"ترنيمة مصرية" وثيقة احتجاج راقية تطالب بالعدل/ د.حسن عطية
اللجوء للتاريخ والحكايات الأسطورية فى المسرح خاصة والفنون والآداب عامة، ليس دائما فرارا من الحاضر، ولكنه قد يكون استعادة لأزمنة مضت، للتحاور معها، وقراءة الحاضر على ضوئها، والتنبؤ بالمستقبل على ضوء الاستفادة من تكامل حدثها الدرامي السابق، وقراءة أحداث الحاضر غير المكتملة بعد، علنا نفهمها ونتدخل فى مسارها، كى تكون نتائجها أفضل من نتائج الماضي، ولصالح المجتمع الراهن، فليس ما حدث فى الماضى لابد وأن يحدث بتفاصيله اليوم، وألا سنكون عبدة هذا الماضي، وحكائيين لرواياته المتسقة مع زمنه، وغير المطلوب بالضرورة أن تتسق مع زمننا.
ولأن الفن اختيار، والاختيار مسؤولية المبدع، ومسؤوليته هذه يحددها وعيه الصحيح، وليس المزيف أو المغلوط، بحركة مجتمعه ودور الفن داخلها، ولذا فهو لا يختار، أو ينبغي عليه ألا يختار، حكايات وشخصيات الماضي دون أن يمتلك رؤيته المتكاملة التى يريد أن يقدمها عبر مسرحه لجمهوره فى زمنه الراهن، ومن ثم فهو لا يختار من ماضيه غير ما يريد أن يقدم من خلاله رؤيته هذه لمجتمعه وزمنه، وإلا لصار نزهة جمالية فى ماض ولي.
وهذا ما فعله المخرج “سعيد سليمان” المغرم بالحكايات الأسطورية ، والمجِرب دوما فى المسار الذى أنتهجه فى مسرحه، والتى قد تتشابه بعض أطره العامة وتفصيلاته، ألا أنه يمثل فى النهاية عالمه الخاصالمغرم بالجواء الأسطورية والشعائرية، ولذا فى عرضه الأحدث (ترنيمة الفلاح الفصيح) يلجأ مع كاتب نصه الدرامي وأشعاره “محمد حمد” إلى التاريخ المصرى القديم، مؤكدا به على أننا نملك تاريخا حضاريا عظيما، اغتالته اللغة العربية وفصله التاريخ والعقائد عنا، ومستدعيا منه أصداء حكاية الفلاح المصري الفصيح، الذى قد يماثل مثقف اليوم، وفعله الذى يبدأ بحياة تقليدية لفلاح تقدمه الحكاية القديمة على أنه مجرد فلاح بسيط، بينما تكشف صياغته الأدبية لشكاويه المدونة على ورق البردي عن أديب متمكن من أفكاره ولغته، كان يعيش بمدينة (إهناسيا) الواقعة بين محافظتى بنى سويف والفيوم، حتى أدخلته يد الحيلة فى التجربة، وفجرت معه حدثا دراميا أوليا بموقف متعنت من حارس أرض رئيس بلاط الملك، والطامع فى أحد حمير الفلاح المحملة بأجولة المنتجات الزراعية التي أنتجها الفلاح بأرضه بوادى الملح (وادى النطرون)، وذلك فى طريق ذهابه للعاصمة (كمت) لبيعها، وبمروره بالأرض التى يطل عليها بيت الموظف المسؤ ول ، دبر له الأخير مكيدة طمعا في المحصول المحمل على الحمار، بوضعه مسارا ضيقا لطريق الحمير، مما أدى لتوقفها وأكل احدها من بعض مزروعات الأرض المار بها، فاستولى عليه الموظف وما عليه، فلم يملك الفلاح البسيط المثقف سوى الذهاب إلى صاحب الأرض (رئيس البلاط الملكى)، يشكوه بمخاطبات لغوية شعرية راقية، ويطالبه فيها بتحقيق العدل علي الأرض، فأعجب الرجل بالصيغ المكتوب بها الشكاوى، وأخبر ملك البلاد بها، فاستدعاه ليستمع إلى شكاواه المنمقة دون أن يظهر له، تاركا إياه يعود يوميا ليستمتع فيما بعد بالجديد منها، بعد كتابتها فى مدونات ورقية، حتى وصلت لتسع شكاوى صارت بأسلوبها من درر الأدب المصري القديم، وبمحتواها أبرز وثيقة تطالب بالعدل، وكشفت عن مثقف يطالب بحقه فى العدل ومحاسبة الفاسدين، وعن حاكم يستمع لنصائح مثقف من مجتمعه علها تفيده فى الحكم القويم، وسهلت على مستوى الحكاية للفلاح المثقف الذكي استعادة حقه في حماره المنهوب.
من رحم هذه الحكاية القديمة الدالة، يؤسس عرض (ترنيمة الفلاح الفصيح) لفرقة (مسرح الشباب) فى فضاء المسرح العائم الصغير ، يؤسس بنائه على بعض من أصدائها، بعد نقل حركتها من أرض الواقع الفوار إلى العالم السفلي الميت، وأن لم ينسي أن يخاطب جمهور هذا الواقع الفوار، منطلقا بمجموعة من المؤدين فى صالة العرض وبفضائه الذى صاغته بمهارة “رامة فاروق” حيث يحتوى يسار المتلقي علي تكوين هرمى مغلق علي من فيه بأبواب متعددة متصلة بجسم الهرم من أسفل، وتهبط أفقيا لسطح المسرح حين تفتح، ومستمد ملامحه الأساسية من التكوين الذى قدسه القدماء كرمز على عظمة الحياة، ومستقر للبقاء فى زمن البعث والمحاسبة، يعلوه فى العمق ميزان المحاسبة المصري، موضوع على مرتكزه مجسم أقرب فى تكوينه من تكوين القرد، شاخصا نحو الكفة الخاصة بالإلة (ماعت)، ربة الحكمة والنظام، وذلك بدلا من مجسم الفتاة الشاخصة لنفس الموقف فى الرسوم المصرية الخاصة بلحظات الحساب، وكأن التوجه نحو موضع الثقافة اليوم، وفقا لعلامات العرض، قد صار بعقل مشتت مشوب بالخوف والقلق فيما يعرف بـ (نظرة القرد) ، وممتد الميزان بإحدى كفتيه ليمين المسرح، يظهر من خلفه مستوى علوي ممتد بدوره لعمق المسرح بأكمله، يوصل إليه سلم جانبي، وتحته مدخل مرسوم على جداره شخوص مصرية بشرية وأسطورية ، يتقدمهم ثلاثة من أبناء “حورس” الأربعة ، الذين يمثلون أركان العالم الأربعة التى تهب منها رياح الحياة، ولا نعرف لماذا حذفت “رامة” الأخ/ الركن الرابع من لوحتها، بينما أبقت فى المؤخرة على الإله “أينبو” حارس العالم السفلي ومسؤول التحنيط، وكلها فى طريقها نحو الداخل المختبئ خلف التكوين الهرمى، ربما لتحضر جلسة المحاسبة للفلاح الفصيح.
داخل هذه الصورة المرئية الدالة على تشتت الرؤية نحو ربة الحكمة، وبالتالي فلاحها المثقف الفصيح، لا يتركنا العرض نتشكك فى دلالتها، فثمة حالة من الحزن والانكسار لمجتمع مطأطئ الرأس تبدو من أول لحظة أمامنا، وهو ينشد للإله معبرا عن حاضره المهزوم، المجسد فى حمله كجثة هامدة تميمة (مفتاح عنخ) الدال عند أجدادنا المصريين لفكرة الحياة واستمراريتها بالبعث المنشود، تضيف هنا لهزيمة الحياة الدنيا بعدا فى فقدان الأمل حتى فى الحياة الأبدية، حيث يتدفق المؤدون من عازفين بآلاتهم والراقصون والممثلون بملابسهم، وكلهم مطأطئي الرءوس، فى هذه الافتتاحية الجنائزية الحزينة، المعبرة عن مشاعر صناع العرض الشباب تجاه الحال الذى وصل إليه مجتمعهم، الحزين على فقدانه لنتائج ثورته الينايرية الرائعة، والمتشكك فى أن ثمة أملا قادما فى الغيب فى التغيير الذى كان يصبو إليه.
وسط هذه الأجواء الحزينة، يظهر الفتى “حور” وحيدا فى طريقه للرحيل طواعية عن الحياة الدنيا، وفى حواره مع الفلاح الفصيح”خوان” فى العرض أو “خون” فى النصوص القديمة، معلنا للأخير أنه “ما عاد قلبه يحتمل”، “بعد أن فقد كل شيء”، “وما عاد فى امكاننا أن نقاوم”، مقررا الرحيل ومستخدما بعض من اعترافات المطلوب من الميت ذكرها ، فيما جاء بـ (كتاب الموتى) مثل ” لم أفعل أثما” و”لم ألوث نهرا”، ومستلقيا فى تابوته، حيث تتم عمليات التحنيط، بنزع المخ والقلب والروح منه، ووضعها فى الكفة المقابلة لكفة ربة العدل (ماعت) وريشتها الشهيرة، التى يقاس بها وزن قلب الميت لمعرفة حجم ما فعله من خيرات وذنوب لمجتمعه، فإذا رجحت كفة (ماعت) يعنى هذا إنه كان إنسانا صالحا ويدخل الفردوس، أما إذا لم ترجح فيعنى أنه كان جبارا مذنبا، فيلتهم قلبه وحش كاسر يفنى عنه الحياة الآخرة .
مقابل هذا النموذج المثقف المستسلم لواقعه، بعد أن فشلت كل محاولاته للمقاومة بالكلمة، يبرز صديقه”خوان” متمسكا بفاعلية المثقف فى المجتمع، وبدور الكلمة فى المقاومة، ولذا يقرر أن يهبط للعالم السفلي بإرادته، دونما ما مبرر منطقي أو درامي لذلك، فيهبط للمقبرة نحو العالم السفلي، مرورا بعملية التحنيط كاملة، حتى يمكنه أن يستعيد “ما فقد منه”، مرددا بعض مما جاء فى شكاواه المدونة من قبل، مستعيدا بها موقفه السابق، الذى أستخدم فيه الكلمات ليستعيد على أرض الواقع حقه فى دوابه، ومخاطبا الإله ، بعد أن ساد الظلم والفساد وفسدت العامة وتراخي دورها : “أنت الدفة فلا تنحرف .. أنت الميزان فلا تميل” ، غير أن ما فقد منه لم يعد الفتى “حور”، بل القلب الذى انتزع منه، والذى يعمل طوال الوقت على استعادته حتى ينجح أخيرا، بفضل نزول زوجته ونفر قليل ممن آمن بها وبه معها للعالم السفلي، والعودة به، مرورا ببوابة العبور من العالم السفلى للدنيا الراهنة، متمسكا بالأمل .
رغم الحزن المهيمن على افتتاحية العرض، وطأطأ الرءوس، وضعف العامة، ورحيل المثقف موتا أو بحثا عن مجهول، فأن ذاك الأمل المنتهى به العرض ، يبدو أنه مازال قابعا بأفئدة بعض من هذا الجيل، أو ربما هو الوسيلة الناجحة لعبور بوابات الرقابات الرسمية والمجتمعية، التى مازالت تحافظ علي التغيير، وتدين من لا يراه، وهو ما رأيناه فى العرض الأخير للكاتبة “رشا عبد المنعم” (شباك مكسور)، الذى بدأ بسرد وقائع قتل الأب لأسرته، وانتهى بطرفة بأن السم الذى وضعه لهم فى الطعام كان سما مغشوشا لأنه “صنع فى مصر”، وتكرر ذات الأمر هنا، حيث تأتى النهايات غير درامية، لا تتأسس على مقدمات منطقية داخل العمل المسرحي، بل تقيد حرية المبدع، وتدفعه لمغازلة الواقع علي حساب الدراما ، فليس ثمة مبرر لنزول “خوان” إلى العالم السفلي ليسترد ما فقده، فلا هو سعي واستعاد صديقه “حور” الراحل طواعية للموت، لاسيما انه لم تعد لاستعادته فائدة له أو لمجتمعه، ولا هو عمل على استرجاع شجاعته فى المقاومة بالكلمة، ولا سرقة عقله ووجدانه وروحه تمت على أيدي قوى متخلفة ومتطرفة على أرض الواقع، ولم تماثل عملية التحنيط عمليات غسل الأدمغة، وكل ما شغله هو استعادة قلبه الذى تركه ينزع منه بإرادته أثناء عملية التحنيط هذه، وعاد للحياة ببضعة كلمات من زوجته، ليست جديدة عليه.
عرض شعائري جميل، صاغه باقتدار “سعيد سليمان”، وبث فيه العديد من الطقوس المصرية القديمة، وأن لم تساعده الصياغة النصية الجديدة للحكاية القديمة على الكشف عن تخلخل الواقع الراهن، حيث غلبت عليه الإنشائية الممتلئة بكلمات عامة مثل (المقاومة) و(الفقد) وحتى (العدل) الذى كان واضحا فى النص القديم، كما أنه ضل طريقه للدراما، بفعل انحراف نصه نحو الغنائية، وانجذاب عرضه لجماليات الطقوس المرئية، وسعيه مع المؤلف الموسيقى والممثل د.”هانى عبد الناصر” لمحاولة صياغة “أوبرا فرعونية طقسية”، وليست دراما غنائية يستسغها الجمهور المصرى.