"الساعة السوداء" تفاحة الخلق وغوايتها على حائط العلامات/ د. جبار صبري
في العرض المسرحي: ساعة السودة الذي قُدّم على خشبة مسرح الرافدين في بغداد ضمن فعاليات أيام مسرحية وهو من تأليف الدكتور مثال غازي واخراج سنان العزاوي وتمثيل يحيى ابراهيم وشيماء جعفر ثمة تمثلات للرمز بوصفه فاعلا يعمل على تحريك فكرة ومجسدات العرض المسرحي بكل ما وقع من أحداث وبناءات وهواجس ومشاعر وتصورات واشكال ومضامين.. جاءت كلها لتمتثل فاعلية الترميز في صناعة ذلك العرض.
ابتداء انظر معي:
يتحرك العنوان بين شفرتين متغايرتين رمزا ودلالة وان هذا التغاير يمكن استقصائه من خلال:
شفرة1: الساعة
وقد تناضح عن هذه الشفرة المعنونة للعرض المسرحي سلسلة من الدلالات اهمها:
- الزمن بما يكون كلّ الزمن وغير مجتزئ على الرغم من أن اللفظ جاء محددا بمدة محسوبة كالساعة. لكن ما يجعله شاملا أن فكرة العرض الجامعة تشمل كل ما وقع على البشرية بمسمّى آدم والذي هو الأصل والامتداد الذي تجزأت عن طريقه الأزمنة، وبدت هذه الساعة هي كل ما وقع على البشرية من نكوص في الوجود والألم والطرد والخطيئة حتى هذه الساعة.
- الزمن بوصفه استقطاعا فنيا يقدم العرض من خلاله حكاية آدم في لعبة يحاكي بها قدرا افتراضيا عن انسان الحاضر بفكرة انسان الغائب.
- الزمن المرادف للحدث المشؤوم الذي جعل من آدم ضحية وجود مثلما هو ضحية خطيئة نزلت به قهرا.
- الزمن هنا هو الحلم الافتراضي الذي أضيف على الانسان الأول/ آدم وسحبه من حلمه الحقيقي. وجعل الامتداد بين الحلمين مجرد ساعة توهم فيها الانسان خطيئته ثم ما لبث أن سقط عنه ذلك الحلم مثلما يسقط الزمن وينحشر في ساعة سقوط سوداء كالكابوس خارج الحلم.
شفرة2: ( مضاف الزمن) ← السودة ( السوداء)
وهذه الشفرة قد تجلّت إلينا عن طريق فاعل الإضافة اللغوية بفاعل من الدلالة المادية والمعنوية على نحو:
- إن ما وقع لآدم وقع ابتداء كخطيئة لا يمكن الا أن تكون نشازا قاتما عن الوجود او الاحساس به في ساعة كانت بيضاء ثم انقلبت الى ما يناقضها.
- كل ما يأتي في تلك الساعة لا يمكن أن يأتي الا بلون واحد تنهرس فيه كل الوان الوجود على شكل لون أسود وحسب.
- ابتلع المضاف إليه: السودة المضاف: الساعة فأصبحت الساعة صبغة حياة لا حركة زمن.
إنّ مجمل ما كان عليه العنوان قد تلخّص في: أن ما يجري من أحداث سيجري لا على شاكلة افتراض تعدد أحداث وتغاير أحداث بل سيجري على تكرار أحداث وبصبغة سوداء قاهرة واحدة تتكرر وتكون سمة العرض المسرحي اللازمة لكل بناءاته وصولا الى ختامه او وصولا الى طبيعة ما نستخلصه من رسائل معنوية تفيدنا في رمزية تطهيرنا من أدران تلك الاحداث المفترضة فنيا على خشبة المسرح.
إذن، نحن دلاليا يمكن ان نكتشف ان العنوان بلغ مراده في تقرير سمة العرض: وأن هذه السمة ستكون تكرارا للون مأساوي واحد يدور في فلكه العقيم ويدور في حدث بدأ منذ آلاف السنين وبقي يتكرر عبر كل تلك السنين على شكله ومضمونه دون اختلاف او تغاير ونحن الآن نعيده فنيا مثلما هو يعيد نفسه دلالة وجودا.
كذلك أنظر معي إلى الفضاء التكويني الذي أراده المخرج سنان العزاوي أن يكون رمزا مظهريا يتجلى على شكل سينوغرافيا العرض المسرحي من جهة، وهو يعبّر عن ثيمات العرض المسرحي بما فيها من شفرات او دلالات من جهة ثانية. هذا الفضاء تمظهر في:
اولا: السرير.
ويمكن استقصاء دلالته على نحو ما توالد منه:
- سرير: وهو شاهد أيقوني لكل ما يجري من خطيئة في الخلق وانه يعيد بالتكرار تناسل الخطيئة ذاتها.
- سرير: وهو الرمز العابر من حضوره الأيقوني الى حضوره الإشاري بوصف أن ما يجري على هذا السرير ومن قائع مثل:
- النوم
- الحلم
- الموت
- سرير ← الجنة. إذ لم نلحظ بناء معادلا لمظهرية الجنة على الرغم من قيمة التداول فيها كوجود فاصل بينها وبين ما يناقضها في عوالم الساعة السوداء القادمة. بل كل ما رأيناه كممظهرة سينوغرافية هو السرير. وهنا قد أحيل السرير من بعده الأيقوني الى بعده المزاح نحو رمزية السرير لا ايقونته. واتضح هذا الرمز ليؤكد لنا ان السرير هو الجنة.
ثانيا: الحائط
لم يكن الحائط الا:
1 – سريرا افقيا وعموديا في آن واحد. وهنا يمكن ان تتكاشف إلينا ابعاد ذلك من خلال:
– أفقيا كونه تمثل طبيعة المكان وطبيعة ما وقع من حدث في ذلك المكان وهو خلاصة الخطيئة التي ترتبت فوقه وعلى ما صنعه من غواية وجود او غواية احساس بذلك الوجود الى درجة يمكن تقبل ازاحة الرمز الذي كان عليه السرير من مكان تدنيس وجود الى عامل غواية استعاض به المخرج/ المؤلف ليكون رمزا بديلا او معادلا الى تفاحة حواء او الغواية الاولى.
– عموديا كون شكل العلاقة الاعتبارية بين قوى عليا وقوى سفلى. بين قيمة مطلقة تعمل على ادارة حدث من غير ارادة تلك القوى السفلى وكون ان الرابط بينهما هو الامتثال والطاعة لما تفرضه القوى العليا. وبالتالي نزل الرمز هنا على شكل توسل آدم ودعائه طوال وجوده الواقعي لأجل ارضاء تلك القوى العليا المطلقة عليه.
2 – جدارا فاصلا بين عالم الجنة وبين عالم الارض. بين الحلم النقي وبين الكابوس المزعج. بين الاخرة وبين الدنيا. بين رحمة الله وبين نقمته. بين التفكير من غير شهوة وبين التكفير في دنس الشهوة. بين ارادة مطلقة وبين ارادة نسبية. بين حياة لا موت فيها وبين موت.
وهكذا تشكلت يقظة الزوجين: آدم وحواء من خلال تشكل وجودهما في عالم مدنس بالخطايا. في طردهما من عالم المثل التقية ونزولهما الى عالم الدنس الكبير والآثام الكبيرة. من التفكير النقي الى التكفير الشائب.. وهكذا..
3 – الحائط بمعنى التحول: تحول الزمن والحدث والمصير وفلك الاحداث. من الوان زاهية ومختلفة الى لون اسود واحد ومكرر ومعتم. من انشرح في الوجود الى انقباض في الوجود.
4 – الحائط بوصفه تاريخا لما يحدث. بوصفه الوثيقة التي سنختبر عليها شهادتنا في هذا العالم السفلي وبالوقت ذاته سيكون ذلك التاريخ هو تكرار تاريخ على الرغم من وهم التدوين في سجلاته: تدويننا نحن النازلين الى الخطيئة بفاعل رمز الغواية في الشهوة او الوجود او التفكير المزاح عن ارادة الحلم النقي الخالص والخارج عن كل كوابيس اللذة المؤقتة.
5 – الحائط لا بوصفه برزخا بين عالمين بل بوصفه فاصلا شفافا وشفيفا بين الانسان ونفسه: آدم ونفسه او حواء ونفسها او بوصفه فاصلا بين شفيفا وشفافا بين الرجل وزوجته/ آدم وحواء. وهذا الفاصل يمكن كسره بسهولة وتداخل العوالم فيه ومن ثم التوالد منه وعبره بسلسلة من الأبناء..
6 – الحائط الأمل في معرفة النفس او الأمل فيما يكون من مستقبل الزوجين او الذاتين في هذا العالم المدنس. الأمل الذي من شأنه أن يمرر دواء النسيان او دواء الوهم المؤقت من هذا العالم المعجون بالخوف والحرب والموت..
7 – الحائط الذي هو حاضر الزوجين بعد طردهما من الجنة. الواقع المعيش. الحقيقة التي تجاوزت حلمهما البكر. الحاضر الذي يسوق كل ولادة وبقاء وفناء وحرب وجود..
ثالثا: القلعة
وجاءت لا لتكون ملاذا يختبئ به الزوجين مما تكالب عليهما الواقع الجديد المفروض عليهما بالخوف والقهر والموت.. بل جاءت لتؤكد مرموزات أخرى ستشكل خطرا كبير على مستقبل العالم او مستقبل الزوجين. مثل:
1 – السلطة: ان تلك القلعة التي كانت مجالا للحرب بين الزوجين كانت معمارا يؤدي دور السلطة وانتزاعها واوليتها: لمن يغلب. الرجل ام المرأة. هي بوابة السيادة في مجال تذكير هذا العالم أم تأنيثه.
2 – إثارة التشبه بالمطلق على الأرض..
3 – الاستعاضة مما انهزم منه في الأعلى بصولجان مفترض يؤدي غرضه في الاسفل. اعادة تمثيل لعبة الطرد بسبب الخطيئة على نفسه لتكون ذات الاسباب التي تتكرر فيها لعبة الوجود الاشمل.
4 – انعكاس المقهور في مرآة دنس مرآة الحاضر بعد كل خطيئة على صورة قاهر.
رابعا: البيت
بدلا من سكن في الجنة يطلب الزوجين سكنا في الارض. لا ليكون بديلا عما كان هناك في الحلم/ الأعلى بل ليكون معبرا عن:
1 – السرير ثانية
2 – ان ما يسكن في دمهما لا يمكن طرده ابدا. وان هذا السكن هو الزواج الحتمي.
3 – ان تأكيد لقاءهما في البيت سيكون تأكيدا لفنائهما منه. هو اجترار الخطيئة الأولى كل مرة.
3 – النوم المؤقت في نسيان ما يجري عليهما.
4 – اعادة ممارسة الغواية لإعادة ممارسة الطرد
5 – سيكون البيت دائما تعبيرا عن البطن الحامل بوليد الخطيئة وحطبها المستمر.
خامسا: الراوي بالكتابة
كما لو أنه يريد أن يسرد لنا ويوجهنا لما يسرد يفعل ذلك على سبورة العرض او الوجود ذلك الراوي بأدوات الكتابة أعلى الجدار في عمق المسرح. وتمثل هذا الروي علامات دالة على:
1 – ان القدر هو القدر وسيظل متعاليا عن كل ارادة.
2 – العالم مزدوج التركيب والبناء: فوق وتحت. وما على البشرية الا ان تتوسل في عالمها الدنيوي ان تكون من اتباع العالم الآخروي.
3 – ما يجري انما يجري بدواعي الغضب مرة وبدواعي اللهو مرة. بل يجري كما لو انه واقع تم التخطيط له او فن مسرحي تم التحايل الفني عليه.
سادسا: الرسوم المتحركة
وهي جاءت متعددة الوظائف والدلالات ولكنها كانت مرموزة على نحو:
1 – العالم محض خيال نزق لوجود واهم بالخطيئة.
2 – مثلما هناك ارادة عليا متفوقة على الارادة السفلى هناك أيضا عوالم خارجية فيها من الارادة وعلى الارض والواقع وعوالم داخلية فيها من الارادة والواقع. وان التعبير عما يجوب في الخارج غير التعبير عما يجوب داخل النفس من خلال الذات او الزوجين. انهما عوالم من الواقع الظاهري مرة ومن الخيال الباطني مرة ثانية.
3 – الأرجل، السيارات، المدينة، الأجنة، البوليس.. كل تلك الرسوم المتحركة بتقنية الفديو كانت رسوما تعنى بواهمة وجود ذلك الانسان المطرود من الحلم/ الجنة الى الارض. وتستخدم ذلك الوهم بكثرة وهي لعبة ذات غرضين:
- غرض يوظف فيه المخرج عوالم نزوات الذات بالوهم واللاوعي.
- غرض تؤدي بها تلك الرسوم المتحركة مزحة وبراءة وطفولة ما يحدث من لهو وجود اذ يمكن ان يكون لهوا فنطازيا كما هي خيالات اطفال يلعبون.
- لا يمكن عدّ العالم الا عالمين يجريان ويجدثان في آن واحد: عالم الظاهر وعالم الباطن. عالم البكاء وعالم الفرح. عالم الحياة وعالم الموت وهكذا..
سابعا: آدم/ يحيى ابراهيم وحواء/ شيماء جعفر
من لحظة الحلم خارج الحياة قبل نزولهما من الجنة وحتى بعد مرور 3000 سنة جاءت أدوارهما في الوجود كممثلين حقيقيين او في العرض المسرحي كلاعبين أداء لأدوارهما اقول جاءت في تمثّلات متعددة ولكنها جميعا لم تخرج عن صبغة الساعة التي لطختهما بالسواد وهي ذاتها ساعة وجودهما واعتبار ذلك الوجود:
- أننا لا نلتقي اذ نلتقي على سرير الخطيئة وتكرارها الا على سعادة خطيئة وتكرارها.
- كل الآلام القادمة محلها لذتنا الرابضة في دمنا والتي هي تحرك البقاء والفناء على حد سواء وفي آن واحد.
- بمقدار ما تلنا تلك الساعة كل حين بمقدار ما نكون نحن حربها وحطبها كل حين.
- كل الأبناء حروب لخطايا مؤجلة ولكنها محتمة بذات الوقت.
- أنا اضمك يا حواء الى نفسي. أنا أضمك يا آدم الى نفسي. ومع ذلك أننا على مسافة من غربة واغتراب. تلك المسافة التي تجعلنا عرضة الى السخرية لما نحن عليه من لعب وحرب وموت.
- انت تشيخين يا حواء. أنت تشيخ يا آدم. ولكن لعبتنا في تكرار خطيئتنا لا تشيخ ابدا هي طفلة دائمة كما شهوتنا هي طفلة دائمة.
- عن أي انتظار سيمر العمر. لا فائدة. اذ لا انتظار. وما نحن عليه الا تكرار البقاء من تكرار الفناء.
- ليتني لم اولد قط
- ليتني لم اطرد قط
- ليتني لم أحلم قط
- ليتني لم أنجب قط
- لا فائدة: العد التنازلي باتجاه لا نهايتنا هو ذاته العد التنازلي باتجاه نهاية العرض وستكون كل نهاية بداية أخرى.
- كل حواء مفخخة وكل آدم قنبلة. وما علينا لكي نعبر الى الموت او الحلم او الجنة الا ان نفجر تلك المفخخة او نفجر تلك القنبلة.