مروة الأطرش في ( اليوم الأخير ) .. اختزال الفاجعة بالجسد والروح / بقلم : يوسف الحمدان

مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي ( 4 )

 
في الوقت الذي انصرفت فيه أغلب العروض المسرحية المشاركة في مسابقة المونودراما بمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي الرابع ، إلى الحكي الكثير والسرد الأفقي الممل والثرثرة الحركية الأقرب للعامية التقليدية والمعتادة ، على حساب الفعل وأهمية الاشتغال عليه في المسرح وإبراز تنويعاته الدلالية والجمالية ، تأتي مونودراما ( اليوم الأخير ) لفرقة دمشق السورية ، تأليف وإخراج الفنان يزن الداهوك ، أداء الممثلة الشابة مروة الأطرش ، لتقترح علينا تجربة جديدة ومغايرة في رؤيتها لفن المونودراما ، بعيدة كل البعد عن الثرثرة والتخبط السالفين ذكرهما واللذين ضجت بهما خشبة مسرح قصر الثقافة طوال أيام المهرجان ، لنكون في مواجهة ممثلة شابة مغمورة روحا وجسدا وأداء بحماس صادق ومعبر عن معاناتها ومعاناة كل من تتجسدهم في هذا العرض ، دون لجوء استعراضي لاستعارات مجتمعية أو إيمائية عُهدت عليها المونودراما في مسرحنا العربي لفترة طويلة ولا تزال ، وكما لو أن هذه المونودراما دون هذه الاستعارات الثقيلة الوزن ، لا تنتمي ولا تستحق أن يُطلق عليها مونودراما ، وهي سمة إشكالية كرسها بعض نقادنا ومسرحيونا العرب المشتغلين في المونودراما أو المنظرين لها منذ اقتحموا مجالها أو عرفوه .
في ( اليوم الأخير ) ، ليس أمام الممثلة الشابة مروة سوى معاناة وجسد وروح ، هم رسالتها أو شيفرتها الرئيسة التي تريد أن تبثها من خلال هذا العرض ( اليوتيوبي الممسرح ) أو المسرح ( المفلمن ) ، كي يدرك الضمير العربي والعالمي حجم الفاجعة التي تعيشها شخصيا ويعيشها المجتمع السوري جراء الحروب الفتكية الانتهاكية التي لا يهدأ أو يخف فحيحها وأوارها إلا بسحل آخر ما تبقى فيها من مخابيء لـ ( حماية ) الإنسانية .
هي رسالة إذن ، ولكنها بحجم عالم ، تبدأ من الهتك العاطفي والجسدي للصبية المرغمة على زواجِ أحمق ومدمر في مدينتها بسوريا ، لتنتهي بهتك واغتصاب كل القيم وأعلاها شأنا الوطن ، وهذه الرسالة تقاسم كتابتها على جسد الخشبة فعلان ، الفعل في سياقه المنطوق ، والفعل في سياقه الحركي والكوروغرافي ، وكلا الفعلين اندغما في حالة حوارية معبرة عن ما يجول في أغوار النفس في الداخل ، وعن ما نراه مجسدا لهذه الأغوار المؤلمة من خلال الأداء المنطوق أو المعبر عنه بالحركة والإيماءة الاختزالية الدالة في الخارج ، وتتجلى الحالة الأكثر قدرة على التعبير من هذين الفعلين ، في لحظات التداخل التي تسكن في كل فعل منهما ، ولعلنا نلحظ ذلك بشكل أكثر تحديدا وتجليا ، في حالة الولادة القهرية أو الاغتصاب ( المشروع ) للصبية بالزواج ، أو لحظة امتهان كل متوقعات الفرح لديها عندما تتجاوز عمر الطفولة والمراهقة ، وهنا نكون أمام تداخلات زمنية ونفسية ودلالية ، تمكن المخرج الداهوك بالتعاون مع المصمم الكوروغراف رأفت زاهر الدين من أن يرسم لها أفقا أدائيا لافتا من خلال ممثلته الرائعة مروة الأطرش ، لتصبح بذلك حياة هذه الممثلة المؤادة ، في فسح يتجاوز حدود التجسد التمثيلي على الخشبة ، ولتمتد إلى ما هو أقرب من حالة التماهي بين الواقع والفاجعة ، ولتصبح أكثر قربا من المجتمع بعزلتها المتأملة له وليس العكس .
نحن أمام جسد يتفلت من أسره القهري ، جسد يشكل أفضية عدة ودالة لحضوره المؤدي المختزل ، جسد تتشظى وتمتح من روحه ذوات وأرواح متصارعة ومنهكة ومفجوعة وحائرة ومقهورة ومسجونة بين مختلف الأضداد الكبتية والكبحية ، معلنة قدرتها على ترجمة بوحها بديمقراطية لا مثيل لتصنيفها في واقعنا العربي خاصة ، إنها حالات لا يمكن أن تكتب على ورق ليكون العرض نصها ، إنما كما يبدو أن المؤلف المخرج الداهوك ، كتب نصه على الخشبة ووسم به جسد ممثلته الرائعة مروة الأطرش ، لنكون في مواجهة العرض الذي تشكلت روحه وأنفاسه على الخشبة مباشرة وليس خارجها .
لقد استثمر المخرج والكوروغراف كل ممكنات الأداء لدى الممثلة مروة ، وأقول ممثلة لأني أعني بها ذوات وليست مونو ، وهي كذلك في العرض حقا ، ودون أقنعة ، حيث كل الأقنعة تساقطت كأوراق التوت منذ الجرأة الأولى لمحاورة الروح والجسد ، فكل ما كان في وارد التابو ، تحرر منه جسد مروة ووُظف للحالة الإنسانية والفجائعية والفدحية ، بما فيها الموسيقى التي جاءت باعتبارها حدثا في العرض ، والفضاء المؤثث بعناية شديدة لجسد الحالة المسرحية .
22 دقيقة ، هي بعمر الفاجعة السورية العربية ، بل هي بعمر المحتمل من الفجائع القادمة الأكثر فدحا ، لذا كان المخرج موفقا جدا عندما لم يمكث طويلا عند بقعه الضوئية الاستهلالية المختزلة لزمن رحلة المعاناة ، فالفدح أكبر من أن يختزل في رقمية (لابان) الضوئية ، هو فدح لا تسجنه حدود ضوئية وإن بدت في انتقالاتها الزمنية والحركية موفقة على الصعيد الرؤية البصرية أو الجمالية ، ولعل أبدع تلك اللحظات الضوئية الاختزالية المعبرة ، هي اللحظة التي تعلن فيها هذه الممثلة ومروة يوم ميلادها ، وهو يوم يحتمل عدة تأويلات ، هي لحظة الانتهاء من تجسيد هذه الرسالة وبثها ، وقد تكون لحظة تحررها من كل المخاوف وأثقال الهم والفدح التي رزحت على صدرها وروحها ، وقد تكون لحظة استعدادها لاستقبال موتٍ أو اغتيالٍ سيظل حيا وشاهدا على الفاجعة بعد رحيلها ، وقد تكون لحظة أن وصلت رسالتها إلى جمهورها في القاعة واستقبلها بحماس يضاهي حماسها لأدائها هذه الرسالة .
فتحية من القلب للفنانة الممثلة الطاقة مروة الأطرش التي أذهلتنا بحضورها الفني الآسر ، وللمؤلف المخرج يزن الداهوك ولكل طاقم العرض المسرحي ، والتحية موصولة لوالد مروة المسرحي السوري الكبير ممدوح الأطرش لوقفته الأبوية الأصيلة والمشجعة مع كريمته ومع كل طاقم العرض ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت