نص مسرحي: "وشاويش" / تأليف : حسن العلي

شخصيات المسرحية :
1 – ميدون : كاتب صحفي نزيه ، يمثل المثقف المستسلم للفقر لكنه متمسك بمبادئه ونضاله ضد حرب شمعون .
2- خاتون : امرأة ديكتاتورية ، تمثل بقايا من حزب الدم العشتاري   .
3- ونيس : مواطن عشتاري ، يقوم بنشر عبارات ودعوات فاضحة تهز الشارع والسلطة علناً على جدران الشوارع .
4 – أبو نواس : كاتب صحفي غير نزيه ، ملاذه حجب الحقائق والفضائح ، يساعد على نشر الأخبار المزيفة سعياً للشهرة وجني الأموال .
5 – زينب : امرأة فاقدة طفلها ، ومصابة بمرض جسدي عضال .
6 – ميسون : من اتباع حكومة شمعون المحتلة ، يتظاهر بأنه طبيب لكنه في الواقع جلاد ثائر يمارس تعذيب المرضى كأنهم جناة
7 – مواطنين آخرين ( لا يتجاوزوا الثلاثة )
 
المكان : مدينة عشتار
الزمان : ما بعد سقوط عشتار على يد شمعون .
 
الوشوشة الأولى :
السينوغرافيا /
( بقايا مكان / الخلفية العامة باللون الأبيض والأسود والأحمر، ثلاثة أبواب، مجموعة من الأجراس معلقة بإحدى الجوانب العلوية من المسرح، كرسيان متلاصقان في الجانب الأيسر من المسرح، قدراً كبيراً رمزاً للرحى في وسط المسرح حيث يسع الممثلين، في الزاوية اليمنى برميل نفايات، منصة في جهة جانبية من المسرح يوضع عليها كتاب كبير، منظار في مقدمة المسرح اتجاه الجمهور، دوائر مفتوحة على القماش المتدلي على الجدار، تفتح الستار بدخول الشخصيات بدون ملامح واضحة، صريخ مدوي من (زينب) وبيدها دمية كبيره، ضحكات وحشية من (خاتون) وبيدها عصا وجمجمة ، علفٌ للكلام من (أبو نواس)، نعيق للبوم من (ميسون) همهمات وهلوسات من (ميدون)، آهات وأنين من (ونيس)، تقرع الأجراس ثم يدخل إيقاع المارش الجنائزي والهمهمات الكورالية، فيتشكل الجميع في صف واحد سائرين سيراً جنائزياً وهم حاملين (ونيس) رمزاً لزفاف عروس اسمها عشتار، يضعونها في الوسط الأمامي من المسرح، يدورون حوله بصوت الهمهمات والزغاريد حتى يرددون) :
الأول : عشتار
الثاني : يا أقدم عاصمة للحزن
الثالث : أصبح الماء …… دم
الرابع : من يغسل الدم ؟! من ؟!
الأول : عشتار
الثاني : حلم ضائع من الأزل
( يعطس الجميع ثم يدخل صوت ) :
صوت : وبدأت ساعة الصفر (صوت وشوشة رمزاً لرياح عاتية حتى يتوارى الجميع، كلٌ بشكل يناسب الشخصية، تسلط بقعة ضوئية حمراء وسط المكان، (خاتون) تدور رحى التعذيب التي تتمايل ويتقلب بداخلها كل من (ميدون، أبو نواس، وطفل مجهول الهوية) .
خاتون : يا دواهي الفجيعة .. عشتار تدوّي .. هل من مزيد ؟!
(يسقط ميدون وأبو نواس فيقومان بدوران الرحى التي بقي فيها الطفل، يحاول الخروج مستغيثاً ومستنجداً بلا فائدة، تضحك خاتون وتزداد سرعة دوران الرحى، ميدون بملامح الاستنكار لكنه راضخ لحكم خاتون اللعينة، أما أبو نواس بملامح البهجة والسرور، يسمع صوت الطفل لافضاً أنفاسه الأخيرة، يتواجه الإثنان بنزاع حاد بتشابك كفيهما مع بعضهما)
ميدون : أي ذنب ٍفعلناه ! طفل يموت دون ذنب !!
أبو نواس: الحياة تعني العذاب
ميدون: ومن أين العذاب؟!
أبو نواس: إرادة عشتار .. عشتار لا تريد النوم
ميدون: ومن يرضى العذاب؟! من؟!  مجرد أقاويل باطلة
خاتون: اللعنة عليكما، انصرفا وإلا أدرت عليكما رحاي
(يتوهان وكأنهما أعميان وهما يتحسسان بالشم بحثاً عن مخرج؛ فيعودان للنزاع بينهما متواجهان  رأساً برأس)
ميدون : ابتعد عن طريقي
أبو نواس : بل أنت ابتعد عن طريقي
ميدون : تباً لك … هذا طريقي … انظر هذه آثار خطواتي
أبو نواس : بل آثار خطواتي
خاتون: (تصرخ عليهما وتوجه عصاها لكليهما بأن يخرج كل منهما من باب رهن الإشارة ) اغربا عن وجهي وإلا لقيتم حتفكما …. هيا
(ينفصلان عن بعضهما بهدوء فنراهما يدوران بالمكان وكأن حركتهما أشبه بطائرين متحررين، محلقان في الفضاء إلى أن يجلس الاثنان على الكرسيين المتلاصقين، اهتزاز  الكرسيان يميناً وشمالاً وكأنه زلزال )
ميدون: ما الذي يحدث؟! ما لهذه المركبة الفضائية تتمايل  يميناً وشمالاً !! (يمد يداه وكأنه أعمى) لا أرى غير سديم … لا .. هذا ليس طريقي
أبو نواس : يبدو أن الطريق وعر للغاية
ميدون : من يتكلم هنا ؟!
أبو نواس : من أنت ؟!
ميدون : آه هذا أنت ! كنت أظن انك خدعتني فسلكت طريقي
أبو نواس : ميدون ثانية !! لم تلاحقني كالظل الذي لا يفارق صاحبه
ميدون : بل أنت من يلاحقني … ماذا تريد مني … أفصح
(تقرع الأجراس؛ فينفك الاثنان من الكرسيين فنرى أبو نواس يذهب بهمجية إلى برميل النفايات فيلقي نفسه بداخله  ويخرج الجرائد ويعلفها كالمجنون، بينما ميدون يتوجه ناحية المنصة التي وضع عليها  كتاب كبير يتصفحه بهدوء تام وبعد لحظات )
أبو نواس: أحب بيع الكلام.. بل إنها أحلى ملذاتي عندما اعلفه واطحنه فيخرج طبقاً شهياً يتسابق عليه مجانين الورق كل صباح
ميدون : لا أفهم شيئاً …. هل التاريخ يعود نفسه ؟! .. اللعنة .. لن يحدث هذا غداً .. أعيدوني إلى عشتار
أبو نواس: (يلتفت لنفسه) ما هذا؟ أين أنا؟! هل أعيش في حاوية لا تسكنها غير بقايا البهائم؟! كيف لم التفت إلى هذا؟ لا …. لا ….. أنا صحفي ناجح .. أليس الرجل المناسب في المكان المناسب ؟!
( تقرع الأجراس فيفر الاثنان وهما في اهتزاز  مشدوهان فيصبحا كالأعشيين )
ميدون : المركبة تتمايل ثانية … لا … إنها الأرض !!
أبو نواس : أين ؟! إلى أين المستقر ؟!
(تتوقف الأجراس، يوجه مساران ضوئيان أرضيان من الكالوس الأيمن والأيسر وكل من ميدون وأبو نواس ينظران إلى جهة الكالوس وكل منهما في مسار)
ميدون: ما هذا؟! أين الطريق؟ متى بني هذا الجدار؟ لا.. انه أشبه بسور الصين العظيم! كيف اجتازه ! لا .. لا بد أن اختار طريقاً آخر .. لكن لا ا{ى أي منفذ !!
أبو نواس: ما هذا؟! (مرتعداً) ما الذي جاءني إلى هنا ! لا..لا أرى إلا أشباحاً وبحجم الجبال!! لا.. لا
( يتراجعان إلى أن يصلا إلى نقطة الوسط فيتلامس ظهرهما ويستديران وبصوت واحد )
الاثنان: أنت مرة أخرى ! (خناق)
ميدون: ما وراءك أيها الأحمق
أبو نواس: أنا من يسألك.. لماذا أراك في كل مكان؟! لماذا أنت دون غيرك! (يشير للأشباح) أنت شبح.. أنت شبح !!
ميدون: (يهدئه) ماذا بك ؟! هل فقدت عقلك ؟!
أبو نواس: لا تسألني لأني لا أملك الإجابة
ميدون : وأنا أيضاً عاجز عن استيعاب ما يحدث
(تدخل إحدى سيمفونيات بيتهوفن فيتلاحم الاثنان برقصة رومانسية، تقرع الأجراس فينفصلان وكل منهما يتوجه نحو مساره حتى يتجمدان)
خاتون: اذهبا …. واعلما أن من يتمرد سيصلى في وادي الجحيم للأبد
(يتحرك كلاهما نحو كالوسه بحركة آلية وبطيئة، نرى ميدون يبتسم مع تزامن شدة الإضاءة في وجهه بينما أبو نواس يزداد رهبة وعبوساً كل ما خفتت الإضاءة حتى يخرجان ويظلم المساران الضوئيان، تبقى البقعة الحمراء فتعود خاتون لتدور الرحى بسرعة جنونية تزامن مع إظلام تدريجي وصوت الوشوشة)
الوشوشة الثانية :
(الشارع العام .. مدينة عشتار / إضاءة صفراء خافتة، يدخل ونيس المتنكر كرجل بخاخ ليرش على الجدران بعض شعاراته ودعواته الاستفزازية والتحريضية )
ونيس: (يكتب) كأسك يا عشتار.. يسقط الاستعمار.. لا ماء ولا كهرباء.. يعني لا حياة بعد اليوم  (يسترق النظر في جميع الجهات حتى يخرج، يدخل مجموعة من المواطنين البسطاء الذين يبدوا عليهم الإعياء من شدة الحرارة وهم يحملون بأيديهم الفوانيس، يقرأ أحدهم لافتات اليوم)
مواطن 1 : (يقرأ) لا حياة بعد اليوم (يضحك) ظننتها لا دموع بعد اليوم
مواطن 2 : كم هو جريء هذا الرجل
مواطن 3 : جريء !! وهو يأتي متخفياً ثم يتسلل هرباً .. خوفاً من المواجهة
مواطن 1 : يواجه من ؟! وحوش بشرية لا تعرف الرحمة
مواطن 2 : يكفي انه يعبر ما بداخلنا
مواطن 3 : ناطق رسمي عنا ونجهل من يكون ؟
مواطن 1 : يكفي انه يعمل لأجلنا ، يطفئ من نار الجوى التي بداخلنا
مواطن 2 : سمعت أن الجهات الأمنية تلوذ بحثاً للوصول إليه لكن دون جدوى
مواطن 1 : يعني انه معرض للخطر
مواطن 3 : وما جنيناه من دعواته؟! الأزمات تزداد سوءا.. لا ماء.. لا كهرباء.. إن لم تردنا الحرب سيردنا  ضنك العيش
مواطن 2 : من لم يمت بالسيف مات بغيره .. تعددت الأسباب والموت واحد
مواطن 1 : دعوا عنكم الثرثرة
مواطن 3 : ثرثرة !! تنفيس الهموم بات ثرثرة !!
مواطن 2 : وما الحل ؟!
مواطن 1 : الصمت
مواطن 3 : صمت (يكررها ثلاثاً ) سنوات ونحن لا نسمع.. لا نرى.. لا نتكلم
مواطن 2 : والآن لا نتنفس
مواطن 3 : وهل هذا هو الحل ؟!
مواطن 1 : الحل … اقتربا
( يقتربان منه ويخرج لهما مروحات يدوية مصنوعة من السعف ) الحل بيدكم .. هفوا بيدكم فلن ينفعكم أحد ( يوزع عليهما المروحات ويتتبعانه بنفس الحركة وهما في ذهول واستسلام للواقع ، يخرجون فيأتي صوت الوشوشة ويظلم المكان )
الوشوشة الثالثة :
(نرى عرضاً للبروجيكتر للحرب الشمعونية على عشتار 2003 م، لقطات سريعة للغارات والأنقاض والأطفال والأمهات الثكلى والمقابر الجماعية، ينتهي العرض وتثبت الصورة على حدائق بابل المعلقة، يدخل صوت المارش الجنائزي تزامن مع صوت أغنية رثائية ) :
عشتار لا تتألمي ….. عشتار لا تتهشّمي
أطفالك كهلا ……… أطفالك قتلى
النسوة ثكلى ……….. والأرض في حممي
(الشارع العام / يضاء المكان فيدخل ثلاثة مواطنين من ذوي الضحايا وهو يدورون بصرخات صمّاء .. بعضهم يمسك رأسه متألماً والبعض يمسك بطنه مع مؤثر صوتي صارخ .. حتى يخرجون فيدخل ونيس الملثم ليعبّر عن مكنون العشتاريين على جدران الشارع )
ونيس: كم طفل على ظهر التأريخ يولد وكم طفل من رحم عشتار أجهض .. إلى متى يقتلنا الصمت؟! ابعدوا شمعون فما جاءنا إلا أفيون
(يكررها حتى يخرج، يدخل بعض المواطنين يقرؤون دعوات ونيس فيصرخ الجميع في هتاف واحد وكأنهم في مظاهرة )
الجميع: ابعدوا شمعون ما جاءنا إلا أفيون (يكرروا العبارة وما إن تقرع الأجراس يهرول الجميع عن المكان ، يدخل أبو نواس بملامح تبدو للعيّان بأنه صحفي متعجرف، يمزق اللافتات ويصور العبارات التي كتبها ونيس على الجدران)
أبو نواس: أغبياء.. يريدون الأمن والسلام .. وهم يتعمدون زعزعة الشارع في عشتار، حتماً أنهم مصابون بمس الحرب، يريدونها حرب مستمرة .. أخ ٌ لو أعرف من يكون هذا الرجل البخّاخ لنصبت له فخاً وسلمته للجهات الأمنية.. لو يتحقق هذا فسيكون سبق صحفي أجني منه أرباحاً وشهرة تصل إلى أقصى الشرق والغرب.. مانشيت في الصفحات الأولى … أبو نواس والكشف عن الرجل البخاخ (يسمع أصوات المواطنين المتظاهرين من بعيد فيبحث عن مصدر الصوت) عادوا ثانية.. يجب اغتنام الفرصة (يتوجه ناحية الصوت في الخارج، يأتي صوت الوشوشة مع إظلام المكان )
الوشوشة الرابعة  :
(بقايا مكان / مسار ضوئي أرضي باللون الأخضر من خارج الكالوس إلى بقعة من المسرح تقبع فيها ( زينب ) الفاقدة طفلها والمصابة بمرض عضال ، ترتدي فستاناً أسود وطويل مع حجاب الرأس حيث نائمة على الأرض ، تسلط بقعة ضوئية زرقاء في الجانب الآخر للمسرح حيث الرحى يخرج منها طفل بملابس مخرّقة )
طفل : أماه.. أماه.. لا زلت نائمة.. لماذا تركتني وحيداً ؟! لماذا لا تسألين عني؟! كم اشتاق إليك (يحاول الخروج من البقعة لكنه لا يستطيع كأنه في مكان لا منفذ له) سحبوني من باب المدرسة وأغمضوا عيناي حتى وجدت نفسي في هذا العالم.. أتعذب يا أمي.. أتعذب (يسقط وهو ينتحب في بكاء وتطفأ  البقعة الضوئية )
زينب: (تفزع من كابوسها فجأة) ولدي.. ولدي.. ولدي لا زال حياً.. أي الجهات توصلني إليك.. يا راد يوسف إلى يعقوب سالماً.. رد لي ولدي سالماً (يعود صوت بكاء الطفل حتى يتحول إلى أصوات وحشية ، تسلط بقعة ضوئية حمراء على خاتون وهي تدور الرحى ضاحكة بكل شراهة ولذة) صوت من هذا؟! من أنت ِ ؟!  (تذهب لترى بالمنظار) لا أرى أحدا ً …
خاتون : وهل يعود الميت حياً ؟!
زينب: ولدي لم يمت (وكأنها عرفت الصوت) إنها أوردة الإحباط التي تراودني حتى استسلم لها.. كلا.. لن اسمح لك هذه المرّة …. ليت أني أراه فأموت لأستريح
خاتون : وهل في الموت راحة ؟!!!
زينب: ربما.. لمثل حالي يكون راحة.. كنت أراه.. أسمع صوته مستغيثاً.. أتعذب يا أمي.. أتعذب.. ليت أني اعلم مكانه ولكن كيف وكل الجهات مغلقة هنا (تحاول الخروج من البقعة بمد يديها خارجها )
خاتون: (بصراخ) لا.. ممنوع الاقتراب .
زينب: الاقتراب إلى أين ؟!! و أنا لا أرى إلا هذا المكان
خاتون : ما ترين غير هذا المكان لأنك تسكنين السراب الذي سيوصلك للجنون .. طفلك أخذه الموت .. أخذه الموت
زينب : كلا .. كلا … قلبي يخبرني أنه سيعود قريباً .. انه قلب الأم
خاتون: سيعود حتماً.. سيعود مكفناً بخرقة الدم (تطفأ الإضاءة الحمراء وتبقى البقعة التي تقبع بها زينب)
زينب: لا.. هذا محال.. محال (تذهب لتنظر من خلال المنظار عدة مرات ذهاباً وإياباً بشكل سريع ،، حتى تعود مكانها وتهدأ من روعها) آه اللعنة على هذه الهواجس القاتلة.. أما يكفي هذا القلب الطاعن في جحيم الانتظار.. يا أرواح الفجيعة.. أما كفت دماء أجسادكم المهدرة وقد شربتها الأرض بدل الماء؟! أما كفت رحى الآلام وقد دارت تنخر جسدي المتآكل (تكشف رأسها الأصلع) أما كفى هذا الرأس المشتعل ناراً حتى أصبح أصلعاً؟! يا نار إبراهيم كوني برداً وسلاماً على قلبي وجسدي.. حتى ألقى ولدي (تهدأ فنراها وكأنها تهزّ مهد ولدها تزامن لصوت بكاء طفل رضيع) دلي لوي يا طفلي دلي لوي.. دلي لوي يا طفلي دلي لوي (يدخل صوت الوشوشة فتطفأ الإضاءة تدريجياً ويظلم المكان)
الوشوشة الخامسة :
(غرفة مكتبية صغيرة جداً وبلا نوافذ، صورة معلقة للمناضل الثوري آرنسيتو تشي جيفارا، إضاءة خافتة صفراء، ميدون جالس ويقابله ونيس)
ميدون : تجتهد كثيراً ، أصبحت دعواتك الثورية حديث أهالي عشتار جميعاً
ونيس : وما الفائدة والنتائج خاوية
ميدون : صبراً يا رجل … لا تيأس .. سيأتي اليوم الذي ينفجر فيه الصمت
ونيس : متى ؟!
ميدون : قريباً سيأتي ذلك اليوم …. قريباً
ونيس : الحياة لا تطاق هنا … من يصدق .. عشتار مدينة الذهب والماء تفتقر لمقومات الحياة
ميدون : أزمة قاهرة لكنها ليست بجديدة وقد اعتدنا عليها منذ زمن
ونيس : وإلى متى هذا الصمت منهم ؟!
ميدون : لكل مشكلة حل ولكل أزمة نهاية
ونيس : خاطبناهم بشتى الوسائل دون جدوى.. بل يعتبرونها فوضى.. ماء عشتار يسقي الغريب وعشتار في شحّ رهيب.. قصفوا مولدات الكهرباء وكأن شيء لم يكن !!
ميدون : استمر أنت في نشر دعواتك ولا عليك
ونيس : (ضاحكاً بسخرية) باتت لا تسمن ولا تغني من جوع
ميدون : (بصراخ وتوبيخ) لا … لم أعهدك هكذا يا ونيس
ونيس : لكنه الواقع يا أستاذي ميدون
ميدون : كلا .. الم ترى الحشود من المتظاهرين ؟! من صنع هؤلاء ؟! من صنع هذا الجيل المقاوم ؟!
ونيس : و لم يتغير شيء
ميدون : لا وقت للموت
ونيس : الموت !!
ميدون : ما دامت دماء الثورة ضد الظلم مجمدة بداخلك فهي بداية الموت يا ونيس (يحمل صورة جيفارا إلى ونيس) تأملها جيداً ..
ونيس : جيفارا .. .
ميدون : لم يكن مسلماً لكنه كان ناصراً للإنسانية .. قائد للثورة الإنسانية ضد الظلم
ونيس : جيفارا (يضحك بيأس) تريد منا أن نكون جيفارا !! قائداً يملك جيوشاً .. يملك سلاحاً .. أما نحن … .
ميدون : وكان يملك البصيرة.. لا زال صدى دعواته وأفكاره ضد الظلم تدوّي ليومنا هذا.. هل نسيت ؟!
ونيس: (مسترسلاً بمقولة لجيفارا) لا يهم متى وأين سأموت
ميدون : لكن المهم  أن يبقى الثوار منتصبين يملأن  الأرض ضجيجاً
ونيس : كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين
ميدون: (يخاطب ونيس) وهذا مشروعنا.. ثورة ضد الظلم .. بالبصيرة عن طريق الإعلام الفاضح .. ألا تؤمن بأن هذا السلاح أقوى من أسلحتهم ؟! كان جيفارا … وكان غاندي … فقط امتثلوا بالإمام الحسين كثائر إنساني فانتصروا
ونيس : واليوم جاء دورنا
ميدون : اجل يا ونيس
ونيس: (تعود معنوياته عالية) سننهض وننتفض حتى يخرج المحتل من أرضنا.. دعنا الآن من هذا.. وحدثني ما هي آخر أخبارك ؟!
ميدون : أخباري !! ليست مهمة الآن .. المهم عشتار
ونيس : ولكنها بالنسبة لي مهمة
ميدون : ليس هناك جديد غير أنهم أقالوني من عملي وأغلقت جميع الصحف أبوابها في وجهي
ونيس : هكذا فجأة … دون سبب !!
ميدون : …….. .
ونيس : أجل فهمت الآن … فهمت
ميدون : الخوف يجتاحني كثيراً
ونيس : وهل يجب أن تخاف ؟!
ميدون : نعم .. لأني أشتاق لهم .. شقيقي الوحيد وأقاربي المهجرين .. أخاف الموت ولا أراهم ثانية
ونيس : عذراً يا أستاذي .. لم أقصد ان افتح جرحك .. سيعودون بإذن الله عندما تستقر الأوضاع
ميدون : الجرح ساكن بأحشائي ولكن ليس كجرح عشتار الذي يكبر كل يوم .. إنهم يريدون مصادرة أذهاننا ووضعها في قوالب مجمدة
ونيس : لم أفهم
ميدون : بالأمس القريب.. عرضت مكتبتي للبيع بأرخص الأثمان.. تصور لم يقف رجل واحد يساومني في ما اعرضه
ونيس : معقول !! عشتار عاصمة الثقافات !! عهدنا أهلها يتهافتون على المكتبات ويلتهمون ما تحتويها التهاماً
ميدون : كانوا مجانين على الكتب واليوم لا أحد .. لا يقرأن غير الصفحات البيضاء
ونيس : لا أحد !!
ميدون : انعدام الأمان.. وتسكع في شوارع وتعطيل للأعمال.. هذا هدف شمعون.. فوضى يتوه فيها العشتاريين بحثاً عن رغيف يسد جوعهم .. فلا يفكروا في تغذية  أذهانهم
ونيس : كالبهائم !! هكذا يريدونها
ميدون : تماماً .. يريدوننا لا نفكر إلا في ملء بطوننا وتجويف عقولنا
ونيس : ولماذا تبيع أنت مكتبتك وهي أغلى ما تملك ؟!
ميدون : بل كل ما أملك .. الجوع يقتل كل شيء يا ونيس .. ربما أصبحت في سرب البهائم
ونيس : و لهذه الدرجة وصل بنا الحال ؟!
ميدون : وأكثر .. الفقر الذي يهددنا مدعاة لتحويل العشتاريين إلى همج ٍ يتقاتلون من أجل قطعة رغيف
ونيس: قالها سيد البلغاء (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) اللعنة على الحرب.. منذ عصور الأنبياء وإلى يومنا هذا و عشتار كمركب تغرق في بحور الدم .. تحترق .. حروب تتوارثها حروب
( يدوران حول بعضهما )
ميدون : ماتت الأحلام
ونيس : أطفالنا تموت وقلوبنا تحترق
ميدون : وهناك بقايا تنتظر فريستها كالبهائم
ونيس : صوت عشتار يدوي في كل مكان .. صوتها المبحوح الحزين
ميدون : وتبقى نائحة لا تنام
ونيس : يقولون أن عشتار مريضة
ميدون : ويقولون أنها تحتضر
ونيس : طوابير من الموتى رأيتهم يخرجون من الأجداث .. انه الدمار
ميدون : إحدى مبررات حرب شمعون على عشتار
ونيس : ماذا !
ميدون : الكذبة الكبرى لمشروعية الحرب الأخيرة
( تطفأ الكهرباء وتبقى الفوانيس موقدة )
ميدون : آه .. أطفئوها ثانية
ونيس : أعيدوا النور أيها الحمقى
(يسمع صوت التفجيرات والغارات، يصرخان صرخة صماء مع مؤثر موسيقي، تتوقف الغارات فتتوقف صرخاتهم الصماء، يقفان في منتصف المسرح وهم يصرخون عدة مرات) لن نستسلم
الوشوشة السادسة :
(الشارع العام / يدخل ونيس ملثماً كالعادة برش عباراته الفاضحة بشكل سريع على الجدران)
ونيس: (يكتب) عشتار تحترق.. احموا الناس من شمعون.. الماء واجف والعالم ينظر واقف.. أصبحت مستشفياتنا مقابر للموتى لا للعلاج (تقرع الأجراس فيفر هارباً ويدخل أبو نواس برشة البخاخ وكاميرته الفوتوغرافية وينظر للمكتوب)
أبو نواس : يسمعون ولا يعون.. يجب تدارك الوضع وإلا نشبت حرباً ضرام تحرق الجميع (يكتب على الجدران) لن يخرج شمعون حتى تستقر الأوضاع .. كل شيء بيدكم أنتم.. الفوضى لن تعود عليكم إلا بالهلاك وكأني أراها حرباً أهلية طاحنة (يقرأ المكتوب على الجدار ملتفتاً ) يحيى ونيس محفوظ ..
أبو نواس: (متهلهل) ونيس محفوظ !! أخيراً وصلنا إليك أيها اللعين.. من يلعب بالنار لن يرى غير النار
( يسجل اسمه ويصور العبارات المكتوبة ويحمل أدواته الصحفية ويخرج )
الوشوشة السابعة :
(بقايا مكان / مسار ضوئي أرضي باللون الأخضر من خارج الكالوس إلى بقعة من المسرح تقبع بداخلها  زينب وبحالة من الهلوسة كالمجنونة وبقعة حمراء تقبع بداخلها خاتون )
زينب: سأنتظرك يا ولدي حتى تعود من مدرستك واصطحبك إلى مدينة الملاهي
خاتون: (ضاحكة بشماتة) أما مللت طيلة هذه الأعوام وأنتي تسكنين الوهم والقلق
زينب: أنت ِ ثانية.. مهما صارعتني هذه الرياح سأقاومها.. ارحلي عني.. ارحلي.. لن أكون لعبة بيديك.. ليس لك مكان هنا
خاتون : إن لم تملي المكان فالمكان قد ملّ منك .. طوابير من بني عشتار ينتظروا الدخول لهذا المكان
زينب : ( مستبشرة ) هل من بينهم ولدي ؟! ( تكرر سؤالها )
خاتون : (في تجهم وتنهم) ولدك !! لما ترتدين السواد ؟! أليس حداداً على ولدك ؟!
زينب : لكنه لم يمت .. ارتدي سواداً لفراقه وسيعود قريباً وارتدي فستاني الأبيض
خاتون : اسمعي يا زينب .. .
زينب : لا أريد سماعك .. أنت ِ كاذبة .. غادري المكان
خاتون : ولكن يجب أن تعرفي أمراً
زينب: لا تحاولي.. لن اسمح لك فرض سيطرتك علي.. لأنك لن تقدري (تضحك وتبكي) فأنا بنت عشتار شامخة الروح.. بنت الأرض التي طابت بآدم ونوح
خاتون: (مستهزئة) لتبقي في جحيمك لعل جحيمك الذي تأوين إليه .. يأوي إليك فيقبرك مكانك (تطفأ الإضاءة)
زينب: (تمتد على الأرض) دعوني وجسدي البالي.. دعوني أتنفس أملي وأشمّ رائحته الزكية.. ربما تموت آلامي (صراخ وأنين موجع) آه.. يبدو أن المرض قد بدأ آخر هجماته على جسدي .. لا أريده أن يقتلني.. آه ولدي.. أخاف الموت فلا أراك ؛ فالموت يسمع الأحياء لكنه لا يراهم .. لا يراهم ..هم .. هم ..
( تخمد أنفاسها الأخيرة بدخول صوت المارش الجنائزي )
الوشوشة الثامنة :
(غرفة مكتبية صغيرة جداً وبلا نوافذ ، صورة معلقة للمناضل الثوري آرنسيتو تشي جيفارا ، إضاءة صفراء خافتة ، ميدون على مكتبه يتصفح جريدة الزمان وهو يحتسي قهوة الصباح )
ميدون: (يقرأ الجريدة) جميع الأوضاع في عشتار على أحسن ما يرام، تم استيراد أفضل الأجهزة الطبية في جميع المستشفيات وتم نقل مئات الحالات لمستشفيات الدول المجاورة على حساب الحكومة الشمعونية، كما وصلت إمدادات غذائية وتم توزيعها على جميع المحافظات، وأخيراً تم القبض على مجموعة من العصابات التي تحارب الأمن والسلام لأهل عشتار مساء الأمس. الكاتب / أبو نواس  (ينتهي من القراءة) كل هذا زيف وطمس للحقائق (يطرق الباب) (مستاء) من هناك ؟!
ونيس: (يدخل مسرعاً) هل سمعت الأخبار ؟! (يرمي عليه الجريدة)
ميدون : يزيفون الحقائق.. يضحكون علينا.. وكأن عشتار أصبحت مدينة مخملية .. لا بد أن نفضح أمرهم
ونيس : من ؟!
ميدون : محرري هذه الجريدة وكاتب هذا المقال المزيف .. لا بد أنهم اشتروه بأموالهم ليكتب ما يريدون (يضرب الطاولة) كيف يبيعون ضمائرهم من أجل المال ؟! كيف يشوهون مهنة الصحافة الشريفة ؟!
ونيس : الجوع … الم تخبرني أن الجوع يقتل كل شيء في الإنسان
ميدون : إلا الضمير … ثم إنهم ليسوا جياع كالبسطاء من العشتاريين بل إنهم ينعمون بما يكفي ويزيد لكنه الطمع
ونيس : لكنه حدث.. ماذا لو أخبرتك أنني لم اقرأ الأخبار بل شاهدتها على القنوات الفضائية وبتصريح هؤلاء البسطاء من معظم محافظات عشتار بأن الأمن قد ساد في عشتار وعادت المياه إلى مجاريها .. والكل ينام مستقر البال لا يشكو جوعاً ولا شيئاً وجميعهم يردون الفضل إلى حكومة شمعون
ميدون : ماذا ! هذا يعني أن الأمر وصل للعالم جميعاً .. يضحكون على العالم وكيف حدث هذا ؟!
ونيس : يبدو أن الصحفيين المتعاونين مع حكومة شمعون قد داروا على المحافظات التي شاهدتها وأخذوا يرشونهم بآلاف الدولارات حتى ينقلوا الأخبار التي يريدونها وهذا لمصلحتهم طبعا حتى تبقى حكومة شمعون تنعم بماء وذهب عشتار .. وعلى رأسهم أبو نواس … كاتب هذا المقال
ميدون : كلما تقدمنا خطوة للأمام واستبشرنا ، سبقونا عشرات الخطوات ، لم نستطع مجاراتهم .. علينا أن نخرج
ونيس : إلى أين ؟
ميدون : يجب أن نفعل أي شيء
ونيس : الأوضاع صعبة جداً .. يبحثون عنا في كل مكان .. يجب أن تهدأ الأوضاع حتى نخرج
ميدون: أنت جبان (يقترب من صورة جيفارا ) لا استطيع العيش ودماء الثورة متجمدة بداخلي .. هكذا سأموت
ونيس : لكن ظرف جيفارا يختلف عن ظرفنا هنا
ميدون : أي ظرف؟! أي ظرف؟!! (يذهب ويرمي الكتب من مكتبه) أي ظرف (يفتح كتاباً تلو الكتاب وهو يقرأ منها علفاً وفي هلوسة  وهو يبكي ويضحك، ينظر له ونيس مذهولاً حتى يطلق صرخته الصماء فيسقط أرضاً، يهدأ فنراه يجمع الكتب والأوراق المرمية على الأرض ثم يتوجه إلى ميدون الذي لا زال يعلف الكتب ، يضع يده على كتفه وهو يردد في استياء )
ونيس : لن نستسلم .. ( يكررها عدة مرات )
الوشوشة التاسعة :
(المعتقل / الذي يظهر بأنه ملجأ صحي ، ميسون وأبو نواس يمثلان الأطباء بارتدائهم الزي الرسمي وفي حقيقتهم جلادين من أتباع حكومة شمعون، ميدون و ونيس يمثلان المرضى، لائحة وهمية كبيرة مكتوب عليها (الملجأ الصحي)، أربعة كراسي.. حبال متدلية من السقف، سلّم في إحدى الجوانب، برميل ماء وبرميل آخر للدم.. تفتح الستار والمسرح مظلم، نرى ميسون وأبو نواس يسحبون ميدون و ونيس إلى داخل المعتقل كالبهائم وهما مخدران، يرميان كل منهما في جانب من المعتقل ويخرجان عنهما .. إضاءة حمراء عالية .. تقرع الأجراس فيفر ميدون و ونيس من نومهما فزعين .. يتفحصان المكان حتى يلاحظ كل منهما وجود الآخر )
ميدون : ونيس !!
ونيس : ميدون !!
ميدون : أين نحن ؟!
ونيس : لا أدري
ميدون : ولماذا ؟!
ونيس : لا أدري
ميدون : وكيف ؟!
ونيس : لا أدري
ميدون : ومن يدري ؟!
ونيس : لا أدري  ( يتحسس الأرض ) نحن على الأرض
ميدون : ( ساخراً ) ظننت أننا على سطح القمر
ونيس : انظر إلى تلك اللافتة
ميدون : (يقرأها) الملجأ الصحي!! (يكررها بدهشة  ويضحكان معا ) هل نحن مجانين ؟!!
ونيس : أن تكون مجنوناً في دنيا الجنون خيراً من أن تكون العاقل الأوحد
ميدون : إلى ما ترمي ؟
ونيس : المجانين هم الأوفر حظاً في الحياة
ميدون : وكيف ؟
ونيس: بما أننا في ملجأ فإننا سنحظى بالرعاية اللازمة.. الماء.. النور الذي لا نراه في الخارج إلا سويعات .. الطعام الفاخر والشهي
ميدون : يكفي هذا … العقل زينة الرجل أيها المجنــــ … .
ونيس : المجنون .. أنا مجنون .. هل تستطيع تغيير هذه الحقيقة ؟!
ميدون : وما فائدة ما نحظى عليه  هنا ونحن بلا عقل
ونيس : وما حاجتنا للعقل ؟ لنفكر ؟؟ دع غيرنا يفكر .. فقد فكرنا حتى ضربنا الجنون
ميدون : لا .. تتحدث وكأنا حقاً مجانين
ونيس : وماذا تفسر وجودنا هنا !!
ميدون : لكن ملامحنا وحديثنا لا يوحي إلا بأن عقولنا في أعلى درجات النضج، ثم هل هناك في العالم مجنوناً يعرف أنه مجنون
ونيس: (مشيراً لنفسه)  أنا …. أنا اعترف أني مجنون
ميدون : لا … هذا برهان قاطع بأنك عاقل
ونيس : هل تراهن على ذلك ؟ انتظر قليلاً وستكتشف بنفسك
ميدون : انتظر ماذا ؟!
ونيس : الأطباء والنزلاء في هذا الملجأ
ميدون : ( يضحك ) الأطباء !! وهل وجودنا في هذا الملجأ مع الأطباء يعني بأننا مجانين ؟ ربما جئنا كزائرين للنزلاء أو لمهمة صحفية نكشف فيها حالة الملجأ ونزلاءه
(يسمع أصوات ميسون وأبو نواس وهما يدخلان بزي الأطباء المزيف )
ميسون : أهلاً وسهلاً بكما
ميدون : من أنتم ؟!
ونيس : أنهم الأطباء .. ألا تر زيهم  ؟
أبو نواس : أحسنت … يبدو أنك تتمتع بنظرة ثاقبة
ميدون : ولماذا نحن هنا ؟!
ونيس : ( مبسوطاً ) لأننا مجانين
ميدون : اصمت يا ونيس .. لم أسألك أنت
ميسون : يبدو أنك لم تتكيف على المكان كصاحبك .. ثق أننا سنجعلك تتكيف .. كيف لا وهذا واجبنا والخطوة الأولى للعلاج
ميدون : (غاضباً ) أنا لست مجنونا ً
ميسون : ومن قال بأنك مجنون ؟!! أنت فقط مريض وتمر بأزمة نفسية
ميدون : وماذا تريدون منا ؟!
أبو نواس : العلاج فقط
ميدون : ومتى سنخرج من هنا ؟!
أبو نواس : عندما تخرجان من أزمتكما الخطيرة
ميدون : وما هي أزمتنا الخطيرة ؟!
أبو نواس : حبكم للفوضى .. انقلابكم ضد مصالح الشعب العشتاري حتى أصبح هذا الشعب لا يتقبلكما
ميدون : ماذا ؟!
ميسون : أفكاركم المسمومة التي تبثونها لا تتطابق مع إرادة العشتاريين
أبو نواس : أنتما مصابان بمس الإرهاب  ( مؤثر صوتي )
ونيس : لم اسمع بمرض يدعى الإرهاب .. ثم إن حديثكما لا يوحي بأنكما أطباء ولا نحن مرضى
ميدون : وكأنكما محققان ونحن متهمان !!
ميسون : انه مرض العصر .. وللأسف أنتما من ضحاياه
ميدون : ما تقولان ؟ هذا كذب وافتراء باطل .. أهل عشتار معنا لأننا نقاوم المحتل .. ثم هل من يقاوم المحتل ويحارب الظلم يصبح إرهابياً ؟!!
أبو نواس : وهل يوجد محتل لتقومان بعملية المقاومة ؟!
ونيس : حكومة شمعون وجيشه الغاصب
ميدون : ليدعونا وشأننا ؛ فأهل عشتار أدرى بشعابها
ونيس : لماذا يقحمون أنفسهم في مكان لا يتقبلهم
ميسون : بقاءهم لمصلحة عشتار ومن لا يتقبلهم لا يعرف مصلحة عشتار
ميدون : بل لمصلحتهم
ميسون : أيها الغبي .. ألا ترى الجنود الشمعونية منتشرة في عشتار ؟ لأجل ماذا ؟ تسهر الليالي لمن ؟ أليس من اجل أن تستقر عين عشتار
ميدون : أجل نراهم .. نراهم كيف يضربون النساء .. ويروعون الأطفال ويهدمون المنازل على أهلها .. ورأيناهم وهم يسرقون ويخطفون … .
أبو نواس : أوافقك الرأي بأن كل هذا حدث ولكن مع النظام المقبور وليس مع حكومة شمعون .. هل نسيت أن حكومة شمعون خلصتكم من نظام ديكتاتوري  والشعب العشتاري يشكرون حكومة شمعون لذلك
ونيس : شمعون والحكم السابق .. عملتان لوجه ٍ واحد
أبو نواس : وجه واحد !!
ميدون : وجه الإرهاب والديكتاتورية
ميسون : ( زافراً بوجهه ) أيها الصعلوك .. هذه جناية كبيرة بحق شمعون
ميدون : إنها الحقيقة
ميسون : الحقيقة أنكما لا تفقهان شيئاً ، يبدو أن مكوثكما هنا سيطول
أبو نواس : لنرضخ كلاهما  للعلاج
( يخرجان الحبال ليربطان ميدون و ونيس على الكراسي ويخرجان الحقن لتخديرهما )
ميدون : ماذا هناك ؟!
ونيس : ماذا تفعلان ؟ لماذا تقيداننا ؟!
ميسون : إنها المرحلة التمهيدية للعلاج
(يقومان بإعطائهما الحقن  حتى يصرخان صرخة مدوّية ويظلم المكان )
( تسلط بقعة ضوئية زرقاء في جانب من المسرح ، ميسون على كرسيه الهزاز ويقابله ونيس وهو بحالة من الصداع  )
ميسون : ( يناول ونيس إبريق الشاي المغلي ) اشرب
ونيس : ما هذا ؟! لم اطلب الشاي وإنما طلبت الماء
ميسون : هو أمر ٌ وليس طلب .. هيا أشرب
ونيس : واشرب هذا كله .. انه يغلي
ميسون : هيا اشرب.. اشرب (يرغمه بالشرب فيفرغه في فمه ، فينتفض ونيس و يفرغ الشاي وهو يصرخ )
ميسون : اخبرني .. ما علاقتك بذلك التافه ميدون ؟!
ونيس : ميدون ؟! نحن أبناء الأرض
ميسون : حقاً .. ظننت أنكما من زحل .. اسمع .. لا تكن ساذج معي وإلا …. .
ونيس : وإلا ماذا ؟ ماذا تريد مني ؟ لماذا تعاملني هذه المعاملة ؟!
ميسون : الم تعرف بعد ؟
ونيس : لا
ميسون : في الخامس من آيار … الساعة العاشرة مساءاً .. أين كنت ؟
ونيس : كنت نائماً في منزلي وأين سأكون في هذه الساعة المتأخرة ؟
ميسون : ( يضحك ) لكنك كالبوم .. تثور ليلاً وتنام نهاراً
ونيس : لم افهم
ميسون : لم تفهم؟!! (يسحبه من شعره لبرميل الماء ويطمس وجهه بداخله) عليك أن تعترف.. عليك ماذا ؟؟ تعترف .. .
ونيس : اعترف بماذا ؟ لم افعل شيئاً .. ارحمني أرجوك
ميسون : بل فعلت .. لماذا تضع رأسك الهشّ برأس حكومة شمعون ؟
ونيس : لا … لم يحدث هذا .. كنا في موضع الدفاع لا الهجوم .. نقاومهم حتى يخرجوا من أرضنا وهذا من حقنا
ميسون : وهل تعلم الآن انك تحت رحمة شمعون ؟ القفص التابع لحكومة شمعون ؟؟
ونيس : شــ … . شـــ معون !! ولماذا ادعيتم بأنكما أطباء ؟ لماذا كذبتم علينا ؟!
ميسون : الدعوات والمظاهرات التي حرضت وقلبت العشتاريين على حكومة شمعون … من كان اليد فيها ؟
ونيس : لا أعرف
ميسون : وكيف كنتما تقاومان حكومة شمعون ؟
ونيس : لم نقاوم أحداً
ميسون: (يضحك) لكنكم اعترفتم بالمقاومة .. فبماذا كنتم تقاومون ؟! بماذا ؟!! (يسحبه لبرميل الدم) لم تقاوم أحداً .. إنها بركة دماء تغلي .. وأي دم .. دم للكلاب والدواجن .. ستشربها إن لم تفصح
ونيس: (منتفضاً ) لم نقاوم أحداً .. لم نقاوم أحداً  ( يطمسه في برميل الدم حتى يفرغ الدم من فمه ) مثلما ادعيتم إنكما أطباء .. نحن أدعينا بأننا مقاومان
ميسون: (يضحك) للمرة الأخيرة.. من كان له اليد في تلك المظاهرات؟! من ؟ اعترف وإلا سلخت جلدك عن جسدك
ونيس : لا أعرف .. لا أعرف
( يضربه بالسياط و ونيس يصرخ )
ميسون : اعترف ….. من ؟!
ونيس : لا أعرف …. لا أعرف
( تطفأ الإضاءة وتسلط بقعة ضوئية أخرى حيث أبو نواس على كرسيه مشعلاً سيجارته ويقابله ميدون وهو شديد الإعياء من التعذيب )
أبو نواس : أين كنت ؟؟ أين كنت ؟؟
ميدون : نائماً …. كنت نائماً
أبونواس : لماذا قتلتم الجنديان الشمعونيان  في تلك الليلة ؟
ميدون : لم نقتل أحداً
أبو نواس : ومن قتلهما ؟!
ميدون : لا أعرف
أبونواس : وكيف كنتما تقاومان حكومة شمعون ؟!
ميدون : بالكلام … بمنشور الصحف .. ثم بالدعوات واللافتات
أبونواس : حتى وصلتم للمظاهرات وطلق النار
ميدون : لا … لم نصل
أبو نواس : ومن صنع المظاهرات ؟
ميدون : لا أعرف … اذهب واقبض على المتظاهرين واسألهم ؟ أرجوك أخرجني من هنا ..
أبو نواس : المتظاهرين ؟!! ( يرسم سلم على الجدار ) تريد الخروج .. هيا فالتصعد .. هذا السلم واخرج  ( يقوم ليتوجه للسلم الحقيقي فيوقفه أبو نواس )
أبو نواس : لا … ليس هذا
ميدون : ماذا ؟!
أبو نواس : ( مشير للسلم المرسوم على الجدار ) بل هذا
ميدون : كيف ؟!!
أبو نواس : وكيف يصعدون السلم يا ميدون ..
ميدون : لكنه ليس إلا رسماً !! فكيف اصعده
أبونواس : اكشف لي أسماء المتظاهرين ومن يقف خلفهم .. خططهم  .. أين يجتمعون ومن يمثلهم .. عندها سيتحول هذا السلم إلى حقيقي وتخرج منه  إلى حياتك
ميدون : لكني لست من هؤلاء ولا أعرف شيئاً عنهم
أبو نواس : هذا لا يقنعني .. عليك أن تعترف وإلا ستبقى أسير هذا المكان طول حياتك
ميدون : لا جديد لدي ….. نحن نقاوم بالدعوات والصحف ولا علاقة لنا بالإرهاب والسلاح الناري
أبو نواس : تصرّ على التكتم .. لن تعترف ؟!! إذاً  تحمل ما يأتيك هنا .. سأسلخ جلدك حتى الموت .. حتى الموت .. سمعت ؟!
ميدون : اعترف بشيء لم افعله !! لا
أبو نواس : من قتل الجنديان ؟ من ؟!
ميدون : لا أعرف
( يضربه بالسياط وميدون يصرخ صراخاً مدوياً )
أبو نواس : من ؟!
ميدون : لا أعرف … لا أعرف
(تطفأ الإضاءة وتوقد إضاءة حمراء وسط المعتقل ، يجتمع ميسون وأبو نواس وهما يسحبان ميدون و ونيس وهما في حالة من الهذيان  وهما ملطخان بالدماء ، يضعانهما على الكراسي )
أبو نواس : كانا يقاومان بنشر الدعوات والكلام ضد حكومة شمعون .. انه البرهان الوحيد الذي كنا نملكه ضدهم
ميسون : وهذه المقاومة أخطر من مقاومة المظاهرات وإطلاق النار وما الحل الآن ؟!!
ونيس : التيار الكهربائي
ميدون : لا يهم متى وأين سأموت ؟
ونيس : ولكن يهم أن يبقى الثوار المقاومين منتصبين
ميدون : يملأن الأرض ضجيجاً كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد الفقراء والمظلومين في عشتار
أبو نواس : هل سمعت ما يقولان ؟ هل فهمت شيئاً ؟!
ميسون : يهذيان … لا يؤخذ منهما أي كلام
( يتراجعان للوراء وهما يرددان نفس العبارة ) : أي كلام .. أي كلام
( يتوارى الإثنان ، نسمع صوت رعدي مع اهتزاز للصورة تعبير عن التعذيب بالكهرباء ، نرى ميدون وونيس يرتعدان وكأنهما مصروعان حتى يسقطان من الكراسي  .. يظلم المكان وتعود الإضاءة بمسارين  ضوئيين  خافتين  من الكالوس الأيمن والأيسر ، يخرج ميدون من الكالوس الأيمن عاطساً وبيده مسدساً ماشياً بحركة آلية إلى أن يصل إلى نقطة معينة من المسار الضوئي تزامن مع خروج ونيس من الكالوس الأيسر عاطساً وبيده مسدساً ماشياً بحركة آليه إلى أن يصل إلى نقطة معينة من المسار الضوئي ، فيطلق كل منهما على الآخر طلقة نارية ويسقطان ، يسمع أصوات خارجية لمقاومين وهم يتظاهرون )
انتهت المسرحية
تأليف : حسن العلي
20/10/1430 هـ
 
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت