة الأهالي … وأنه لم مت ميتة الأبطال قط .. بلي مات بسبب جهل قائده ونزقه، ثم بسبب هذا الجرح الذي أخذ بسببه أسيراً، فأذاقه آسروه الهوان وتركوا جرحه ينزف حتى مات .. وهذا خلاف ما ادعته النشرة الرسمية التي وصفته بالبطولة، وهو يؤدي واجبه في المعركة !
وتتطور المناقشة فتذكر الأم ما عانته في سبيل تربية أولادها الخمسة، وحرصها على ألا يشبوا جنودا كما كان أبوهم، كان تخولهم الحق في التربية بالأكاديمية الحربية فيوفروا علمها المصروفات في الكليات الأخرى … ولكن هذا لم جردهم من روح الاعتزاز ببطولة أبيهم وحرصهم على أن يشبوا على ماشب هو عليه .. فهذا ابنها الأكبر أندرو الذي درس الطب وتخرج في أعظم كلياته يتطوع لمحاربة الحمى الصفراء في بلاد نائية .. حيث مالك هناك .. وهلاك لأنه تص لأن تنتقل إليه عدوى هذا المرض الخبيث لكي يسجل أعراضه فيه إذ هو طبيب يستطيع أن يعرف من التجربة ما يعرف غيره … فتكون النتيجة أن يقضي عليه .
وهنا .. نرى طيف أندرو .. أندر و الطبيب .. يبرز من أحد أركان الغرفة المعتمة، حينما تقول الأم إنه ذهب إلى تلك البلاد الموبوءة دون يهتم بنداء أمه في ألا يفعل … ذهب إليها متلصصا كما يفعل اللصوص في حلى الليل. إنه يبرز في حلة طبيب ليقول لأمه: إنه قد شرح لها الأسباب التي كانت تلزمه بهذا السفر للقيام بواجبه المقدس نحو إخوته البشر المنكوبين .. فإذا كان لم يصخ لرجاء أمه مضحياً بشيء من محبتها؛ فإنه فعل ذلك في سبيل واجب أسمى .. وينضم الأب إلى ابنه أندرو مؤيداً موافقاً على كل ما حدث، ولا سيما بعد أن يعرف سبب وفاة ابنه، وأنها كانت وفاة مقصودة أقدم عليها أندرو بشجاعة وإقدام، وهو يعرف أنه لن يفلت منها، وحتى لو لم تنته التجربة إلى شيء .
وعند ذلك تسمع طلقات نارية في الحديقة، وتقول الأم إن بيتر وكر متوفر في مباراة لإصابة الهدف .فيهش الأب، ويطرب أندرو .. وتثور الأم .. لأنها لن تسمح لأولادها الباقين هذه الروح العسكرية التي لقيت منها الأمرين … وتقول إن بيتر وكرستوفر – وهما توأمان ولدا معا – لا ينفكان عن النزاع والمشاجرة ولا يكاد أحدهما يرى رأياً حتى يخالفه أخوه: ويشتد في الإنكار عليه …
ثم تحدث مفاجأة عجيبة … إن روحاً ثالثة تبرز من أحد أركان الغرفة .. وإذا هي روح الابن الثاني جورج .. الذي التحق بسلاح الطيران ووقع عليه الاختيار بتجربة في الطيران المرتفع لضرب الرقم القياسي في هذه الناحية.
ويرحب الأب ويرحب أندرو بروح جورج .. و تستدير الأم لترحب بابنها جورج الذي لم تكن تعلم أنه سقط بطائرته ولم يعد حية بعد .. فإذا عرفت الحقيقة زلزلت. زلزالا شديدا، وملأ قلمها الهم .. وأنشأت تجادل جورج فما دفعه إلى تلك التضحية … لكن حزنها يتغلب عليها و ملك زمامها فتسقط في أحد الكراسي لتنشج نشيجاً طويلا مكتوماً ….. على أن الحديث يتصل، ويثي الأب وأندرو على شجاعة جورج .
وتفيق الأم .. ويواسيها الأب وأندرو وجورج، ويطلبون إليها أن تتمالك وأن تكون أمة عظيمة يفخر بها أبناؤها ..
ويسمع طرق بالباب فتتلاشي الأطياف الثلاثة: تم يدخل كرستوفر فيوقد النور ويقول لأمه إنه سمع أنباء مزعجة .. لقد أصيب جورج في حادث طيران … ولكن
“لا تنزعجي يا أماه .. أغلب الظن أنك سمعت النبأ!”
فإذا كان الفصل الثاني رأينا الأخوين کرستوفر والصغير توني يتجادلان في موقف أخيهما بيتر الذي انضم إلى الحزب الأحم ؛ بينما انضم کرستوفر إلى الحزب الأبيض في تلك الفتنة التي فرقت كلمة الأمة وقسمتها إلى هذين الحزبين المتحاربين. فإذا دافع توني عن موقف أخيه بيتر ثار عليه کرستوفر وعيره بأن أمه قد نشأته تنشئة مدللة كلها عطف وكلها ميوعة ثم أخذ يدلي برأيه في الحمر قائلا:
کرستوفر : لقد كانت آراؤه في مصلحة الوطن آراء
خاطئة من أساسها .. لقد وهم أن من الممكن
أن تحكمنا حفنة من السوقة الأنذال .
ماذا يكون مصيرنا لو تم لهم ما أرادوا؟
لقد كشفوا عن معدهم ونواياهم ومبلغ كفايتهم
بما أقدموا عليه. من نهب وسلب وانتقام بدافع
من حزازاتهم القديمة. لو تم لهم ما أرادوا
لانهار بناء الوطن، وضاع كل شيء
توني : ولكن بيتر كان حازماً كل الحزم ووضع
حداً للسلب والمهب.
کرستوفر : هذه هي الغباوة المطلقة. لقد كان يرجو
أن يؤلف حكومة من هؤلاء الرعاع تتولى
أمور البلد. ونحن لن نسمح بهذا أبدا.
توني : ومن تعنى بقولك: نحن؟
کرستوفر : فريقنا .. إننا الأمة .. إن هذه الطغمة أو
حكمت البلاد بعقليتها المريضة وآرائها الفاسدة
عن السلام وعن التصالح السلمی
والمساواة لانهار بناء الوطن .. وضاع كل
شيء… (المسرحية 96)
إذن فهي الحزبية العمياء التي فرقت كلمة الأمة وجعلتها أجزاء متحاربة، وانتشرت في العائلات فأصبح هذا الأخ أحمر بينما هذا الأخ أبيض .. وكل منهما عدو لأخيه … ويذهل توني الصغير، حينها تخبره کرستوفر أن أخاهما بيتر مقبوض عليه الآن وهو رهينة من الرهائن … فإذا عاد الحمر إلى إطلاق النار فقد يقتل بيتر .. والحرب هي الحرب!
ويثور توني الصغير، ويغضب لموقف أخيه کرستوفر الذي يوشك أن يخرج ليأخذ مكانه بين محاربي حزبه .. ولكن الأم تدخل فتسأله عن بيتر الذي سبق أن أخبرها أنهم مطلقو سراحه في المساء .. فأين هو؟ إنها تكاد تهم بالخروج البحث عن بيتر وسط الرصاص والقنابل وخبار المحركة. لكن كرستوفر ينصحها بعدم الخروج وإلا أطلقوا عليها النار .. وهنا تطلب من تولى أن يتركها وحدهما فينسرق توني … وعند ذلك تحاول كرستوفر أن يقنع الأم بغلطة بيتر في ثقته بالناس وهو مغمض العينين .. وأن هذه الثقة الحمقاء هي بالناس وهو مغمض التي جرت عليه ما جرت من تلك البلايا .
وينهض کرستوفر ليتناول بندقية ويشرع في تنظيفها … ثم ينطلق من الحجرة دون أن يصيخ إلى توسلات أمه .
وعند ذلك يظهر طيف بيتر! أجل! طيف بيتر! فلقد أصبح بيتر طيفاً هو أيضا .. روحاً ..
وتفرح به أمه أيما فرح، لأنها كانت تحسبه قد عاد سليماً معافى بعد أن أطلق البيض سراحه … وتحاول الأم أن تضيء المصباح فيرجوها بيتر ألا تفعل … ولا يزال بها حتى يصارحها بأنهم رموه بالرصاص ..
.. وهنا يبدو طيف أندرو …
كما يظهر طيف الأب ريتشارد … ويظهر بعده طيف جورج !
بيتر وأندرو وجورج والأب … لقد أصبحوا جميعاً أشباحاً …
ويبدأون حديثاً طويلا فيصف كل منهم الطريقة التي مات بها .. ونسمع منهم العجائب التي يختمها الأب بقوله: أعلم أنكم جميعا قد ضحيتم بحياتكم في سبيل أمر عظيم .. أندرو في سبيل العلم، وجورج في سبيل تقدم الطيران … أما أنت يا بيتر .. ففي سبيل أي شيء ضحيت بحياتك؟
و ويجيبه بيتر: في سبيل الحرية والمساواة يا أبي !
ويقول الوالد: آه ! أما أنا … فقد مت في سبيل الوطن وشرف الكتيبة … أو … لأن القائد أصدر تعليمات خاطئة ! .. ولكن لا علينا من ذلك كله … إنها جميع أعمال عظيمة تستحق أن نضحي بالحياة في سبيلها .
وبينما هي في حديهم ذاك إذا صوت المذيع، في الراديو وهو صوت كرستوفر نفسه … يقول بأن القائد العام يأمر الحمر للمرة الأخيرة بإلقاء السلاح، ووقف هذه المذابح المنكرة في ظرف خمس دقائق .. فإذا لم يصدعوا بهذا الأمر فسآمر بضرب المدينة وتدميرها على رءوسهم ..
وهنا يثور بيتر – أي روح بيتر التي كانت تتلهى بالشطرنج في تلك اللحظة تحاول حل مشكلة من المشكلات .. ويرى البيض بأنهم أوغاد متوحشون سفاحون … ثم يهتف بالحمر ألا يستمعوا إليه … إلى كرستوفر أخيه! … وأن يصبروا ويصابروا حتى يتم النصر لقضية الحرية والمساواة ويزول الطغيان!
وتثور النخوة في قلب توني ويحمل سلاحه ثم هم بالخروج فتحول أمه بينه وبين ذاك، إنه أملها الوحيد الذي بقي لها في هذا الوجود .. وهي لن تسمح له مطلقا بالاشتراك في تلك المعركة لهذا السبب، ولأنه صغير لا يستطيع أن يتحمل أعباء الحرب .. ثم حسها أنها قدمت للوطن أربعة من فلذات كبدها.
ولا تزال الأم تلح على ابنها وتجادله و تقنعه حتى يلين آخر الأمر، ثم تأخذه و تغادر الغرفة لتخبئه عن أعين العالم جميعاً .. فإذا خرجت، و تكون قد أطفأت الأنوار … سمعنا صوت روح أندرو .. تقول: مسكينة أنت أيها الأم وتجيبه روح الأب! بل المسكين هو توني !
ونسمع صوت كرستوفر يقول: إنه في منتهى التعاسة لاشك في ذلك!
ثم تمضي فترة فنسمع صوت الطبول ووقع أقدام الجنود، وهم يسيرون إلى الميدان .
ثم تنجاب بعض الظلمة، فنتبين أشباح الأب وأبنائه الذين ماتوا وهم يتابعون أخبار الحرب من صوت المذياع .. حتى إذا سمعوا وقع أقدام في الخارج طلب الأب من ابنه جورج أن يغلق الراديو … ثم إذا الأم تدخل الحجرة وتدير مفتاح النور … وإذا نحن نرى هذه الأرواح كلها وبينها روح غريبة … روح لم نرها من قبل … فإذا هي روح الجل العجوز التي تنتمي إليه تلك الأسرة كلها !
ويدور حديث حول هذه الحرب … ويدور نقاش بين روح بيتر وروح کرستوفر اللذين رأيناهما من قبل يتخاصمان في الدنيا، بل يقتتلان فيها فإذا هيا لايزالان عن موقفهما ذاك … وكل يحبذ رأيه .. ويدعى أن حزبه كان أنفع الوطن من الحزب الآخر !
إذا أنكرت الأم تحمس أبنائها وحمس جدهم وأبيهم لهذه حرب المهلكة جادلوها جميعا، ودافعوا عن الحرب في سبيل الوطن دفاع حار له ما يبرره. وزعموا أنهم هم أنفسهم بالرغم من أنهم موتى يجب أن يشتركوا في تلك الحرب، وأن ينضم كل منهم إلى فرقته، ويقوم كل منهم بواجبه. فإذا سأل الأب عن ولده توني أين هو؟ فزعت الأم وأصرت على أنه صغير ولن يشترك في الحرب ولكن الأرواح جميعا تأسف لموقف الأم التي تحاول أن تسيء إلى أمجاد تلك الأسرة ومفاخرها القديمة وما سجلته في صحيفة الخلود من دفاعها عن الوطن.
ثم لا يلبث أن يأتي صوت الإذاعة من مكبر الصوت بالخارج معلنة أن “طائرات الأعداء قد أغارت اليوم على إحدى مدننا، وكان عدد الضحايا أكثر من ثمنمائة من الأهالي معظمهم من الأطفال والنساء .. وأنهم دمروا مستشفى المدينة فقتل ستون من المرضى.
وهنا يتوسل توني إلى أمه بأن تأذن له في أن يحمل سلاحه لينتقم من أعداء وطنه … وقبل أن تتكلم أمه يعود المذيع فيقول إن طائرات العدو أغارت على قرية بورجر وألقت قنابلها على مدرسة القرية فلما أسرع أطفالها بالهرب طلبا للنجاة إذ بمدافع الطائرات الرشاشة تحصدهم حصداً، وإذا بأشلاء الكثيرين مهم تتطاير في الهواء …
ولا تكاد الأم تسمع ذلك حتى تذهل قائلة: أطفال … أطفال كأبنائي … توني ! هلم يا بني … احمل سلاحك .. وبادر إلى المعركة! اذهب … عجل!!
من هي الأم؟ هل هي الوطن؟ أم الأم المادية التي أنجبت؟!!
إن الأم التي حزنت على أبنائها الأربعة كل هذا الحزن إن الأم التي وعلى زوجها من قبل، وطالما!! عارضت فكرة الحرب وأنكرتها .. لم تملك إلا أن تدفع إلى أتون المعركة بولدها الخامس الذي كان لها كل شيء، والذي طالما حاولت أن تثني عزيمته عن الذهاب إليها رحمة بها … فلماذا ؟… لماذا تغير موقفها هكذا بعد أن صكت أذنها وحشية المتوحشين و ضراوة المستعمرين، وقتلهم هؤلاء النساء و المرضي وأطفال المدرسة في جو تعبيري خالص!! يتجرد فيه البطل أو الأبطال من كيانهم المادي تقريبا، ويصبحون أرواحاً خالصة تكشف لنا عن حقيقة الشخصية وفطرتها التي لم تعد تبالي ما يزدحم به هذا العالم الفاني من نفاق و رياء وأطماع … ولعله يدرك الآن أن وقوع البطل في أزمة روحية ضرورة من ضرورات هذا المذهب. “كتلك الأزمة التي وقع فيها الأب وهو ينصاع لتنفيذ الأمر الخاطئ الذي أصدره إليه قائده .. أو الأزمة التي أوقع فيها الطبيب أندرو نفسه بدافع الإخلاص للعلم والتضحية في سبيل كشف أسرار الحمى الصفراء .. أو الأزمة التي مر بها جورج وهو في أجواز الفضاء .. أو الأزمة التي اكتسحت بيتر وكرستوفر وهما يختصمان أمام رقعة الشطرنج وفي ميدان الحزبية الأعمى والتي لزمهما بعد الموت أيضا … أو الأزمة التي اجتاحت توني الصغير ودفعت به إلى المعركة .. أو الأزمة التي انتابت الأم فنهنهت من موقفها وعلمتها التضحية بكل شيء … حتى بتوني نفسه”([4]).
إلا أن اللعب الرمزي كان واضحاً حيث المباراة في الشطرنج بين بيتر وبين کرستوفر .. مباراة الشطرنج التي يخوض البشر جميعا ميدانها ثم تنتهی بفناء الجميع آخر الأمر، وإلقاء القطع في صندوقها الخشبي .. تماما كما تتلقفنا القبور حينما ينتهي الأجل، ومن لفتات المذهب الرمزي في المسرحية أيضاً ذلك الشعر الذي كان ينظمه توني .. الفتى الحالم المنطوي .. الذي دعاه داعي الوطن في النهاية فلباه وسعى إليه.
ثم هذه الفاتنة المجهولة التي كان يحلم بها توني .. من هي .. وما هي؟
ثم تقسيم قطع الشطرنج إلى حمر وبيض، والربط بين هذا، وبين ما في نفس كرستوفر ونفس بيتر .
ثم هذه المعركة بين التوأمين، والتي قلبت الغرفة رأسا على عقب، وما ترمز إليه من المعركة بين البيض والحمر وقلبها البلاد رأسا على عقب أيضا.
وبين ذلك كله و بين المعركة بين القديم والجديد التي أشار إليها بيتر في الفصل الأول صلات رمزية قوية .
ثم المبارزة بين بيتر وكرستوفر بعد المشاجرة .. وأول دم يسيل في صورة تمثيلية صرفة، لا يلبث أن يصبح دماً حقيقياً في معركة حقيقية يكتوي بها إلى قلب الأم وقلب الوطن معاً.
تم سؤال الأم ولدها بيتر لماذا يحاول دائما أن يحطم شيئاً ما؟
وسؤالها توني: إنه دائم التفكير في البلاد السحيقة النائية، ولن يعود عليه هذا بأي نفع … وإنه لن يقوم بأي رحلة طويلة … ثم رد توني عليها بقوله: إنه من الجائز ألا يفعل .. لكنه يستطيع أن يتخيل ما تكون عليه الحياة هناك … فإذا سألته أمه: “أين” أجابها إنه لا يعرف على وجه التحقيق، لكنه يستطيع أن يرى بعين الخيال سهلا فسيحاً تكسوه الأعشاب، وأن يرى فيه فجأة سرباً من الظباء … إنه يعجب كيف يستحل الإنسان قتل حيوان برصاص البنادق .
ثم هذه الأرواح التي تزدحم بها المسرحية .. أكانت تعود من العالم الثاني حقاً … أم كانت تبرز من نفس الأم ومن هواجس قلبها، ومن ثمة كانت المسرحية كلها تجرى من تلك الهواجس؟
لتبقى الأم رمزاً للحب والحنان والعطف، وهي أيضاً رمزاً لاحتواء الجميع، تلك الأم التي نراها بعين المباشرة وعين المغايرة، المباشرة كأم الأولاد، والمغايرة بها كوطن يسعى للبقاء والجمال والسحر.
“إن المجال العام الذي تتحرك فيه المسرحية .. هو الحرب. ونعرف من الفصل الأول، أن أب هذه الأسرة المكونة من الأم وخمسة أولاد، قد استشهد بسبب قائده الجاهل الذي أمره باقتحام أحد معاقل العدو، دون أية حماية تحميه من رصاص العدو. وقد توفي هذا الأب منذ سبع عشرة سنة”([5]).
وتظهر روح الأب على المسرح، وتتحدث معها الأم، فتحکي لزوجها كيف قاست في تربية أولاده الخمسية بعد مماته. فابنها الأكبر أندرو الذي درس الطب وتخرج في أعظم كلياته، تطوع لمحاربة الحمى الصفراء في بلاد نائية. وهلك هناك .. لأنه تطوع لأن تنتقل اليه عدوى هذا المرض الخبيث لکی يسجل أعراضه فيه وكانت النتيجة أنه هلك. وتظهر روحه بجوار أبيه.
ويطرب الأب عندما يسمع صوت طلقات نارية في الحديقة، ويعرف أن ابنيه بيتر وکرستوفر يتدربان على اصابة الهدف. و تثور الأم لأنها لا تريد أن يكون أبناءها مثل أبيهم يموتون في الحرب بسبب قائد جاهل .. ولكن الأب يقول:۔
الأب: أعتقد يا حببتي أن من حقك أن تفخري بهم كل الفخر، أو لست كذلك..؟
الأم: الواقع أنني لست على يقين من ذلك، بل أشعر كأنني دجاجة فقست نسورا، ثم أعود فأقنع نفسي أحيانا بألا أكون ضيقة الأفق، وألا أقف حجر عثرة في سبيل ميولهم، إنه لمروع حقاً يا ريتشارد، کيف تتغير طبيعة المرأة عندما تصبح أما. (المسرحية ص82)
ثم تظهر روحاً ثالثة، هي روح الابن الثاني جورج الذي التحق بسلاح الطيران ووقع عليه الاختيار بتجربة في الطيران المرتفع لضرب الرقم القياسي في هذه الناحية. ولكن طائرته تسقط. وعندما عرفت الأم بذلك، سقطت في أحد الكراسي، وقد زلزلها الخبر، وظلت تنشج نشيجا طويلا مكتوما.
وفي الفصل الثاني نرى الأخوين کرستوفر، والصغير توني يتجادلان في موقف أخيهما بيتر الذي انضم الى الحزب الأحمر، بينما انضم كرستوفر إلى الحزب الأبيض، في تلك الفتنة التي فرقت كلمة الأمة، وقسمتها إلى حزبين متحاربين .
وتظهر روح بيتر على المسرح، وتعرف الأم، فتقع مغشيا عليها من قوة الصدمة. فقد قتله أعضاء الحزب الآخر رمياً بالرصاص إن بيتر وأندرو وجورج والأب .. أصبحوا جميعا أشباحا، يحاولون العناية بالأم المغشى عليها.
ويشتد الصراع بين الحزبين، ويهدد الحزب الأبيض – الذي استولى على الاذاعة والسلاح – أن تستسلم المدينة والا ضربوها بالقنابل. وفعلا تنهال القنابل على المدينة بما فيها من أطفال وشيوخ، وقتل کرستوفر أيضا. وبينما كانت الأمة تتطاحن، انتهز العدو الفرصة، وهجم على البلاد .
تردد صوت المذيعة تقول:
ليس هذا صوت إنسان، ولكنه صوت الوطن نفسه، يناد يکم – أنا أممكم الوطن. أنا أنادي جميع أبنائي .. أن هلموا الى الدفاع عنى، هلموا إلى يا أبنائی .. دافعوا عن أبنائی.
الأم : ( تقفل جهاز الراديو )
لا، أنت لست أما. ولكنني أنا كذلك، أنا أم، أسامعة أنت؟ أي حق لك تجاه أولادي؟.. لو كنت أماً لما أرسلتهم إلى الحرب، ولخبأتهم كما أفعل أنا، ولغلقت من دونهم الابواب ولصرخت كما أصرخ .. لا لن أتخلى عنهم. أقول لك الحق. لم يبق لي أحد. لم يبق سواي أنا وحدي، امرأة عجوز، خرقاء. لم يبق لي أحد، لا أحد اطلاقا.
وتلتفت الأم وراءها، فترى ابنها الأخير الصغير تونی، فتحاول أن تمنعه من الخروج، ليقاوم العدو لأنه صغير لم يبلغ الثامنة عشر بعد. ويدور حوار رائع بين الأم وبين آخر أبنائها الصغير. تحاول أن تستبقيه لنفسها، و تقول الأم لأشباح أبنائها وزوجها ثم جدها :
الأم : إنني محنقة على العالم. إن أطفالي يرسلون على الدوام إلى منيتهم في سبيل قضية أو أخرى، في سبيل المحبة، أو خلاص البشرية، أو ما يطيب لكم أن تطاردين من الأسماء والصفات، ولكن هل تقدم العالم ؟ .. هل أصبح عالما أفضل ؟ وهل كان من وراء ذلك أي منفعة؟.
الرجل العجوز : بلى يا عزيزتي، لقد دعمت الأساس لأروع التقاليد، وهو أمر من الأهمية بمكان .. كما تعلمين (المسرحية ص195)
ولكن صوت المذيع والمذيعة، يكشفان الحالة السيئة التي وصلت إليها البلاد، وأن العدو قد أطلق سراح أحد طوربيداته شباب يتمرنون، وقد غرقت السفينة. كما غارت طائرات الاعداء على إحدى المدن وكان عدد الضحايا أكثر من ثمانمائة شخص في الاهالي، کلهم من الاطفال والنساء.
و تستيقظ الأم من غفوتها، ووقفت منتصبة كما لو كانت قد تحولت إلى صخر:
– أطفال! أطفال كأبنائی .. عندما كانوا أطفالا. أطفال بشعورهم المشعثة، ووجوههم المتسخة؟
وعندئذ تخطف الأم البندقية من مكانها على الحائط، وتدفعها في يد ابنها الاخير تونی، الممدودتين، بحركة كاسحة من ذراعيها
ثم تقول : اذهب (المسرحية ص207)
واستطاع كارل تشابك أن يحرك النفوس البشرية، ويتعرض لأصعب المشاكل والأزمات التي تتصل بالحروب في أسلوب رائع، وحبكة مسرحية متقنة، فيحلل نفسية هذه الأم تحليلا، كشف فيه أعماقها، وعرض لنا أدق الخلجات، وذلك الصراع العنيف المستمر طوال المسرحية داخل نفسية الأم. ويمكن أن نفسر ظهور الاشباح على المسرح، أنهم تعبير مجسم لما يدور في نفسية الأم من صراع عنيف، وصل إلى الذروة المنشودة، وهي .. تغيير موقف الأم في نهاية المسرحية، فدفعت بآخر أبنائها إلى المعركة .. للدفاع عن الوطن الحقيقي هذه المرة.
وبرع تشابك في أن يعظنا دون ملل، أو أن تحس النفس بهذا الهدف المباشر. فبين لنا عن طريق الرمز، نهاية التحزب الأعمى، والحزبية الحمقاء، التي أدت إلى انشقاق في الأسرة الصغيرة بين الأخ وأخيه، ثم انشقاق كبير في الأسرة الكبيرة، الذي أدى في النهاية، إلى ظهور العدو الحقيق للوطن، وانتهاز الفرصة، لينقض على المتنافسين الذين أعماهم التحزب الأعمى.
صورة الأم بين يسري الجندي وبريخت
بداية يود الباحث أن يؤكد أن كلا النصين العربي وهو (حكاية جحا والواد قلة) لـ يسري الجني، ومسرحية بريخت (دائرة الطباشير القوقازية) .. هما في الأصل صورة لشيء واحد، أو أصل واحد، أو ربما مضمون واحد بدرجات متفاوتة.
لذا يقارن الباحث مابين مسرحية يسري الجندي وبريخت، خاصة في عرض وتوظيف صورة الأم بين الرؤية العربية الشرقية، والصورة الغربية بإطارها الأوروبي الخالص.
مسرحية دائرة الطباشير القوقازية لـ بريخت
هي إحدى مسرحيات بريخت التي للشرق فيها أثراً جلياً فيها إذ “يعود بريخت مرة أخرى إلى الصين في هذه المسرحية، حيث يتناول قصة صينية بسيطة (دائرة الطباشير) تدور أحداثها حول امرأتين تتنازعان طفلاً فيما بينهما، فيغير فيها كيفما شاء حتي يستطيع عن طريقها أن يعرض أفكاره الخاصة بالخير والشر، الغنى والفقر”([6]). خاصة وأن القصة الصينية تقول أن سيدتين احتكمتا إلى القاضي لإثبات أحقية كلاً منهما في الطفل، فرسم القاضي دائرة طباشير وضع فيها الطفل، وطلب من كلتا السيدتين المتنازعتين أن تشد الطفل من زراعه إلى ناحيتها، فالتي تستطيع إخراجه من دائرة الطباشير ستكون هي الأم الحقيقية.
لكن بريخت عندما أخذ هذه الفكرة من الحكاية الصينية، قد تعمد أن يغير في النتيجة “فلم يجعل الأم الحقيقية هي التي يحكم لها بالأبن، بل حكم القاضي الغريب الأطوار (أزدك) للخادمة جروشا التي أنقذت الطفل وعنيت به وفرت به”([7]).
إلا أن مسرحية بريخت تبدأ بلقاء بين ممثلى قريتين في القوقاز فوق حطام إحدى القريتين اللتين دمرتهما الحرب … ليقرر أي القريتين يملك الوادي. فيحاول الملاك القدماء استغلال الوادي كمرعى للماعز، في حين يحاول الملاك الجدد تحويله إلى بساتين ومزارع للكروم، وأوشك الملاك الجدد أن ينجحوا في فكرتهم لولا معارضة فلاح عجوز…
ثم يجلس الفريقان يشاهدن مسرحية تصور مشكلتهم … يقدمها أحد المغنين من أهل (جورجيا) وهي تصور الانقلاب الحادث في جورجيا ولحاكمها وفي خضم الأحداث تظهر الفتاة الخادمة (جروشا) يغازلها الجندي (سيمون) إلا أنه في ذروة أحداث الحرب تنسى الأم زوجة الحاكم وليدها الرضيع إثر انشغالها بالبحث عن ملابسها الغالية وزينتها النفيسة، وتأخذ جروشا الطفل وتقابل مجموعة من المخاطر والأهوال من أجله إلى أن تصل إلى أخيها في ماوراء الجبل، وتتأفف زوجة أخيها والمالكة لكل شيء من وجودها فيدبر أخوها لها زواج من شاب مريض كي تجد لنفسها وللطفل سقف يأويها، إلا أنه بعد فترة تهدأ الحرب وتعود زوجة الحاكم للبحث عن الطفل الوريث، ويبدأ النزاع أمام القاضي أزدك مابين زوجة الحاكم كأم حقيقية وجروشا وهي الأم التي عانت وقاست من أجل الطفل وبعد مجموعة من المداخلات والمواقف الكاريكاتورية الساخرة يرسم أزدك دائرة طباشير ويضع الطفل فيها طالباً من المرأتين المتنازعتين جذب الطفل، والتي تفوز هي ستكون الأم الحقيقية، إلا أن جروشا ترفض أن تجذب الطفل كي لا تؤذيه وهنا تبين للقاضي أزدك من هي الأم الحقيقية فيحكم لجروشا بالطفل.
لقد تعمد الباحث أن يقدم ملخصاً لأحداث مسرحية بريخت وذلك قبل تناول (حكاية جحا والواد قلة) وهي قد مَّصرها يسري الجندي عن رائعة بريخت (دائرة الطباشير القوقازية)
ومن البداية لابد من التأكيد على أن بريخت في (دائرة الطباشير) يطرح مشكلة نشأت في بيئة أوروبية إبان العقود الأولى من القرن الماضي، وهي مشكلة الملكية بصفة عامة، وملكية الأرض بصفة خاصة. إذ يجب أن تكون الأرض لم يخدمها تلك هي إجابة بريخت عن السؤال الواضح في مقدمة دائرة الطباشير القوقازية وهو (من أحق بالأرض المتنازع عليها؟) … وهي إجابة تصلح لسؤال أعم وأشمل بملكية وسائل الإنتاج في النظام الرأسمالي الغربي. فتحولت هذه المسرحية إلى أشهر مسرحيات بريخت تعبيراً عن إطارها السياسي.
وكان المؤلف المصري يسري الجندي على وعى تام بهذه المشكلة التي حظيت باهتمام بريخت، وأنها لا تتناسب والبيئة العربية وقتئذ بعد صدمة 1967.
لذلك رفض يسري الجندي الاعتماد على الأصل الذي اقتبس منه بريخت، فقد عاد الكاتب إلى الأصول التراثية الدينية وخاصة ما جاء في حكاية (الملك سليمان) … وجاء على لسان جحا …
جحا: إيه هي المسرحية دى بقى …؟ مش حكاية الملك سليمان … واللى عمله عشان يعرف من هيه أم الواد الحقيقية؟ (المسرحية ص102)
التزام يسري الجندي بالموضوع …
لقد حاول الكاتب الالتزام بالخطوط الرئيسية لموضوع مسرحية بريخت، إلا أن يسري الجندي تعمد أن يستخدم إطاراً مصرياً وعربياً خالصاً، مستخدماً النمط الجحوى المعروف في البيئة المصرية والعربية، كنوع من تعميق التمصير في إطار من حكاية التنازع على الطفل ما بين (الخادمة بدر) و (السيدة زوجة الوالى) …
على الرغم من استخدام نفس الحكاية الواردة في دائرة الطباشير القوقازية وحفاظ المؤلف على الشكل الخارجي للحدوتة، إلا أنه لايمكن فصل الأحداث الجارية على الخريطة السياسية والاجتماعية لمصر فيما بعد هزيمة 1967 والصراع العربي الإسرائيلي عن أحداث المسرحية التي تبرز روح الإصرار على مقاومة الغزاة، لتبدو هنا صورة الأم بشكل أعمق حيث الوطن.
لذلك لم يبتعد يسري الجندي عن بريخت، ولو أنه ارتمى قليلا في حضن التراث وآثر الإبعاد الزماني وذلك باستدعائه لشخصية (جحا) وهو أحد منتجات البيئة العربية. فقد وجد جحا نفسه في موضع القاضي الذي لابد له من الحكم في قضية يعرفها جيداً (قضية الطفل المتنازع عليه) ولكن القاضي جحا يبحث عن قضية القانون وروح القانون قانون الأغنياء دون الفقراء، فبدأ يبث هموم الشعب في إصداراته وأحكامه الغريبة الرائعة، والتي بدت وكأنها حلم جميل بمدينة فاضلة تجعل (على مسكو) اللص الفقير مالكاً لنصف بستان حسن النبراوى التاجر الجشع تحقيقاً للأمن والعدالة، ومدينة فاضلة يدافع فيها شيخ المنسر عن الضعفاء من بطش الأغنياء.
إلا أن الحكم بأحقية بدر بالطفل فاق هذا الحلم الأكبر في مدينته الفاضلة. إذ أن بدر هي التي عانت وقابلت الأهوال في سبيل الطفل والسيدة زوجة الحاكم انشغلت بالملابس والأزياء الفاخرة لتنسى الطفل؛ ومن ثم وجب عليها أن تفقده إلى الأبد.
لتنتهي أحداث المسرحية بالحكمة الرائعة على لسان المجموعة، وكـأنه اعتراف جماعى واتحاد على رأي واحد.
المجموعة: الحياة لمن يستحقها ويدفعها إلى الأمام … الأرض للناس الذين يزرعونها … بالعرق والحب وصدق المشاعر … والكلمة لهم … لمن يقدس الحياة بعرقه وجهده ومشاعره … الحرية لهم … والقانون ليحميهم … في طريقهم الجميل الصعب من أجل اليوم والغد … والقادمين غداً (المسرحية ص194)
المسرحية بين الشكل والمضمون …
إن المضمون العام للمسرحية لم يختلف كثيراً عن الأصل عند بريخت، إلا أن الشكل أصابه بعض الاختلاف بمعنى … أن مسرحية بريخت تتألف من الاستهلال والفصول الخمسة، ومسرحية يسري الجندي (حكاية جحا والواد قلة) ألغى الكاتب الاستهلال وأبقى على الخمسة مشاهد.
فقد تعمد الكاتب تجاهل مشهد النزاع على الأرض في استهلال بريخت إذ أن النزاع العربي الصهيونى يفرض ظله على الأحداث ولايحتاج لمدخل أو استهلال، ولكن هو في أشد الحاجة للحل … كما ذكر جحا …
جحا: معدش وقت للفن يا حبيبى … الفن ما عدش ينفع … ماعدناش نقدر نستناه … لازم نقوم بسرعة، بالنبابيت … ماهم قاعدين بيقولوا من زمان عملوا إيه يعنى.
ممثل: يابنى أدم أنت فيه مسرحية من خمس مشاهد … ولازم حكايتها تبدأ من الأول. أنت جرالك إيه؟
جحا: وإيه هيه المسرحية بقى …؟ مش حكاية زى حكاية الملك سليمان … واللى عمله عشان يعرف فين هيه أم الواد الحقيقية؟ طب الناس دى عارفاها كويس فاكرينها. (المسرحية ص102)
بهذا الوضع الساخر يخترق جحا الأحداث ويسابق الزمن لاستعادة الحقوق المنهوبة، فالكلمات المعسولة والوعود التخديرية لن تجدى، لذلك كشف جحا اللعبة المسرحية، فالمهم هو مايجب أن يكون لا ما هو كائن بالفعل، وما يجب أن يعرفه الناس كي تحدث ثورة التغيير، وينمو الحس الإيجابى بقيمة الوطن الأم.
واستكمالاً لحذف ما لايتناسب مع البيئة المصرية وتعميقاً للجو المصري حذف يسري الجندي عناوين المسرحية الخمسة واستبدلها بالمشاهد الخمسة الواحد تلو الآخر يضمها جميعاً عنوان واحد وهو (ما السبيل إلى الخلاص) وهو عنوان مستتر بين طيات الكلام.
ومع الحفاظ على الإطار الخارجى للأحداث والمضمون الرئيسى للفكرة حاول المؤلف إضافة ما قد يراه مناسباً لتعميق مصرية الأحداث.
فقد أضاف وأفاض في مناقشة (قضية تطبيق القانون) ساخراً من الالتزام الأعمى بالقانون حيث الاهتمام بالشكل الظاهرى للقانون دون الاهتمام بالمضمون، ليتحول القضاء إلى جبة وقفطان القاضي وليس القاضي نفسه، المهم هو صالح الأغنياء دون الفقراء، المصلحة الفردية دون الصالح العام.
وتأكيد لتلك الفلسفة يحذف يسري الجندي حديث الجنود عن الحرب، والعديد من المناقشات عن الحرب والهزيمة والموعظة المستفادة منها، بل دخل بالأحداث في عمق البيئة العربية حيث الأسماء والأحداث، والمواقف خاصة عندما تتعلق بقلب الأم وعاطفة الأمومة.
نقل يسري الجندي شخصياته المسرحية إلى الجو المصري بشكل شديد الحساسية فبدت كل شخصية في مسرحية بريخت وكأن لها صورة مصرية في مسرحية يسري الجندي، مع احتفاظ كل صورة بخصوصية معينة.
فقد مَّصر الكاتب شخصية (أزدك) تلك الشخصية “الفريدة فيها المكر والذكاء، وفيها الجبن، فيها الحدب الشديد على المساكين من أهل طبقته، وفيها الخوف الشديد من بطش الطبقة العالية، فيها الأفكار الثورية والطاعة الرعديدة”([8]). تفوح من هذه الأوصاف مدى غرابة الأطوار التي تلتصق (بأزدك) ومن بين تلك المتناقضات تخير الكاتب شخصية (جحا) لتكون هي الصورة المصرية لـ(أزدك) في ظل العلاقة الوثيقة مابين جحا والإطار الشعبى المصري حيث “النمط الجحوى المنتشر في البيئة المصرية، فرغم أن هذه الشخصية ليست من منتجات البيئة المصرية، لكنها صناعة مصرية تشكلت وفقاً لظروف الحياة المصرية، ووفقاً للطباع المصرية”([9]).
قد التقط يسري الجندي هذا النموذج الجحوى من فترات شبيهه بالحاضر القاسى.
فبرز جحا وكأنه الهدف والوسيلة في نفس الوقت، ليفتح الستارة قبل موعد العرض وأثناء استعداد الممثلين لبدء العرض، مُّصراً على أن يبدأ دوره مع بداية المشهد الأول رافضاً تأجيل دوره إلى مابعد المشهد الثالث، وهو بذلك يعرى الحقيقة مبكراً جداً أمام الجمهور إذ أن مايتم تقديمه ماهو إلا تمثيل في تمثيل كاسراً إيهام المتلقى ليحقق التغريب البريختي كي يدرس المشاهد مايرى ويناقش بوعى تام، وهو بذلك يتواءم مع وظيفة الممثل البريختي، فهو يعبر عن رأيه ويحفز المشاهد على الموقف النقدى. فبدأ ينصح الممثل جحا جمهوره بعدم الخداع تحت مظلة الشعارات الكاذبة الداعية إلى الاشتراكية الزائفة أو ربما الديمقراطية المغلوطة في ظل تأليه الحاكم مما أدى إلى الهزيمة … حيث يقول جحا …
جحا: دى مؤامرة … الناس دى بيمنعوا عنكم جحا … بيمنعوا عنكم اللى لازم تسمعوه عشان يخدروكم بالحواديت (المسرحية ص110)
بهذه الطريقة يقدم جحا الأحداث ويسرد حكاية الطفل، يبدو أن “الموقف الجحوى عامة من السلطة وقضية العدالة وغياب القانون والفوارق الطبيعية لايختلف كثيراً عن موقفه منه في الأدب الشعبى، حيث يمثل جحا موقف الشعب من الإقطاع طوال القرون، وقد أدرك أن الإقطاع اصطنع ألقاباً وشارات تمنح أصحابها مزايا مادية ومعنوية بلا سبب معقول”([10]). وهو بذلك يسخر من الأوضاع وفقدان المعايير الصحيحة لتصنيف الناس طبقاً للعلم والعمل “إذ أن جحا لم يفتتن بما شاع في مجتمعه من التفاضل بمقدرة البعض على اكتناز المعادن والمجوهرات، لأنه كان يريد أن يكون التفاضل على شرف الخدمة العامة”([11]).
يتضح مما سبق مدى حلم جحا بإزالة الفوارق الطبقية من خلال الحكاية التي يستشهد بها دوماً وهي حكاية (بلاد فارس) والتي يرويها وهو شديد الفخر بالديمقراطية التي يحياها الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه عندما يكون للاسكافي والنجار والحداد نفس حقوق السلطان والوزير، ولكن وبنبرة ساخرة يقارن جحا الوضع الحالى للقضاء والعدالة حيث الفساد وميزان العدل المقلوب بأيام فارس السعيدة. فقد تحول القضاء إلى مجرد شكليات تتبع المصالح الشخصية، فالقانون في أجازة طويلة في ظل طغيان المصلحة الفردية. فيسعى جحا لتحطيم هذا القانون الذي يعلى من شأن الأغنياء ويتجاهل الفقراء فيحكم جحا لصالح اللص (على مسكو) بنصف بستان التاجر حسن النبراوى تحقيقاً للأمن والعدالة، ثم هو يتحيز إلى شيخ المنسر الذي يسرق الأغنياء ويمنع الفقراء، ثم هو يكمل دائرة العدل بأن حكم لـ(الخادمة بدر) بأحقيتها للطفل، فهي التي ربته وعانت من أجله الكثير على عكس أمه الحقيقية زوجة الحاكم التي تركته وهي مشغولة بزينتها وملابسها الفاخرة.
يبدو من هذا الاستعراض لشخصية جحا داخل المسرحية مدى وصف المؤلف على الحفاظ على الإطار الجحوى المعروف قديماً، واختراقه للواقع القاسى في فلك الصفات الرئيسية لشخصية (أزدك) وهي قابعة دوماً في الخلفية للأحداث.
مَّصر يسري الجندي شخصية (جروشا) وحولها إلى (بدر) تلك الفتاة الريفية القوية البسيطة، فهي مليئة بالحياة والجرأة والحب ونبل المشاعر، التقطت الطفل، ابن الحاكم تركته أمه في خضم بحثها الدءوب عن ماخف وزنه وزاد ثمنه من الملابس والزينة، فأخذت بدر الطفل وعملت على تربية ورعايته في ظل ظروف قاسية، وعندما انتهت الحرب عادت زوجة الحاكم للمطالبة بطفلها (الوريث الشرعى الوحيد) لينتهي الأمر إلى القاضي أزدك الذي يحاول فض النزاع مابين زوجة الحاكم وجروشا. والتي تحولت إلى بدراً كدليل على الجمال، إلا أنها سليطة اللسان وخاصة في دفاعها عن الطفل في مشاهد هروبها وفرارها به؛ حتي في الوصول إلى مرحلة النزاع أمام القاضي فلم تخشى القاضي أو حتي زوجة الحاكم وأوسعت الجميع ضرباً بالكلمات وتقريزاً بالجمل الخشنة التي تنبع من نمرة تدافع عن وليدها، لتفوز في النهاية بالطفل لجرأتها وقوة عاطفتها ودورها الحقيقى في رعاية الطفل، إذ أن بدر تريد للطفل أن يصبح إنسان بمعنى الكلمة، وما أن يعلن الحكم في قضية الطفل يقر المغنى المغزى الأخلاقى للقضية قائلاً …
المغنى : أن الأشياء ينبغى أن تعطى للذين يقومون عليها خير قيام وأيضاً ذكرت المجموعة حكمتها الخالدة …
المجموعة : أن الحياة لمن يستحق الحياة ويدفعها إلى الأمام والأرض للناس الذين يزرعونها … بالعرق والحب وصدق المشاعر
(المسرحية ص194)
وهكذا نقل يسري الجندي شخصية (جروشا) فحولها إلى (بدر) في الإطار المصري خاصة أن بدر تزوجت حسان وأخذت الطفل، في تغليب للعاطفة والأمومة التي خلقت من رحم المعاناة لـ بدر من أجل الطفل، لذا كان الحكم للأم التي ربت وعانت حتى إن شخصية الجندي سيمون ساشافا، وهو أحد حراس القصر، يعشق جروشا وكثيراً ما يغازلها مستخدماً التلميحات الجنسية الصريحة المعهودة على فن بريخت إلا أن الحرب سريعاً ما تفرق بين العاشقين فيذهب سيمون إلى الحرب وتذهب جروشا فارة بالطفل إلى ماوراء الجبل حيث أخيها هناك …
حول يسري الجندي هذه الشخصية إلى العسكرى (حسان) للدلالة على الحسن وكونه الأجدر بحب بدر الذي يغازلها.
حسان : (ينادى بدر مداعباً) مين البنت الوحشة اللى ماشية هنا دى؟ سلمى نفسك لحرس الوالى
بدر : (مبتسمة) بس يا عسكرى يابو ودان مطرطأه
حسان : جاية منين يابدر؟
بدر : فطار الوالى كان ناقص وزة
حسان : هو الوالى ده مش ناوى يفطر فول مرة ذى حالتنا … واللا يعنى الوالى ده بيشتغل إيه؟
بدر : لو الوالى فطر فول السلطان كان يعزله … يعلقه من رقبته على باب حارة يا عسكرى (المسرحية ص 111- 112)
بل وتبرز الفوارق الطبقية عبر هذا الحوار حيث الفجوة الواسعة مابين السلطة والشعب حتي في أبسط أمور الحياة (الطعام) وكأن (حسان وبدر) من جنس آخر غير البشر الذي ينتمى له الحاكم وأهل السلطة معه أيضاً.
يحاول يسري الجندي أن يؤصل مصرية حسان فدخل في مباراة كلامية مع جحا من خلال الأمثال الشعبية المصرية الأصيلة.
جحا: أيش ياخد الريح من البلاط … الواحد لو اتكل عليكم هيجوع … عاوزين الصراحة أه … لكن تدفعوا ثمن لها … لا
حسان: أصل ماعرفناش لسة التسعيرة
جحا: التسعيرة عند الجزار … للخضراتي تدفع عند الاسكافي … لكن القاضي لا ..
حسان: طب خلاص افتحها اسكافي
جحا: طب غرامة ريال يا واد ياقليل الأدب
حسان: بقى عاوز تمن يا مولانا … واللى يقدر يدفع ياخد الحكم … ويقولوا قاضي الغلابة
جحا: كنز في الخرارة ولانكلة في القناية ياس بعجر
حسان: ماهو قالو الكلب لو …
(المسرحية ص185)
يبدو من خلال هذه العبارة في الردح مابين جحا وحسان وبدر مدى مصرية الحوار والأحداث، وقد تأثر الكاتب بنمر الكوميديا المرتجلة حيث الردح والقفشات أو ربما في فن الأراجوز. لذا نقل يسري الجندي شخصية (سيمون) إلى البيئة المصرية بشكل عميق في شخصية العسكري حسان/ محبوب بدر الأم التي عانت من أجل طفل صغير لاحول له ولاقوة، إلا أن رحمة بدر جعلتها أماً دون إنجاب.
إلا أن (بدر) تقع فريسة للزواج من حرنكش وهو لدى بريخت (يوسوب)، هو الزوج المريض، أو هو المتمارض. وهو زوج جروشا وملاذها الأخير لسقف يضمها هي والطفل، ولكنه عندما يعلم أن الحرب انتهت يعود بحقيقته كشاب قوى جلد وسليط اللسان وغليظ القلب، لايتورع أن يتهم جروشا في شرفها، فهو جامد لايبحث إلا عن أيدى عاملة تساعده وتسانده في العمل في الأرض. وأحياناً في الفراش. حيث يقول…
يوسوب: أنه مكتوب في التقويم عندما “لقد خلقت المرأة الشقية للحق وفتح رجليها” اتفهمين…؟
(المسرحية ص147)
يؤكد يوسوب على قيمة المرأة المتدنية فهي جسد للشقاء وللفراش لاروح فيه ولاحياه حقيقية.
تحولت هذه الشخصية إلى (حرنكش) وهو اسم شعبى كوميدى يعمق من دائرة السخرية في الأحداث داخل إطارها الشعبى. يحافظ يسري الجندي على قصة الزوج المتمارض بحرص شديد، فقد عاش الرجل وادي دور المريض ليستيقظ بعد نهاية الحرب ليجد نفسه متزوجاً من (بدر) ثم يطرد كل من في المنزل، ويبدأ في محاكمة الأب على إهماله في فلاحة الأرض، ويوجه كلامه الجارح لبدر، إلا أنه لم يتعرض مباشرة للخوض في شرفها، فقد حافظ المؤلف على الإطار الأخلاقى، فلم يتعرض الزوج حرنكش لشرف أو سمعة بدر، إذ أنه لايشغل باله إلا بفلاحة الأرض فقط، وهذا ما يتناسب مع الجو المصري الشعبى الخالص.
شخصية ناتاليا ابشفيلى زوجة الحاكم … الأم / مقابل الأم
هي زوجة الحاكم والتي أنجبت الطفل. سيدة متسلطة ومغرورة لاتهتم سوى بالمظهر الخارجى. وفي خضم اهتمامها بزينتها وملابسها تركت وليدها أثناء الحرب لتأخذه جروشا الخادمة، وبعد أن انتهت الحرب عادت لتطالب بالطفل الوريث الوحيد لملك والده. وتبدأ قضية النزاع على الطفل مابين الأم التي أنجبت وتركت وليدها، والأم التي ربت وعانت من أجل الطفل الكثير من الصعاب والمخاطر.
نقل المؤلف هذه الشخصية بطريقة ذكية، فهي زوجة الوالى المغرورة ذات اللسان السليط. فهي ترمى كل من حولها بأفظع الكلمات وأصعب الألقاب.
ويبدو أن الكاتب قد حافظ على بذاءة لسان هذه المرأة منذ بداية المسرحية وهي تسب وتكيل الشتائم لخادمتها، ثم في النهاية هي تسب جروشا، بل وتتأفف من عامة الشعب وتستنكر رائحتهم المقززة بناء على تعليقاتها. وأشكالهم التي لاتروق لها. وهكذا ينقل المؤلف هذه الشخصية إلى البيئة المصرية والشعبية العربية وخاصة الردح الذي تميزت به طيلة المسرحية حتي وهي تحاول أن تستجدى القاضي جحا للحصول على الطفل. إلا أنها تفشل نظراً لأنها كاذبة، وتنجح بدر لصدق عاطفتها.
الحوار ينقل الصراع عبر السخرية…
حاول المؤلف أن ينقل البيئة المصرية بمؤثراتها الشعبية في حوار لايخلو من الخطابة، وربما إلقاء الموعظة والإطناب مستخدماً اللهجات الخاصة كوسيلة من وسائل الإضحاك، واستخدام أيضاً الأمثال والتعبيرات الشعبية في ظل استخدام خاص للقفشة والروح، وإطلاق الأسماء الهزلية على الشخصيات تعميقاً للجو المصري للأحداث.
لذلك سوف يعرض الباحث لكل من هذه الملابسات من خلال تمصير يسري الجندي للحوار كالتالى …
(1) الملاحاه أو الردح …
تعج المسرحية بألفاظ السباب والقذف، وكأنها مباراة في الردح لدرجة أن تحول الحوار في بعض المشاهد إلى مجموعة من الشتائم بأغلظ الألفاظ، وماتلك الوسيلة إلا طريقة لاختراق المؤلف للجو المصري الشعبى في حواراته عندما ينشأ نزاع مابين جانى ومجنى عليه وكلاهما يستخدم السب والقذف لتبرير موقفه خاصة وأن المسرحية منذ البداية ماهي إلا قضية نزاع وفض نزاع وربما تحولت إلى ساحة محكمة اختلط فيها الجانى والمجنى عليه والمتهم برئ حتي يعتدل القانون لدرجة تداخلت فيها الأدوار، وتبادلت وتحولت، لدرجة أن تحولت المبالغة في السباب وجزالة الألفاظ إلى نقطة ضعف المسرحية في بعض المشاهد التي تشيع فيها المبالغة بشكل بارز.
ففي البداية يفتح (الممثل القائم بدور جحا) الستارة مبكراً جداً ويبدأ في أداء دوره متجاهلاً باقى أعضاء الفريق وهم مازالوا في حالة التجهيز للعرض. لتنطلق عليه الألسنة بالعديد من ألفاظ السب والقذف … قائلين …
آخر: عايزين نعرف من حيوان عمل كده …
ممثل: الممثل المجنون اللى واخد دور جحا … (المسرحية ص100)
تفوح منذ اللحظة الأولى مدى غلظة الألفاظ والبذاءة المعروف بها جحا، وبدأت الألفاظ تتوالى عليه والأوصاف القبيحة تلتصق به، إلا أن جحا هو الآخر بادلهم السباب فدارت معركة كلامية اخترق من خلالها المؤلف أحداث مسرحيته من خلال جحا الذي يزج بحكاية زوجة الوالى التي تريد إزالة عشش الغلابة لبناء قصر فخم لها ولم يتحرك ساكن لهذا الأمر، حتي المؤلف لم ينتصر للغلابة، وكان لسان حال جحا يقول أن المؤلف يكتب للأغنياء فقط فمن شدة بؤس الفقراء أنهم مساكين حتي فوق الورق.
جحا: ليه محدش يرد على أولاد الكلب دول … لازم حد يقول حاجة هنا … آل شيل يا حسن شيل … لازم حد يتكلم …
ممثل: اسكت أنت … المؤلف ماكتبشى حاجة للناس هنا … المشهد هو كده
جحا: هنا بقى المؤلف عاوز يفوت بسرعة، طب على الطلاق بالتلاتة المؤلف ده له مصلحة هو كمان عند الوالى
(المسرحية ص108)
لكن بذاءة لسان زوجة الوالى فاقت الحد، فها هي توزع الإهانات والألفاظ النابية على الخدم أثناء انشغالها في جمع أكبر قدر من الحلى والملابس الفاخرة للفرار من وجه الحرب. فتنادى إحدى الخادمات بكلبة، وأخرى بحمارة لتتحول لغة هذه السيدة إلى ذم وسب، كما يؤكد ذلك خادم الخان في لهجة شديدة السخرية قائلاً …
الخادم: ممكن حضرتك تمسكي لسانك الزفر … لأن عسكر السلطان الحصين قريبين … فإذا كان صاحب الخان نصاب … انتم حرامية عايشين طول عمركم على السحت
السيدة: كلاب (المسرحية ص124 -125)
ويتضمن الردح والملاحاه أيضاً بعض من التلميحات الجنسية لاستدرار الضحك وإثارته … إذ أن حرنكش الزوج المتمارض … عندما يفيق من غفوته وسباته الاختيارى يوجز دور المرأة (بدر) في العمل في الأرض والجسد في الفراش عبر مجموعة من الألفاظ الوقحة القاسية على قلب بدر المسكينة.
ثم ينتقل المؤلف إلى مشهد آخر يبرز تلميحات جحا الجنسية في الحديث الموجه لبدر، عندما يصفها بالغباء والتسرع والوقاحة بدلاً من استمالة القضاء عبر هز أردافها الجميلة أمامه لعل القاضي والقضاء يتخذ موقفاً مسانداً لها.
وبتلك الطريقة من الفعل ورد الفعل خرج الحوار الذي يحمل ملامح الردح والملاحاة وإبراز اللسان السليط لبعض الشخصيات، وخاصة بدر في دفاعها عن الحق في الطفل وهي تقول …
بدر: يا قاضي جحا … انت ما تفهمشى في القضاء أكثر مايفهم الجزمجى
جحا: صح
بدر: أنت راجل ضلالى مالكش ذمة … وربنا يخرب بيتك لأن الداية لما شدتك من بطن أمك ماكنش عشان تيجى تذل الغلابة أكثر ما هم …
(المسرحية ص186)
وهكذا يبدو من الحوار مدى استغلال المؤلف لوصلات الردح تأكيداً وتعميقاً للجو المصري وخاصة الشعبى منه، فخرج الحوار مصرياً خالصاً على الرغم من أن النص في الأصل هو معد عن دائرة الطباشير القوقازية ذلك النص الألمانى لكاتبه بريخت وظروف عصره المختلفة، إلا أن يسري الجندي استخدم، الأمثال الشعبية والتعبيرات الشعبية، ليضعها في خدمة قضية الأم الحقيقية…
ففي البداية وعلى لسان إحدى الممثلات والتي تستنكر فعله جحا وتقول معبرة …
ممثلة: قطيعة تقطع اللى قاله يعمل فيها ممثل ياشيخ
(المسرحية ص100)
وتشير هذه الجملة الاعتراضية الشعبية إلى عدم اعتراف واحترام الممثلة لجحا أو القائم بدور جحا، بل ولكل من سانده في الدخول إلى مهنة التمثيل، فقد وصلت لمرحلة الانفجار بأن قالت (ياقهرتي ياولاد) كناية عن شدة الغضب، ولكن جحا لم يلتزم الصمت بل بدأ في الرد.
جحا: كل من عرف يسف ويتشعبط على أكتاف الخلايق
(المسرحية ص104)
حاول المؤلف تعميق الأثر الواضح للتعبيرات الشعبية من خلال موقف شديد السخرية هو محاولة تزويج (بدر من حرنكش)، فقد بدأت العجائز في غناء وكأنه نحيب على ما كان وما سيكون …
العجائز: (في غناء جماعى) البت قامت والمعزة نامت … إيه العبارة ولاحد قاللى تعالى ياللى … ورا الستارة … واهي بس هيصة قايمة تماللى … فقعة المرارة (المسرحية ص140)
وعبر هذا الغناء العجائزى الساخر تبرز فحوى الموقف؛ ومن ثم تؤكد الجماعة أن الحال (كله ألسطة) كدلالة على الرضا العام.
وينتقل الحوار إلى مشهد آخر هو المشهد الرابع، حيث مشهد دخول جحا، صاحب التعبيرات الخاصة والخالصة، خاصة في حواره مع الرجل المتخفي في زى شحاذ فها هو جحا يسدى له النصح كي لا يقع في قبضة رجال الشرطة قائلاً …
جحا: ماتقلش اشكرك ولاهباب .. لاحسن تتفقس … لازم تمثل الفقر مظبوط …
(المسرحية ص156)
يؤكد جحا ومعه الكاتب على أن الالتزام بالإطار الشعبى وبالكلمات النابعة من القاع تعد سبيلاً للخروج من الأزمات، بل وهي تعد طوق نجاة أحياناً إذ أن كلمات السلطان المتخفي الرسمية من شأنها أن تكشف أي قناع للتخفي، فتحولت الكلمات إلى قناع في يد جحا للتحايل على الناس والقانون، ولكنه تحايل إيجابى مقبول لا ضرر منه، ينبع من قلب وعقل إنسان يشعر بآلام الآخرين ويشاركهم في الهم والحزن ولكن بطريقته الخاصة الطريقة الجحوية، لذلك لم ينفصل يسري الجندي عن هذه الطريقة أبداً، حتي وهو يستغل الأمثال الشعبية التي جاءت على لسان أزدك في مسرحية بريخت وهي أمثال محلية الصنع …
سيمون: إن المثل بيقول … لما جاءوا لتنعيل الفرس مد أبو جعران رجليه
أزدك: كنز في الخرارة خير من حصوة في النبع
سيمون: يوم جميل … أفلا نذهب للصيد … هكذا قال الصياد للطُّعم
أزدك: أنا سيد نفسى … هكذا قال العبد وقطع رجله
سيمون: إننى أحبكم محبة الواحد، هكذا قال القيصر للفلاحين وأمر بقطع رأس ولى العهد
أزدك: أعدى أعداء المجنون نفسه
سيمون: ولكن الفساد لا أنف له (المسرحية ص 224-225)
هكذا يبدو من هذه العبارة مابين أزدك وسيمون مدى معرفة كلا منهم بحقيقة الصراع، وحقيقة الوضع القاسى للناس، لذلك استخدم يسري الجندي العديد من الأمثلة التي تفوح منها رائحة المواطن البسيط ولكنه المواطن الذي يعى كل شيء ولايملك أي شيء، فها هو جحا يخلع كل الأقنعة عن القضاء الفاسد ومضى حال الشعب مع الفقر …
جحا: ايش ياخد الريح من البلاط (المسرحية ص 185)
إلا أن حسان يوسعه قذفاً بالكلمات الساخرة من التشدق بالكلمات التي توحى بمساعدة الغلابة … إلا أن جحا كان أكثر صراحة، صراحة تصل لدرجة الوقاحة … فيقول …
جحا: كنز في الخرارة ولانكلة في القنايا ياس بعجر
حسان: ماهو قالو الكلب لو … (المسرحية ص185)
يبدو أن المؤلف قد تعمد الغور داخل أعماق البيئة الشعبية المصرية كي يستخرج منها مايروق له لتعضيد الحوار، وصولاً للصراحة. التي وصلت بجحا إلى أن يحكم لكل فقير ومظلوم ضد كل ثرى ظالم، مما جعل السلطان المتخفي في ذى شحاذ ينزع كل الأقنعة ويؤكد تعيين جحا في القضاء لحاجة البلاد لصراحته وأحكامه العادلة …
السلطان: لا استمر في طريقك … لك منى قنديل الأمان … اعمل قانون الغلابة …
جحا: ياريت يامولأي … ده معنى كده إن كل حاجة تقف على رجليها بدال ماهي واقفة على دماغها.
وهكذا غاص جحا ومعه يسري الجندي في عمق الجرح الغائر وهو أن كل شيء في البلد في وضعه المقلوب، ذلك الوضع العبثى الذي لابد من اعتداله كي تعتدل الأمور، لذلك كان الحكم للطفل (لـبدر) الأم التي خافت وأخذت الطفل وعانت من أجل تربيته والحفاظ عليه، الأم التي أنجبت وتركت الطفل من أجل جمع المال.
(التقنيات الملحمية في مسرحية حكاية جحا والواد قلة)
كان المسرح الملحمى مقترناً بالفكر الاشتراكي، وكانت مصر في فترة الستينات تموج بالأفكار الاشتراكية، فكان طبيعياً أن يلفت هذا الأسلوب نظر المؤلف المصري. وكان الكاتب يسري الجندي بالذات واحداً منهم …: إلا أن ملحمية الستينات ليست طبق الأصل للملحمية البريختية، فاللمسرح المصري تقاليد مختلفة، وقدم المؤلف المصري هذا اللون من الملحمية بما ينسجم مع الجمهور المصري وخاصة في مسرحية (حكاية جحا والواد قلة) بما تحتويه من صفات المسرح الشعبى عبر الثنائيات الكوميدية ومخاطب الجمهور مع الاعتماد على المنولوجات في مواقع عدة من المسرحية بالإضافة إلى المواقف الهزلية المأخوذة عن المسرح المرتجل، والتي تعج بها المسرحية “ولكن يصح القول بأننا في تجربتنا الملحمية في الستينات وضعنا الدراما الشعبية في إطارها الصحيح، وفي موقعها السليم، فباختصار أن الذي حدث هو أننا تثقفنا وثقفنا التجربة معاً”([12]).
من عمق التجربة الشعبية للدراما يبزغ يسري الجندي، ذلك المؤلف الجديد آنذاك متلمساً لمدرسة بريخت في نص مسرحى أعده عن (دائرة الطباشير القوقازية) في إطار لعبة التمصير التي جربها قبله العديد من الكتاب المصريين والعرب.
بدأ يسري الجندي في تحرى الشكل البريختي الذي وجده مناسباً لتجربته المسرحية على وجه الخصوص، ومناسباً للوضع في مصر بعد صدمة 1967 بشكل عام.
لذلك سوف يرصد الباحث بصمات التقنية البريختية على النص المسرحي (حكاية جحا والواد قلة).
(1) الالتزام بالشكل المفتوح في البناء المسرحي …
شيد يسري الجندي البناء المسرحي على أساس خلايا أو لبنات منفصلة في الظاهر على الأقل ففي المسرحية توجد قضيتين تتوازيان حيناً، وتتفاعلان حيناً، فقد سار المؤلف على نهج بناء (دائرة الطباشير القوقازية) ليقدم مشكلة تؤرق مجموعة من الممثلين وهي أن أحد الممثلين قد قام بفتح الستارة قبل الموعد المحدد لها. تلك المشكلة الأولى ولها مالها من مناقشات عن أهمية بدء المسرحية تبعاً لرؤية كاتبها وفي هذه الأثناء يزج المؤلف بالمشكلة الثانية وهي أكثر اتساقاً في صورة حكاية النزاع على الطفل مابين الخادمة بدر وزوجة الوالى، لتتمخض عن هذه المشكلة حل للمشكلة الأولى في إطار دائرى عبر مجموعة من الحكايات الفرعية والتي تفضح الوضع السياسى لمصر وخاصة بعد صدمة 1967.
لذلك انتقل يسري الجندي بحرية من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر، فقد تردد المؤلف بين الحاضر والماضي.
وهكذا يبدو الشكل المفتوح في البناء المسرحي وهو شكل ظهر بشكل بارز عن الرومانيين قبل أن تتبلور نظرية بريخت، كما نجده فيما بعد عن كتاب اللامعقول، ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن تبنى الشكل المفتوح وخاصة من حيث الزمان والمكان عند الرومانيين يعود إلى التمرد والثورة على المألوف، وعلى قواعد الفن الأرسطى، وأن تبنى كتاب اللامعقول له يعد تعبيراً عن إحساسهم باستحالة العالم وعبثية الحياة. أما عند بريخت فإن الأمر يختلف تماماً لأن الشكل المفتوح بالنسبة إليه ضرورة حتمية يفرضها تطور الحياة، أي أن الشكل المفتوح هنا يصبح تأكيداً للالتزام لا نفياً له، وهو بالضبط ما نجده عند كتابنا المسرحيين المتتلمذين على بريخت”([13]).
يبدو أن الاهتمام بالشكل المفتوح يعد أحد الدروس الهامة التي يجيدها يسري الجندي وخاصة أنها تساعد على كسر إيهام المتلقى لنفي أي اندماج، حيث أن الانتقال مابين الزمان والمكان بحرية شديدة يخلق نوعاً من حرية التأمل وإعمال الفكر النقدى لدى المتلقى؛ ومن ثم البدء في إصدار الأحكام الواقعية.
وقد التزم المؤلف بتقطيع المسرحية إلى أجزاء كل جزء يحافظ في حدود معينة على قدرته الحياتية كما أشار بريخت كثيراً، وضم الكاتب كل تلك الأجزاء في نسيج درامى واحد، وحتي وإن لم يستخدم عناوين كما استخدمها بريخت، ولكن اكتفي يسري الجندي بالتقسيم إلى مشاهد لايشترط فيها أن تكون معنونة متسلسلة بل هي متكاملة، تخدم بالفعل قضية (الأم) التي تعتمد عليها المسرحية بشكل واضح لدرجة أن كل جزء يصل ويكمل الآخر وصولاً لحكم القاضي للأم بابنها.
(2) الراوى …
من أهم الوسائل الملحمية التي اعتمد عليها الكاتب وخاصة في تقطيع الحدث كأن يظهر الراوى من حين لآخر ليوقف مجرى الأحداث. واستعاض الكاتب بالمغنى عن الراوى والذي جعله ينطق بالحكمة والأمثال الشعبية العربية والواقعية المصرية السردية المعهودة في رواة السيرة الشعبية، فالمغنى يسرد الأحداث ويعلق عليها، ويثير حفيظة المتلقى عبر مخاطبة الشخصيات والجمهور أيضاً “ليحدث تحطيم الخداع المسرحي، وعدم تمكين النظارة من الإحساس بأن شخصية من الشخصيات المسرحية تمثلهم وتعبر عنهم خاصة وأن هدف بريخت الأوحد هو أن يحفز الجمهور إلى التفكير”([14]). يحاول المؤلف أن يحول دون غرق المتلقى في خضم الأحداث، ليبدأ المغنى في دور الراوى.
وقد اختار الكاتب البداية من لحظات الهدوء، الهدوء الذي يسبق العاصفة، وكأنه يقدم لما سوف يحدث، لكنه يقدم مابين السطور أن تلك الحالة من السعادة لن تدوم كثيراً، إلا أنه هدوء مؤقت وسعادة زائفة سرعان ما انقلبت الأمور وحدثت الثورة وقتل من قتل، وفرت بدر بالطفل (محور النزاع) وخرجت به كي تبدأ قصة أخرى. يبدئها الراوى (المغنى) ويقوم بعمل لمسة النهاية أيضاً. فبرز المغنى وكأنه مخرج لعرض مسرحى يوزع الأدوار وسيشرح ماهية كل دور وطريقة تنفيذه وزاد على هذا الدور الاشترك في الأحداث بالتعليق وفعل الحكي.
لدرجة أن المغنى يعمق من وعى المتلقى بما يجرى، ويساعده على فك رموز الأشياء والإيماءات، كاشفاً سر اللعبة أمامه عبر كشف النقاب عن الحقيقة القاسية التي يحيا بين جنباتها الشعب المسكين … فيقول …
المغنى: كانت زوجته هي المالكة لكل شيء … كان مسكيناً شأنه كل من لايملك مع من يملك … كان أشبه بأجير … ولكن كان عليه في النهاية أن يؤديها في المخزن . (المسرحية ص137)
لقد منح يسري الجندي المغنى حرية قوية جعلته يكشف الحقائق، ويستثير المتلقى كي يبعد عنه أي اندماج، أو الوقوع في شرك المخدرات الاجتماعية التي وقع في شركها العديد من أفراد الشعب خاصة بعد النكسة وقبلها أيضاً.
(3) الأبعاد الزمانى …
يروى المسرح الملحمى الأحداث أكثر مما يشخصها، دون أن ينطبق هذا على الأحداث التاريخية التي مضت وانتهت، بل ينطبق أيضاً على الأحداث الراهنة الواقعية عن طريق دفع تلك الأحداث قدر الإمكان إلى الماضي، وإبعادها زمانياً، خاصة وأن المسرح الملحمى يعتمد على تسلسل الأحداث أو حوادث مروية بدون تقيد مصطنع بالزمان أو المكان، كما يجب ألا تتعاقب المواقف دون تمييز، بل يجب أن تترك الفرصة كاملة للحكم عن طريق المقارنة بين الأحداث في الماضي والحاضر، لذلك بدأ يسري الجندي متخذاً من الإبعاد الزمانى كوسيلة ملحمية أداة لينة مرنة في يده لنفي أي وهم واندماج كي يقع المتلقى في شركه. وقد حدث هذا الإبعاد مبكراً جداً، عندما فتح جحا الستارة مبكراً وتسرع في البدء في تمثيل دوره قبل الموعد المحدد له، ليتقدم الممثلين في ثورة وغضب شديد مابين ثورة وغضب باقى أعضاء الفرقة وإصرار جحا على البدء بدوره نظراً لأهمية دوره في الأحداث.
وقد لجأ المؤلف إلى الإبعاد الزمانى كي يتيح للمتلقى مساحة ليقارن ويفكر، ثم يتخذ القرار المناسب من أجل التغيير. فاستدعى شخصية جحا بنمطها الشعبى المعروف كي يخترق بها الأحداث الملتهبة بعد صدمة 1967، ولم يكتفي بذلك بل جاء بشخصية (المؤرخ ابن إياس) لبدء فعل الحكي، الحكي الداخلى، فيبدأ جحا في التهكم والسخرية من الاستعانة برجل يحكي أحداث حدثت بعد وفاته بألف عام، وكأن الكاتب يشير إلى انعدام وجود من يؤدى دوره، كإشارة إلى التدهور الذي أصاب الواقع المصري.
يستخدم المؤلف الإبعاد الزمانى مرة أخرى عندما يستدعى جحا حكاية بلاد فارس كنوع من الحلم بواقع أفضل، الحلم بمدينة فاضلة في ظل المقارنة الخطية مابين أحداث الماضي والحاضر وبينهما الواقع الحياتي بمتغيراته المختلفة.
إن السعى إلى التاريخ لتفسيره من جديد كمادة درامية من أهم أساليب بريخت لتحقيق التغريب، وذلك لصعوبة اندماج المتلقى مع شخصياته ومواقف تتعلق بزمن مضى، ليتراجع الحدث عن مجرى الواقع اليومى المألوف ويظهر كما لو كان شيئاً غريباً … وعلى نفس المنوال سار يسري الجندي ساعياً نحو كسر الإيهام عن طريق الأبعاد الزمانى عندما استدعى شخصيات من التاريخ أو المأثور الشعبى ليسقط الواقع المعاش عليها.
(3) التناقض …
يعد التناقض من أهم سمات المسرح البريختي، وكثيراً مالعب بريخت بالتناقض في العديد من أعماله المسرحية، ففي (دائرة الطباشير القوقازية) قد أخذ التناقض بعداً أكثر عمقاً وأكثر اختلافاً فها هي جروشا الخادمة طيبة القلب ترى الطفل ابن الحاكم الذي تركته أمه في عز انشغالها بجمع ما طاب لها من ملابس وزينة فهمت جروشا بأخذ الطفل، إلا أنها حكمت العقل فترددت في أخذه خوفاً من رجال الشرطة، لأن الطفل سوف يتحول إلى السيف الذي سوف يقطع رقبتها، إلا أن للقلب رأي آخر كما قال بريخت (إغراء الطيبة كان أقوى) بالفعل إغراء الطيبة أصبح شديد بل وأشد من أي شيء، لتأخذ الطفل وتهرب به.
وعلى نفس الحس والتداخل بين مشاعر الخوف والإقدام والإحجام تتردد (بدر) في (حكاية جحا والواد قلة) في أخذ الطفل أو تركه خوفاً من تبعات هذا الطفل، ولكن إغراء الطيبة كان أقوى من أي إرادة أخرى، فأخذت بدر الطفل، لتبدأ رحلة مواجهة الأهوال والصعاب من أجل طفل ليس وليدها ولكنه تحول إلى ذلك، وهنا تبدو الأمومة في أدق صورها.
وعلى هذا التناقض شيد يسري الجندي مسرحيته متخذا من شخصية جحا محوراً لتأكيد هذا التناقض، ففي البداية هو ممثل يكشف سر اللعبة المسرحية، ثم يعود مرة أخرى إلى الأحداث عبر شخصية جحا المعروفة والمليئة بالمتناقضات حيث (الشجاعة والجبن والغباء والذكاء الإقدام والإحجام). فهو مواطن فقير يسرق ليأكل فقط، وهو جرئ ماكر عندما يأوي لص من أعين الشرطة، وهو طيب القلب ينتصر دوماً للغلابة، حتي لو قلب القانون كي يتماشى مع الوضع المقلوب والعشوائي للناس.
“يبدو أن بطولة جحا كما يراها المؤلف تكمن في تصديه لاختيار الأفكار الخطرة، وفي استعداده لاحتمال الإجابة أياً كانت، حتي إذا كانت تنطوى على أن يتعرض للضرب أو حتي السجن والشنق، هو بطل يعرف مصيره طوال الوقت، ويخوضه بعيون مفتوحة”([15]). هو القاضي المزيف الذي يحكم للفقراء، وهو القاضي المنافق الذي ينافق الأغنياء، وهو القاضي الحقيقي الذي مازال يحيا حلم المدينة الفاضلة، وحلم تحقيق العدالة المفقودة إلى أن يتم تعيينه فعلاً من قبل السلطان في منصب القضاء ليخترق الفساد والمتناقضات بأحكامه التي خرجت أشد تناقضاً. والتي من شأنها أن تلغى أي اندماج لدى المتلقي الذي يرى التناقض أمامه وهو يعلم ذلك، يعلم السبب والنتيجة معاً.
وبالتالي تحول التناقض في المسرحية إلى شخصية درامية تنفي أي اندماج قد يحدث مابين المتلقي والأحداث، فالمتلقي دوماً يعي أن هناك شيئاً آخر غير الذي يراه، فهو دوماً يتأهب لسماع شيء مختلف، أو حدوث شيء أكثر تناقضاً مع مايدور أمامه.
النزعة التعليمية والإطار العاطفي للأم:
لقد شدد بريخت كثيراً على ضرورة التعليم والاستفادة من المسرح ونبذ علم الجمال الكلاسيكي “ودعا إلى علم جمال خاص بمنطق جدول الضرب الذي يلائم عصر العلم”([16])، وظل بريخت مخلصاً للتعليمية حتي في المرحلة الملحمية ولعل (دائرة الطباشير القوقازية) خير مثال، خاصة في تحويل الطرح من إطار لإطار حيث تحويل الصراع كله إلى مجرد صراع من أجل طفل، من أجل أمومة بدر الراقية الرقيقة
وفي (حكاية جحا والواد قلة) ينقل المؤلف المتلقي إلى مجموعة من الممثلين في مرحلة الإعداد لبدء العرض المسرحي، إلا أن أحدهم وهو القائم بدور جحا يفتح الستار ويبدأ العرض مبكراً جداً، ويبدأ في إلقاء الدروس عبر مجموعة من الحكم والأمثال والقفشات في إطار تعليمى فج إلى حد كبير … حيث يقول …
جحا: (وهو يخاطب الجمهور) دى مؤامرة الناس دى يمنعوا عنكم جحا … بيمنعوا عنكم اللى لازم تسمعوه يخدروكم بالحواديت … أنا اتهم المؤلف أمام الله والناس، أنا أتهم المخرج أما العالم والتاريخ … حد فيكم يتحرك … طب بتهمكوا انتو … كمان أنا راجعلكوا … أنا هوريكم
(المسرحية ص110)
هكذا يعرض جحا لأول الدروس، إذ القوة الغاشمة عندما تضع الحدود والحواجز أمام كل رأي وصوت جرئ وكأن جحا يستغيث، ولكن لايوجد أي مغيث وتتوالى الدروس التي يلقنها يسري الجندي لمتلقيه في هذه المسرحية الحُّبلى بالمعانى، والثرية بالدروس والتي قد يتم تأويل دروسها تأويلاً مختلفاً من خلال زخم حوارها الرشيق إلى أن يغرس الدرس الأكبر والأهم على لسان المجموعة التي أعلنت الحكم النهائى في قضية النزاع …
المجموعة: الحياة لمن يستحق الحياة ويدفعها إلى الأمام … الأرض للناس الذين يزرعونها … بالعرق والحب وصدق المشاعر … والكلمة لهم … لمن يقدس الحياة بعرقه وجهده ومشاعره … الحرية لهم والقانون ليحميهم في طريقهم الجميل الصعب من أجل اليوم والغد … والقادمين غداً
(المسرحية ص194)
يتضح أن لهذه المسرحية رسالة ذات معنى عميق، يسعى مؤلفها لعرضها عبر الحدث والحوار، وخاصة أن المؤلف واضح الرؤية يدرك جيداً مايريد توصيله للجمهور، ولهذا فهو يسير في خط مستقيم على غرار بريخت في مرحلة التعليمية.
لذلك لايمكن تجاهل أهمية الدرس التعليمى في نفي أي اندماج للمتلقى في الأحداث تحقيقاً للتغريب البريختي عبر النزعة التعليمية وخاصة ” عندما تنشأ متغيرات جديدة في المجتمعات من الثورات والحروب، فإنه من الطبيعى أن تنتشر مجموعة من المفاهيم، وتنشأ مفاهيم جديدة، وتختفي في المقابل مفاهيم أخرى، ولما كان من الضرورى ترسيخ هذه المفاهيم الجديدة وإلغاء مفاهيم قديمة، لذا ظهر المنهج التعليمى كمنهج يلتصق بالواقع وينقده ويقومه”([17]).
وقد اتبع يسري الجندي نفس هذا الإطار للخروج بالدرس التعليمى عبر مسرحية (حكاية جحا والواد قلة)، ولعبة الأم الحقيقية والأم المزيفة، إلا أن الأم المزيفة بدر تنتصر في النهاية، فهي التي عانت وتعرضت للمخاطر من أجل الطفل.
البانتوميم وصمت الإقدام والإحجام لدى الأم:
لجأ يسري الجندي إلى البانتوميم كأحد الوسائل الملحمية المعروفة في مسرح بريخت، ساعياً نحو دفع المتلقى إلى التفكير لا إلى الاسترخاء، إذ أن كل حركة وكل كلمة تحمل العديد من المعانى العميقة في ذهن الإنسان فقد يؤدى الصمت دوراً ورسالة ذات أهمية بالغة.
تحرى الكاتب البانتوميم داخل المسرحية في أكثر من موضع تحقيقاً للتغريب ولكن مشهد جروشا وهي في حالة تردد حول أخذ الطفل من عدمه “فكان المشهد روعة في ضبط النفس ولم تكن هناك أي شائبة من شوائب العاطفة الرخيصة. فتغريب أو غير تغريب، أهذه لحظة عواطف؟ إن هذه لحظة اختيار بمعناه السارترى لحظة اختيار بشعة: امرأة معدمة تقريباً هاربة إلى الجبل في فترة حرب، هل من السهل عليها أن تأخذ عبئاً على عبء نفسها، لأن الطفل صعب عليها. أنها لم تأخذ هذا الطفل إلا قصراً عنها. فقد كان مصيبة حاولت أن تدفعها عنها، ولكن كما قال الراوى (إن إغراء فعل الخير كان قوياً). وتأخذ الطفل كأنها سارقة لابطلة سيما تقوم بعمل يسترضى المتفرج”([18]).
هكذا يبدو تداخل المشاعر والانفعالات مابين الإقدام والإحجام، الهروب بالطفل أم تركه يلقى مصيره المشيءوم، إلا أن (إغراء الطيبة) على حد تعبير يسري الجندي كان أشد وأقوى. إلا أن هذا التردد الذي وقعت فيه جروشا في دائرة الطباشير وبدر في مسرحية حكاية جحا والواد قلة من شأنه أن يخلق مسافة مابين المتلقى والحدث، مسافة تتيح له التفكير النقدى بحس جدلى بعيداً عن أي محاولة للاندماج.
بهذا المفهوم يستمر المؤلف في مشاهد البانتوميم الخاصة ببدر حيث مشاهد الهروب والغناء والحوار بالطفل ومع الطفل، وكأنها تلقى عليه الوصايا وهي أنه لايجب أن ينتمى إلى عالم الأغنياء القساة أو عالم الفقراء المسكين ولكن لابد له أن يصبح فارس شجاع يأخذ الحق في إطار من القيم والعدالة وخرج هذا (الحوار الصامت) وكأن بدر تخاطب الجمهور، ليتم كسر حدة الحدث، ونفي أي إحساس بالاندماج قد يتسرب للمشاهد.
وهكذا يبدو أن البانتوميم كوسيلة بريختية تدفع المشاهد نحو التغيير كما سعى إلى تحقيقه يسري الجندي وبريخت بالطبع من قبله.
تغريب اللغة …
“إن تغريب اللغة هو انتقال من مستوى الخطاب من درجة في الوضوح إلى أخرى، فهو يكسر الإيهام ويدعو المشاهد إلى التفكير ملياً في الكيفية التي تتحدث بها الشخصيات”([19]).
يلجأ يسري الجندي إلى اللغة كوسيلة من أهم وسائل التغريب، من خلال الدور الهام الذي لعبته اللغة كوسيلة ملحمية خاصة ذلك الخلط المتعمد مابين الفصحى والعامية الركيكة، بل واستخدام ألفاظ نابية من سب وقذف، وربما أيضاً استخدام الردح والقفشات في أكثر من موضع. كما أشار الباحث سابقاً..
لكن هذا الاستخدام الخاص لعامل اللغة يعمق من كسر حدة الحدث، ونفي أي اندماج من خلال اللغة التي تحيل المتلقى إلى شخص آخر يعى الحقيقة، ويعى أن مايقدم ليس واقعاً، بل هو مجرد تمثيل؛ ومن ثم تنمو لدى المشاهد القدرة على تكوين الرأي المناسب للوصول إلى مرحلة التغيير الحقيقى لسير الأحداث القاسية.
وقد ساعد النسيج اللغوى في المسرحية “ونبرته المهمومة الجادة في تغليف الجو التاريخى والأسطورى بظلالة من الكآبة، وتوقع المصير الذي يسرى في وجدان المتفرج فيرى أنه لافكاك من المواجهة، والدخول في مرحلة التغيير الجذرى”([20]). للأوضاع المقلوبة التي يجب أن يتم تصحيحها كي لاينهار البنيان كله. خاصة وأن التغيير أصبح ضرورة تقتضيها ظروف البؤس والفقر وحالة فقدان الأمن. والتي عبر عنها جحا عبر كلماته المغلفة بالسخرية على طول الخط.
استخدام الحجة لصالح قلب الأم:
من المعروف أن المسرح الملحمى يعمل بالحجة مقابل المسرح الدرامى الذي يعمل بالإيحاء “فإن المسرح الملحمى العربي هو الآخر يحترم هذه الطريقة، ويلتزم بها أغلب الأحيان، ولهذا نرى مسرحيينا الملحميين لا يكتفون باتخاذ الحوار وسيلة من وسائل دفع حركة الصراع إلى القمة أو النهاية على نحو ما نجد في المسرح الأرسطى، ولإنما يتخذونه وسيلة للإقناع بفكرة ما أو إثارة إدراك المتفرج واستفزازه”([21]).
يقدم يسري الجندي لوحة تمثل مجموعة من الممثلين في حالة استعداد لبدء العرض ومن داخل اللوحة يبرز الممثل (جحا) ويفتح الستارة مبكراً، بل ويبدأ في التمثيل ويناقش أهمية المسرحية، ويدخل في محاولة لإقناع باقى أعضاء الفرقة بأهمية دوره في المسرحية، ويتوجه بالجدل إلى الجماهير لاستثارتها كي يسمعوا ما يجب سماعه، وفي ذات الوقت يثور المتلقى ويتبين له أنه على حق إذا ثار وعلى حق إذا طالب أن يعرف ماله وما عليه كبداية لثورة التغيير … حيث يقول جحا مؤكد ذلك …
جحا: أيوه أنا عاوز الحق، عاوز الحق الناس دى … عاوز أعرف البلاليص أنهم بلاليص، وأعرف الحرامية أنهم بقوا ملط … وألحق الغلابة قبل ماتروح عليهم نومة، وأقولهم صح النوم يازباين.
ممثل: ياسيد … ياسيد … ده فن وله أصول … افهمنى كويس
جحا: معدش وقت للفن ياحبيبى … الفن ماعدش ينفع .. ماعدناش نقدر نستناه لازم نقوم بسرعة بالنبابيت … ماهم قاعدين بيقولوا من زمان … عملوا إيه يعنى
(المسرحية ص102)
بهذا الحس الكوميدى الساخر يحاول (جحا) إقناع المتلقى بالمشكلة، بل ودفعه للبحث عن حل، وخاصة وأن الحل لن يأتي من الخارج، ولكن يأتي دوماً من داخل كل شخص، ويستخدم جحا كلمات شعبية لإثارة السخرية، ومن ثم يتم منع أي لحظة تعاطف للمتفرج أو اندماج.
وفي داخل المسرحية يبدو أكثر من موقف يستخدم الحجة حيث التوازن مابين العقل والعاطفة، الذي دعا إليه كثيراً بريخت “فهو لم يكن يسعى إلى إثارة الفكر فحسب ولم يكن همه محصوراً في شجب العواطف، بل كان يرفض عواطف معينة، وهي العواطف غير المعقولة وغير المبررة التي لاتخضع للإدراك”([22]).
ومن هذه العاطفة المبررة المعقولة يستخدم يسري الجندي الحجة، ويقدمها بأسلوب يسمح بدراستها وعدم الانجراف مع الانفعالات أو العواطف، التي يمكن أن تولدها لدى المشاهد، وخاصة أن الحجة تحولت إلى سلاح في يد العديد من شخصيات المسرحية، ومنه (بدر) التي تحاول بالحجة والإقناع التحايل أن تهرب بالطفل، وتكفل له حياة ولو بسيطة فتتزوج الشاب المتمارض قعيد الفراش، وهو الآخر يتحايل بحجة المرض كي لايذهب إلى الحرب، ولكن استخدام الحجة والإقناع برز بشكل واضح في مواقف القاضي _جحا) مع أهل السلطة وعامة الشعب، خاصة أن شخصية (جحا) ذات النمط الشعبى المعروف حيث المكر والدهاء والغباء والنقاء كلها تجمعت في رجل واحد وكأنه شخص خارق للعادة، فهو يستخدم الحجة للتحايل على رجال الشرطة، ثم يستخدم المكر للحكم بقانون الغلابة مستغلاً سذاجة الأغنياء ونفاقهم في الوصول إلى مآربه.
لتتحول المسرحية إلى سلسلة من (أحاجى جحا) ومحاولات الإقناع والتحايل خرجت بالتلقى عن الإطار الدرامى الذي يولد الاندماج، فقد وعى المتلقى أن مايدور أمامه ماهو إلا محاولات للتحايل على الحقيقة أوربما للوصول إلى الحقيقة، فاشتد الجدل وخاصة مع (بدر) الأم المعنوية للطفل إلا أن الجدل ينتهي لصالحها فتفوز بالطفل الذي تكبدت من أجله الصعاب.
استخدام المنولوج … منولوجات الأم
يتم استغلال المنولوج عادة لإعطاء الشخصية الإمكانية الكاملة في شرح ماتريد، أو عرض طريقتها المثلى في فهم الحياة، ليحدث انفصال مابين الشخصية والواقع عندما تلقى المنولوج وهذا الانفصال في حد ذاته هو من أهم الوسائل الملحمية، لذا اعتمد يسري الجندي على المنولوج، فانتشرت المنولوجات داخل المسرحية تحقيقاً للتغريب البريختي.
حيث ينتقل الكاتب إلى (بدر) ومنولجاتها المتعددة داخل المسرحية، ففي بداية المشهد الثاني وعلى لسان المغنى الذي يروى غناء بدر على هيئة منولوج (بدر) وهي تخاطب الطفل الرضيع وتسُّدى له النصح والوصايا، فهي ترغب في أن يصبح الطفل فارساً شجاعاً لاهو غنى فاسد أو فقير مهان.
وهكذا ترتقى بدر مثل جروشا التي “ترتقى فوق مستوى البشر من الناحية الروحية لما يطالب به حبها المثير، لذلك يميل المتلقى إلى الاتحاد مع شخصية جروشا”([23])، لكن بالطبع لايندمج معها.
لجأ الكاتب إلى المنولوج في عرض القضايا الفلسفية في أكثر من مشهد، ومنها ماجاء على لسان بدر وهي تخاطب الطفل، وتتمنى له أن يصير فارساً لاينتمى للأغنياء القساة أو الفقراء المهانين فكلاهما على خطأ وضعف.
يتضح أن الحوار بهذه التنويعات الجدلية يصل بالمتلقى إلى حالة من الجل مع الحدث القائم أمامه، والجدل في ذاته سمة ملحمية من خلال المنولوج الذي يساعد على نفي أي شعور بالاندماج … على هذا الأساس قد نجح كلاً من (يسري الجندي والقاضي جحا) في وضع المسألة في إطارها الجدلى والعقلى السليم، ليخرج بذلك من مرحلة حشد المبررات العقلية للفعل إلى مرحلة الإقدام على الفعل ذاته، وخاصة أن ميزان العدالة مقلوب في ظل عدل غائب وسلطة غير شرعية وهي تربة صالحة للحث على التغيير، تغيير الوضع الذي لاينبغى له أن يدوم فمن يتصدى لها بالتغيير؟
سؤال طرحه الكاتب وحاول جحا وباقى شخصيات المسرحية في إطار العديد من المنولوجات تقديم إجابات هذه الإجابة من شأنها كسر إيهام المتلقى وإبعاده عن مناطق الاندماج إذ أن المطلوب ليس الاندماج والتوحد مع القضية بقدر التفكير في حلول لها.
استخدام الفنون التعبيرية المختلفة …
برز الغناء والشعر بشكل مباشر في استخدامات بريخت كثيراً، وخاصة في أعماله المسرحية (أوبرا القروش الثلاثة – الأم الشجاعة – الإنسان الطيب من ستشوان- دائرة الطباشير القوقازية) وغيرها الكثير …
ويبدو أن بريخت كان حريصاً على إدماج الشعر والغناء في أحدث المسرحية وبنائها، وتكفي أشعار المغنى وجروشا في المسرحية للتدليل على ذلك.
ومن هذا الخيط بدأ يسري الجندي في نسج البناء الشعرى والإطار الغنائى في (حكاية جحا والواد قلة) لإعطائها طابعاً مميزاً ومستقلاً مع توظيفها كجزء لاينفصل عن بناء المسرحية.
فقد تم توظيف الموسيقى مع الشعر والغناء من خلال موسيقى خفيفة في البداية وكأنها تمهد لبدء المسرحية، أو لبدء حدث معين، وكان هو فتح الستارة مبكراً جداً ليبدو أن تغريب الموسيقى لم يكن عفوياً بالطبع، بل كان مقصوراً، إذ يصف المؤلف طريقة أداء الألحان ويلح على الجميع مابين المتناقضات فهي خفيفة سريعة حرصاً على احتفاظ المشاهد بوعيه يقظاً، كي لايتعامل مع المسرحية بعواطفه المخدرة ويستخدم المؤلف الأغانى والأشعار بشكل مرن فبدت وكأنها من نفس النسيج العام للمسرحية، فيرتفع صوت المغنى مع بداية ظهوره واصفاً حال البلاد أثناء العيد وهي تستقبل العيد والسلطان بفرحة مفتعلة لا تعبر عن الواقع.
وتتوالى تداخلات المغنى التي تبزغ على هيئة فواصل أتاحت للمتلقى الفرصة كاملة لعدم الاندماج أو الغرق في الجو المحيط.
وفي لوحة أخرى يشير المؤلف إلى (بدر) الخادمة التي تجسدت فيها شتي معانى الأمومة فهي تغنى لطفل ليس وليدها مستخدمة الأغانى الفولكلورية المستخدمة في تربية الأطفال، عبر نشيد شعبى أراد له الكاتب أن يحمل مضموناً واقعى عميق حتي وإن أشارت الأغنية إلى مدى خوف بدر فالطريق لن يكون سهلاً.
يتضح مدى تطور نظرة يسري الجندي إلى أثار بريخت، حيث تمكن من مجاوزة الحرفية في النص البريختي وصولاً إلى روحه، بعدما عرف بمهارة كيف يستفيد من دروس بريخت من أجل الوصول إلى مسرح شعبى يتحدث عن الشعب وبلغة الشعب.
حتى لو كان الطرح يخص مجرد عرض قضية التنازع على طفل لإثبات من هي الأم، إلا أنه دوما لابد من حضور روح القانون، لا القانون ذاته، فقد حكم القاضي جحا لـ بدر الأم التي اهتمت بالطفل بأحقيتها دون الأم التي تركت الطفل وسط أطماعها الرخيصة، وهنا الانتصار للأمومة بمعناها المعنوي لا المادي، الأم التي عرضت نفسها للقتل دفاعاً عن طفل بريء يا لها من مثال جميل ومباراة بين يسري الجندي وبريخت كل يحمل صفات بيئته الخاصة، بل إن الأم هي الأم في كل مكان وزمان.
([1]) سيد صديق: الأم في الدين والأدب والتاريخ، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1998، ص7.
([2]) فتحي الإبياري: الأم في الأدب، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1988، ص6.
([3]) دريني خشبة: من مقدمة المسرحية، ص23.
([4]) فؤاد دوارة: مرجع سابق، ص38.
([5]) فتحي الإبياري: مرجع سبق، ص91.
([6])سعد الخادم: مقدمة مسرحية الأم شجاعة لبريخت، مطبعة الدار المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د.ت، ص12.
([7])عبدالرحمن بدوى: مقدمة مسرحية دائرة الطباشير القوقازية لبريخت، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، روائع المسرح العالمى العدد (30)، القاهرة د.ت ص 19.
([8])عبدالرحمن بدوى: السابق ص 20 -21.
([9]) إبراهيم شعلان: النوادر الشعبية المصرية، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1993، ص39.
([10])نجوى عانوس: الملحمية فى مسرح يسري الجندي، مؤسسة الطوبجى للتجارة والطباعة والنشر، القاهرة، 2001، ص75-76.
([11])عبدالحميد يونس: جحا شخصية عالمية، مجلة الفنون الشعبية، ديسمبر 1969، ص2.
([12])منى صادق: أهم الاتجاهات الإخراج المسرحي المصري فى الستينات، دفاتر الأكاديمية، العدد 15، أكاديمية الفنون، وزارة الثقافة، القاهرة، 2005، ص80.
([13])الرشيد بوشعير:أثر برتولد بريخت فى مسرح المشرق العربي، الأهالى للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، 1996، ص136.
([14])عثمان نوبة: حيرة الأدب فى عصر العلم، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1969، ص122.
([15])حسن محمود حسن عباس: برتولت بريخت والمسرح العربي، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 1987، ص 285.
([16])برتولد بريخت: نظرية المسرح الملحمى، ترجمة جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، لبنان، د.ت، ص 272.
([17])رانيا فتح الله: الاتجاه الملحمى فى مسرح ألفريد فرج، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص64.
([18])هدى حبيشة: على خشبة المسرح، المكتبة الثقافية، العدد 419، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص164.
([19])حسن محمود حسن عباس: السابق، ص432.
([20]) نبيل راغب: لغة المسرح عند ألفريد فرج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986، ص159.
([21]) الرشيد بو شعير: مرجع سابق، ص151.
([22]) بريخت: نظرية المسرح الملحمى، مرجع سابق، ص150.
([23]) بيير آجيه توشار: المسرح وقلق البشر، ترجمة سامية أحمد أسعد، الهيئة المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1971، ص145.
** د.محمود سعيد / ناقد فني – عضو اتحاد كتاب مصر
رئيس تحرير مجلة ينابيع ثقافية – وزارة الثقافة