"الرقص داخل مساحات المابينة: أبحاث في المسرح العربي" إصدار جديد للمسرحي الأكاديمي المغربي (د.خالد أمين)/ بشرى عمور

عن المركز الدولي لدرسات الفرجة، وباللغة الانجليزية، صدر حديثا كتاب بعنوان “الرقص داخل مساحات المابينة: أبحاث في المسرح العربي” للباحث المسرحي الأكاديمي المغربي (د. خالد أمين).
وقد جاء في مقدمة الكتاب التي انجزها ستيفن باربر، جامعة لندن (ترجمه عن الإنجليزية عبد العظيم هيندا)
 
يقدم كتاب “الرقص داخل مساحات المابينة: أبحاث في المسرح العربي” للدكتور خالد أمين مجموعة من آخر كتاباته حول ثقافات الفرجة الحديثة والمعاصرة في شمال افريقا؛ وتعتبر هذه المجموعة ملفتة للنظر من حيث اتساع موضوعاتها وعمق تحليلاتها، لأنها تحوي بحوثات دقيقة وجديدة طالت تمكينَ المرأة من خلال ثقاقة الفرجة، وتَبْيِئَةَ كتابات شيكسبير وتغيراتها في المسرح المغربي، والأهم من ذلك قراءةً استثنائية للأعمال المسرحية التي ساءلت  وتفاعلت مع “سنوات الرصاص” في المغرب.
تفاعل خالد أمين بخيال واهتمام لا نظير لهما مع مشروع “تناسج ثقافات الفرجة” الذي أطلقته البروفيسورة إيريكا فيشر ليشته بجامعة برلين الحرة. وفي أعقاب التأزم المستعصي الذي أصاب النقاش الدائر حول مسرح مابين الثقافات، كان تصور المشروع لتقاطعات والتحامات ثقافات الفرجة المحلية والعالمية، والذي تم اقتراحه من منظور تطلعي قوي، قد سبق له أن ألهم كلا من دارسي المسرح وفنانيه (كنورة أمين وربيع مروة بالإضافة إلى آخرين). إن فهم خالد أمين العميق لمشروع التناسج وإمكانياته، بالإضافة إلى معرفته الواسعة بثقافات الفرجة في شمال افريقيا والعديد من نظيراتها العالمية الأخرى، قد جعلت منه دون منازع الباحث الأول والأكثر جدارة لتطوير المشروع في قابل الأيام.
في إحدى الحواشي يستشهد خالد أمين بتقديم رولان بارت للروائي والفيلسوف عبد الكبير الخطيبي: “ما أدين به لخطيبي”؛ حيث يؤكد فيه على أنه والخطيبي مهتمان بنفس الأشياء: “بالصور، والرموز، والآثار، والحروف، والمراسلات، والعلامات. وفي ذات الوقت يزيح الخطيبي كل هاته الأشكال، وبالطريقة التي أراها أنا، فيقودني بعيدا عن نفسي، إلى حيث يتموقع هو، وبطريقة تترك أثرا عميقا في نفسي. يعلمني الخطيبي شيئا جديدا، ويربك معرفتي.” ما يستحضره بارت هو إحساس مألوف لكل من أتيحت له الفرصة للتعرف على خلخلة خالد أمين للمعرفة كما يتضح بجلاء في كل من هذه الأبحاث ومداخلاته العلنية في المهرجانات والندوات. ربما كان من الأنسب أن يُعنون هذا التقديم ب”ما أدين/ندين به لأمين”.
لقد أتيحت لي الفرصة في فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي أقيم بالرباط عام 2015 أن أنضم إلى خالد أمين وإريكا فيشر-ليشتر لمناقشة مشروع التناسج في إطار انتقال ثقافات الفرجة بين الشمال والجنوب، وفي اطار السكان والتأثيرات والمفاهيم. وكما هو الحال مع جميع المفاهيم التي تعمل على تفكيك التفكير المتحجر ، فإن مشروع التناسج قد ولَّد نقاشًا قويا، وأيضا بعض القلق. إنه يتطلب التزاما يقوم على الاعتراف بالابتكار ، وبثقافات الفرجة ، كما هو الحال في مجالات إعادة التشكيل الثقافي الملح، وخاصة في أوقات الاضطراب، وهذا الالتزام هو كيان حيوي تم شرحه بعناية في كل هاته المقالات التي تشكل مجموع هذا الكتاب، كما تم شرحه كذلك في مشاركات خالد أمين في المهرجان السنوي لطنجة المشهدية، الذي يجمع بين الفنانين والعلماء من شمال أفريقيا والعالم من أجل تبادل رؤى ثاقبة تخص ثقافات الفرجة في قابل الأيام المستقبلية.
تشكل استقراءات خالد أمين للفرجة ذاك الذي يشير إليه في سياق عمل الخطيبي باعتباره “نقدا عابرا للحدود”؛ وهو تفكير يمارس ضغطًا على الحدود، ويُكَبْكِبُ تلك القيود المقيدة أو البالية، وفي نفس الوقت يقارن بين تلك الحدود وينسجها، وجنبا إلى جنب يَسْبِرُ أغوارَها. وهذه لَعَمْرِي عمليةٌ فلسفية ذات أبعاد اجتماعية ونظرية؛ ويمكن رسمها أيضًا كعملية مكانية، تعمل عبر الحدود الحقيقية والخيالية للفضاءات الحضرية؛ وكما يؤكد خالد أمين فقد “اجتاحت ثقافات المسرح دائمًا مواقعها الثابتة، لأن المسارح كانت ولا تزال تلك المساحات المابينية التي تنبثق من خلال التعاون ومن خلال المواقع/الفضاءات التي تلتقي فيها الهويات الهاربة …” كلمة “الموقع” نفسها مشتقة في أصلها اللاتيني من فكرة الانشغال بوضع الحدود (كما هو الحال مع القطع الأرضية)، ولكن بمجرد إضافة فكرة “الهويات الهاربة” إليها – بصياغة خالد أمين- فإنه، أي الموقع، يحيل على العبور الملموس، ويحيل على التقاطع الديناميكي الذي يحث على التعاون ، ويحيل على فضاء التشابكات والأفكار، أي ذلك الفضاء المفتوح الذي يجابه تيارات إعادة الاختراع (بالطريقة التي صور بها بوروز BURROUGHS طنجة كمنطقة مابينية حضرية)، ويحيل على المزيج الذي تبدو فيه الحدود المقيِّدة وكأنها قد اختفت بالكامل (لأن أي شيء ممكن في المسرح)، ويحيل أيضا على فضاء التناسج الفرجوي. إن تفكير خالد أمين حول موضوع فضاء الفرجة غني جدا بالأفكار والبصائر.
مما لا شك فيه أن الدراسة المحورية في هذه المجموعة ترتبط بتأمل خالد أمين حول “سنوات الرصاص” في المغرب، التي يبين فيها ذلك الحكي الجريح المرتبط  بتاريخ السجن والتعذيب والإذلال (من الواضح أنه أكثر حدة بالنسبة للسجينات)، والاستجابات العديدة، المباشرة منها وغير المباشرة، في الثقافات المسرحية والثقافات الأدائية الأخرى بالمغرب. “سنوات الرصاص” المغربية ليست معروفة لدى الناس في العالم؛ وربما تكون تلك المناسبة التي دعوت فيها الروائي الطاهر بن جلون للحديث عن صداقته بجينيه Genet وارتباطه بأعمال أرطو Artaud بمعهد الفنون المعاصرة  The Institute of Contemporary Art هي واحدة من المرات القليلات نسبيا التي فيها سمعت الجماهير اللُّنْدُنية على سبيل المثال  بتلك الحقبة من تاريخ المغرب، وقد تحدث بن جلون في سياق الأشكال التجسيدية الخاصة بهذين الشخصين (سجن الصحراء المعروف بتازمامارت يستدعي تذكر سجن الأعمال الشاقة لجينيه)، وتحدث أيضا بكلمات موجزات عن اعتقاله كمتظاهر طلابي وسجن قاس دام ثمانية عشر شهرا. وبنشره نسخةً من هذا الدراسة في المجلة المسرحية الشهيرة “المسرح الجديد الفصلي” بعنوان “ما بعد سنوات من الرصاص في المغرب: مسرحة الذاكرة” (منشور 32، عدد 2، مايو 2016)، فقد نبه خالد أمين الباحثين في جميع ربوع العالم إلى تلك الحقبة. وسيأمل العديد من القراء أن يؤدي هذا البحث إلى كتاب بأكمله في المستقبل طالما أنه يستحق ذلك. يمكن ممارسة القوة القمعية داخليا بطريقة منظمة ومحددة، ويمكن ممارستها أيضا فيما وراء حدود الدولة. ويؤكد خالد أمين على أن “الرصاص” هو أداة ملموسة لتلك القوة، وأن كلمة “رصاصة”  تحيل على هالة عامة من الشعور بالضيق، والذي يعد بمثابة تباطؤ تديريجي تجاه التحلل. فالرصاصة كوسيلة تعني عدم القيمة، مما يؤدي إلى ابطال أهمية الجسد وقابليته للحياة؛ وهذا يشمل كل ما هو جسمي أو اجتماعي على نطاق واسع. وكما يؤكد خالد أمين، بما أن “سنوات الرصاص” قد تحولت إلى مشهد دخل حيز الإعلام بعد أن باتت شيئا من الماضي، وبما أنها بثَّت على هيئة تلفزيونية من هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، فإنها اكتسبت بعدًا إضافيًا، كان يفتقر بشدة إلى وجود الجلادين (بخلاف اللجان الموازية في رواندا وجنوب أفريقيا، والتي قامت بمناقشتها الباحثة المسرحية أناندا بريد Breed Ananda  في كتابها مسرحةُ الأمة  Performing the Nation). يمكن أن يشكل المسرح نفسه فعلًا للرد، سواء كان مدفوعًا بالغضب أو بالرغبة في تعليل الخسارة. إن تأملات خالد أمين حول “سنوات الرصاص” تدل على دلالات كاشفة للغاية تمتد إلى أبعد من المغرب نفسه.
ولعل واحدا من المباهج الاستثنائية لهذه المجموعة تكمن في تتبع خالد أمين لمسرحة وتَبْيِئَةِ أعمال شكسبير في مسرح شمال أفريقيا، بدءًا بأصولها في “النوادي الخاصة ومقاهي النخبة” في القرن التاسع عشر، وصولا إلى اللحظة الآنية. تمتلك أعمال شكسبير قدرة مواكبة الحياة التي تجعلها قابلة بشكل كبير لأن تُخلق من جديد، ويبدو هذا جليا في مسرحية ريتشارد الثالث Richard III وشخصية هاملت Hamlet، لأنها أعمال تمتلك مثل هذا التركيز على إساءة استخدام السلطة، وعلى الثورات وبقاياها، وأنها دائماً حديثة ويمكن توجيهها ببراعة نحو المعضلات والقلاقل في البلدان أو المناطق التي تشهد اضطرابات، والتي تتصور أشكالا جديدة للحرية، آخذةً بعين الإعتبار خطر مواجهة استبدادات جديدة. تتيح أعمال شكسبير للشخصيات المتمردة في واقع الحياة أن تتفاعل مع شخصيات خيالية عابرة؛ ويمكنها أيضًا أن تتحول إلى نوع من الحوارات المربكة بين شخصيات منبوذة انقطع بها السبيل، والتي ترتبط في الغالب ببيكيت Beckett. أعمال شكسبير بمثابة النقيض لكل شيئ تبوأ مرتبة المقدس، وتموضَع فوق النقد . وبفضل جَرَاءَتِهَا، فإنهت تُجَيِّرُ الحوارات المذمومة والأوضاع السافرة العبثية، وحتى الجمع بين الشخصيات من مسرحيات مختلفة في لقاءات غامضة ، كما هو الحال مع نابل لحلو Lahlou Nabyl في أوفيليا لم تمت Ophelia Is Not Dead. إن المقابلة مع لحلو التي أدرجت في هذه المجموعة ، والتي تأتي بعد سبعة وأربعين عاما على ظهور عمله اليافع عام 1968، تُظهِر نفس الافتقار الدائم للقيود (والتي من خلالها قد تتسم أعمال شكسبير بالتواطؤ)؛ ويتجلى هذا في تنحيته للربيع العربي بزعم أنه “خدعة”، وفي تحليله “للعصر الرقمي” الذي شمل كل شيء والذي فيه “تتصارع الأفكار”.
تعمل هيئات العمل التي تم تشكيلها بالتعاون – كما هو الحال مع تعاون خالد أمين الطويل مع مارفن كارلسن من جامعة سيتي في نيويورك، كما هو واضح في كتابه الأخير  “تحطيم مرآة هاملت، وكما هو الحال مع لحلو في المقابلة التي تتحدث عنها هذه المجموعة، مع التذبذب المتقلب في أعمال شكسبير بين مظاهر الحياة الواقعية الملموسة وبين والوهم- لإثبات أن مستقبل ثقافات الفرجة لن يتم تحديده على انفراد، سواء خلف الحدود الوطنية أو المجموعات المتعنتة. إنه يتطلب نقطة التقاء شاملة ومحورية، ومساحة منفتحة ومنصفة، للتقاطعات والترابطات والتناسجات. تعتبر المقالات في هذا الكتاب بمثابة نداء عاجل لمثل هكذا فضاء لامتناهي، تم إنقاذه (إذا كانت هذه الحركة ممكنة) من التصورات المسبقة للمواقع الثابتة للملكية، والتسلسلات الهرمية والحدود.
إذا ما أمعنا النظر من زوايا مختلفة، فإن مجموع الدراسات في هذا الكتاب هي نفسها نوع من المهرجانات، بفضائها الخاص، جنبًا إلى جنب مع خطى مهرجانات ما بعد 2011 التي تتبعها خالد أمين في دراسته حول مهرجانات دول ما بعد الربيع العربي، والتي تشمل مهرجان طنجة المشهدية. وبدل المقاربة المنعزلة، فإنها تنفتح وتتكاثف وتشترك وتنتج إستكشافات جديدة. إن الرقص داخل مسرح مساحات المابينية يدفعنا دائماً، كقراء لخالد أمين، إلى مناطق لا نتوقعها.
 
1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت