"الطوق والأسورة".. الدراماتورجيا وتجليات الهواجس المضمرة/ د. رياض موسى سكران
منذ أن طرح (أرسطو) مفهوم (التطهير) بوصفه تعبيراً إنموذجياً ودقيقا عن جوهر العلاقة بين المسرح والجمهور, كان التواصل, ولايزال حتى اليوم, وسيلة لتحقيق غايات هذا المفهوم, فضلا عن كونه أحد أهداف العرض المسرحي. فالعرض لابدّ أن يحقق حالة التواصل مع متلقيه لكي يتمكن من إيصال رسالته التي من خلالها يتحقق (التطهير) الذي هو أسمى غايات العرض المسرحي, من هنا يمكننا القول إن (الدراماتورجيا) لم تكن مفهوما جديداً بشرت به إتجاهات الحداثة والمعاصرة في علوم المسرح الجديد كما يعتقد عدد من الدارسين, إنما هو استمرار لمفاهيم قديمة وراسخة طورتها هذه الإتجاهات مع تطور فنون التواصل في العرض المسرحي, الذي يتم أساساً من خلال بناء تلك العلاقة الجوهرية بين المسرح والجمهور, فـ(الدراماتورجيا) هي تجسير لتلك العلاقة بين الطرفين من خلال توظيف مجمل (الممكنات الدرامية) التي تستلزمها عملية إدامة زخم الإتصال مسرحياً بينهما, وبذلك فإن مفهوم (الدراماتوجيا) لم ينأ بعيدا عن دعوة (أرسطو) لمفهوم (التطهير) كوسيلة من وسائل تعزيز الإتصال بين طرفي العملية المسرحية, بل إن مفهوم (الدراماتورجيا) استوجب مقاربة إجرائية جديدة, يتعاضد فيها مع مجسات معرفية وآليات فكرية تتفاعل مع حداثة العصر وتعتمد أساليب التواصل المتجددة والمتحولة بتجدد أنماط الحياة وتحولاتها المتسارعة.
فالدراماتورجيا هي عملية (مسرحة), مسرحة نص مسرحي, أو مسرحة نص مجاور للمسرح, وهو مفهوم متداول منذ المسرح اليوناني, حيث مرت فنون المسرح بمراحل متعددة منذ الإغريق حتى اليوم, لاسيما وإن المسرح نشأ في أحضان الشعر منذ زمن (أسخيلوس) و(سوفوكليس) و(يوربيديس) و(أرستوفانيس), وكان هؤلاء الشعراء يؤدون جميعهم معظم المهام المسرحية، وكان كل واحد من هؤلاء يقوم بمهام الـ(دراماتورج), وكان يعد الشخص الأهم في إنتاج العروض المسرحية، ورغم ذلك توارى هذا المسمى الوظيفي تدريجياً, حتى عاد الى الظهور من جديد بإطار محدث يتماشى مع حداثة مفهومات علوم المسرح وجماليات تشكيل العرض, يرافقها تجدد أساليب التواصل مع المتلقي, والمنسجمة مع تسارع مستجدات حركة العصر وثقافة المجتمع المتجددة في عصر التكنولوجيا وتقنيات التواصل التي دخلت في مجمل تفاصيل حركة الحياة اليومية للإنسان..
وتكشف رؤية (يحيي الطاهر عبد الله) في مجمل كتاباته عن مدى إهتمامه بالتضاريس الدقيقة لخارطة علاقات الشخصيات ونظم التواصل فيما بينها وبين المحيط الخارجي من خلال تركيزه على علاقات خارجية متشابكة ومتداخلة، وعلاقات داخلية معقدة التركيب, هذه العلاقات التركيبية التي وصل فيها الى حد تصنيف المواقع الطبقية للشخصيات، والمظاهر المتعددة للقانون الحاكم والنظام والعرف الإجتماعي, فقد أراد من خلال تقصيه تركيبة هذه التضاريس المعقدة للعلاقات أن يكسر الإطار الشكلي من الداخل, حيث إن هذا الإطار الذي يحكمها ويتحكم بها وهو وليد علاقات ظلم وقهر واستغلال وإستلاب إجتماعي. فهو يصور أدق تفاصيل الحياة والمجتمع والهواجس والمشاعر والمعتقدات, وحتى معاني أسماء الشخصيات (حزينة) (الشيخ الفاضل) تحمل دلالاتها وعوالمها التي تضطرب فيها تلك الأمنيات والأحلام التي تصطدم كما هي العادة بصخرة الواقع القاسية, لتتحول هذه الأحلام المكبوتة وتلك الأمنيات المنكسرة إلى مصدر قوة وتحدّ ضد قوى القهر الاجتماعي, هذه القوى هي التي تمثل صخرة الواقع القاسية التي تتكسر عليها تطلعات وآمال وطموحات وأحلام الخلاص من القهر والظلم البؤس اليومي والخرافات والمعتقدات الزائفة.. فهو يصور واحدة من قرى الصعيد في مصر تصويراً يكشف عن هواجسه ومواقفه وأحلامه وأمنياته بتغيير الواقع, وهذا متآت عن وعي الكاتب بعصره, والسابق لعصره, والعابر لمحيطه, والغائر في أعماق هذا المحيط, وهذا هو مصدر المعاناة الداخلية للروائي, والتي جسدها عبر شخصياته التي تشبهه الى حد كبير, على مستوى وعيها بالواقع وإشكالياته عبر أسلوب سرد فني يجسد الواقع مرة, ويتخطاه مرات، ليعاضد علاقته بقارئه عبر عدة تقنيات سردية, لعل أبرزها القول المأثور والمثل الشعبي والمقولة السائدة، فضلاً عن الحكاية الشعبية التي تحمل دلالات ومعان عميقة ومنفتحة على فضاءات القراءة المتعددة.
وهكذا كان (الشيخ الفاضل) فاضلاً كأسمه, فهو يقرأ رسالة الأبن الغائب، ويقوم بالرد عليها، وهو الذى يشترى الأكفان البيضاء لتلف الميت الفقير، وهو الذى يدفع أجر قارئ القرآن على روحه، وهو من يعين (حزينة) على الحصول بأمر المحكمة على حق ابنتها فى الميراث، وهو أخيراً من يقف فوق منبر الجامع رافعاً سيفه الخشبي محذراً الناس عاقبة التخلي عن مكارم الأخلاق, لكن يتضح إن الفضيلة والحكمة ومكارم الأخلاق, كلها كانت إدعاءات مغلفة ومزيفة, لا قناعة ولا إيمان ولا مبدأ حقيقي لها في نفس الشيخ الفاضل لكي يدفعه لإن يتمثل الفضيلة بجوهرها عبر سلوك حقيقي لا شكلي, لاسيما عندما يعجز أمام فعلة ابنه حين انتهك عرض (نبوية) الفقيرة التي جللتها الفضيحة واقتربت من عنقها السكين, بينما وقف الشيخ مكتوف اليدين, لم تدفعه الفضيلة أو مكارم الأخلاق لإتخاذ موقف يعكس الحد الأدنى من القيم الإنسانية, حتى ولو كان موقفا شكليا يكمل به صورة الشيخ الفاضل التي يمارس من خلالها خداع الناس ولمدة طويلة, كما لا تتمكن يده أن تمتد لإنقاذ (نبوية) لإنها مثقلة بالقيود والموانع, مادية ومعنوية, وهنا انكسّر (طوق) الفضيلة, الذي بدا وكأنه قشرة بيض فاسد, تهشم على (أسورة) الواقع الطبقي.
هكذا نكأ (يحيى الطاهر عبد الله), وبجرأة المثقف العضوي, الجرح العميق, الغائر في أعماق المجتمع, والذي لن يندمل بسهولة, طالما إن هنالك من لا يريد له أن يندمل, لتبقى معه آلالام والأوهام التي تَحقن في جسد المجتمع حُقَن الخرافة والزيف والإنتهازية والإستغلال والطبقية.
هذا الخطاب الروائي القائم على تقنيات السرد في رواية (الطوق والأسورة), بكل أنساقه, المضمرة والمعلنة, فتح فضاءات جديدة للتواصل مع متلقٍ جديد في زمن جديد, وعبر سياقات تواصل جديدة, لخطاب جديد بآليات جديدة ومجسات جديدة, من خلال رؤية دراماتورجية للدكتور (سامح مهران), أستوجبت إحداث مناقلة إجرائية في تلك التقنيات, من (الفضاء السردي) للرواية الى (فضاء الفعل الدرامي) للمسرح, عبر جماليات أسلوبية متجددة وآليات بناء محدثة ومبتكرة تتماهى مع المتلقي المعاصر المختلف ذائقة ووعيا عن متلقي زمن صدور الرواية, فضلاً عن الإمكانات المعرفية الخاصة التي يمتلكها الدراماتورج, لتوظف في كيفية (مسرحة) الإحداث والوقائع ومواقف الشخصيات والبيئة, التي راحت تنتقل في النص المسرحي ما بين (واقعية) مرة, و(متخيلة) في مرات عديدة, مع تجسيد البيئة التي دارت فيها مجريات الأحداث والوقائع بين بيئة (حقيقية) مرة, و(مفترضة) في مرات عديدة, وهي كلها تجليات جمالية وممكنات درامية وخيارات أسلوبية, وظفها الدراماتورج لتحقيق (التواصل) مع متلق جديد تختلف مجساته وسياقات تلقيه عن المتلقي الذي توجهت إليه الرواية. ولأن الدراماتورج يمتلك الوعي بكيفيات وشروط وضوابط المناقلة من فضاء الى آخر, فقد تحرك بجرأة عالية للتوغل في أعماق ونفوس الشخصيات المتباينة, وهو يحاكي فيهم حالات الحب والحزن والشجن والجهل والسحر والخرافة والدجل, بل ويتجرأ الى ما هو أكثر من ذلك عندما يكشف عن الشهوات المكبوتة والرغبات المختبئة والهواجس المكتومة في تلك الأعماق القصية من ذوات الشخصيات.
وتتكشف قدرة الدراماتورج العالية في السيطرة على منظومة التفاعل بين مجمل وحدات المناقلة التي ارتقت بمستوى (السرد الروائي) الى مستوى صناعة (الفعل الدرامي), عبر تشغيل كل الممكنات الدرامية التي تقتضيها عملية (المسرحة)، لدرجة تماهت فيها الأحداث الدرامية مع خصوصية الشخصيات في فضاء العرض المسرحي، بتاريخها وموروثها الثقافي وثوابتها الإجتماعية وقيمها الأخلاقية, بل إنه كان يخلق ويضيف ويعيد تشكيل وبناء معمار الخطاب برؤية خلاقة, ليفتح مساحات جديدة لحقول جمالية مخصبة جديدة, وعلى نفس الأرض, حتى تولّد عند المتلقي شعور بأن النص كُتب أساساً للخشبة, بطريقة تؤكد على إن عملية (المسرحة) كانت أشبه بمعادلات كيمياء عضوية لتفاعل منتج ومخصب لمواد جديدة..
هذا التجليات الفكرية في المتن النصي, فتحت الآفاق أمام تجليات جديدة ومتوالدة للنسق الإجرائي في تشكيل فضاءات العرض المسرحي, حيث تأخذ هذه التجليات مساحتها الفعلية في الحضور على خارطة الرؤية الإخراجية وكيفيات تشكيلها وصياغة فرضياتها الجمالية في فضاء العرض المسرحي بشكل يضمن أولاً تحقيق التواصل مع المتلقي, فقد أعتمد المخرج (ناصر عبد المنعم) في تحقيق رؤيته على مصدرين أساسيين هما:
أولاً.. المدونة النصية التي يضطرب ويمور فيها الواقع بإشكالياته العميقة وصداماته الموجعة, ويحمل صدقية وقائعه ويكتنز آلامه وينتظر أحلامه ويترقب هواجسه, بما ينطوي عليه هذا الواقع من معطيات متغيرة ومتبدلة ومتجددة, تبعا لإرتباطها بظروف الشخصيات الموضوعية أو بحكم مصالحها الذاتية.
ثانياً: مخيلة المخرج التي تماهت فيها مجساته القرائية التي لامست ذلك الواقع وأعادت تشكيله بوعي الحاضر واللحظة, الآن وهنا, وجسدته بلغة الخشبة التقليدية وبعناصرها المألوفة التي تحاكي نبض الحياة اللائبة ما بين الواقع والنص, وبروحية حميمية حقيقية, تعاضدت مع روحية الشخصيات وهواجسها المضمرة وحضورها وفعلها في فضاء العرض.
فكل شيء محسوب بدقة وعناية واهتمام, وكل شيء مرتبط بما سبقه ويمهد لما سيأتي بعده, بوعي منضبط, ومبرمج بهارمونية عالية, أحكمت قبضتها على مجمل مفردات وعناصر ووحدات صناعة (الفرجة) المسرحية, التي لأجلها تم توظيف كل ما يحقق المتعة السمعية والبصرية, حيث تعالقت حركة الممثلين مع المنظر المسرحي لاسيما فضاء المعبد, مع تقديم الحدوتة الشعبية والعناصر التراثية وحركة الشخصيات المتناغمة والمنسجمة داخل بيئة الاحداث.
لقد توافر لهذا العرض مجموعة من الممثلين الذين يمتلكون المواصفات المطابقة والإمكانيات العالية لتحقيق حالة التواصل والإقناع وتحقيق القيمة الجمالية في الإداء المسرحي, متآتية قدرة كل ممثل على ضبط الأبعاد الخاصة بشخصيته المسرحية, لا سيما الممثلة (فاطمة محمد علي) التي أعادت تشكيل شخصية (حزينة) من الداخل, بتركيزها على (البعد النفسي) بين أبعاد الشخصية, وهو الخيار الأصوب من أجل إبراز أفكار وإنفعالات وهموم وهواجس الشخصية, على وفق مقتضيات خطاب العرض, وكان تعبيرها عن الحزن المكتوم, حتى وهي في أقصى حالات الفرح, يكشف عن طاقة إدائية ومقدرة عالية, ويدل على إجتهاد واضح في دراسة وتحليل شخصية حزينة, وهي تجسد حزنها عبر حركات ووضعيات لافتة لإنحناء ظهرها ومشيتها ونبرة صوتها وإنفعالاتها وتوجساتها التي لا تنتهي, وقد أمسكت بالمتلقى على طول زمن العرض. فضلاً عن الإمكانات الإدائية المنضبطة التي تميز بها (محمود الزيات) في التحكم بالفعل والسيطرة على ردّ الفعل في الحالات الخاصة بالشخصية, رغم قصر دوره, لكنه ضبط عملية الإتصال مع المتلقي بطريقة منظمة ومحسوبة, وشخصية (فهيمة) التي جسدتها (مارتينا عادل) بحضور خفيف الظل ورشاقة في الأداء المسرحي هو الأكثر إقناعا والأقرب لتجسيد هذه الشخصية الجاهلة التي تنساق وراء الخرافات مع عدم قدرتها على التصرف بشكل يحميها.. وكذلك بقية الممثلين الذين أجادوا رسم شخصياتهم بحرفية عالية..
لقد صنع عرض مسرحية (الطوق والأسورة) (روحيته) التي منحته الأصالة والإنتماء الجوهري لمجتمعه وشخصياته وبيئته وثقافته, وهذا هو أهم أسباب إدامة واستمرار الحياة في نسغ العرض, الذي كشف عن الهواجس المضمرة لشخصياته التي خلقت حالة (التواصل) مع المتلقي الذي تفاعل مع تلك الشخصيات بأبعادها التي تنتقل بين كونها شخصيات رمزية وشخصيات واقعية, لتلج الى أعماق الواقع وتكشف النتائج المترتبة عليه, وهي تتماهى مع القيم الجمالية والفكرية للعرض في الدعوة الى تغيير الواقع كما ينبغي أن يكون..