"مونودراما" الخضراء تونس: الهمّ العربي والاهتمام / تحسين يقين

 وهو أيضا، لعله من جنس اللون، الأخضر بدلالات الحياة، بدءا بالخلية الأولى وصولا إلى أصل التسمية، حين لاحت الأشجار من بعيد تبرق اخضرارا، لأولئك القادمين من عطش الصحراء؛ فمضمون المهرجان يتمثل بحياة الأرض والإنسان: مهرجان قرطاج الدولي للمونودراما.
على أرض الخضراء تونس، بما تملك من تنوير وتطور فني ومسرحي، تواصل التنوير ويتعمق، وأظنه سيظل وفيا للتنوير، بما تراكم من وعي وفكر.
للمرة الثانية خلال عام أعود لكتاب “قالبنا المسرحي” لتوفيق الحكيم” المنشور عام 1967، الذي قرأته أول مره عام 1992. هل للزمن علاقة ما؛ حيث أن قراءاتنا ومشاهداتنا متعددة: نعلم، ونفهم، ونفكر، ونتعمق، فلا اكتمال سوى لحظية اكتمال القمر بدرا.
الحكاية، على تنوع أشكالها، صحيح أنها خلقت للإمتاع والتسلية وتمضية الليالي، إلا أن الحكّاء، والحكواتي، وفيما بعد المسرح، فالسينما، له/لهم فيها “مآرب أخرى”، أكانت للاتعاظ أو للتحريض أو التنوير، فكل بما يرى، قلبيا وبصريا، في دراما الحياة.
كان توفيق الحكيم مفكرا مسرحيا، وهو ينظّر للشكل المسرحي، ما بين اتجاه التأصيل من ناحية، وبين تطوير القائم في تراثنا.
لعلي هنا أقف على حدود الحكواتي-والمونودراما، مسرحية الممثل الواحد، لا للتأصيل بل للتأمل، في حياتنا الدراميا، وما تحاكى من دراما.
ترى، ما هي منطلقات وظروف نشوء الحكواتي عربيا وعالميا؟ وما هي تلك المتعلقة بالمونودراما؟
الجزء الثاني من السؤال أجاب عنه دكتور حسين علي هارف من العراق من خلال بحثه الفريد والمميز: فلسفة المونودراما وتأريخها، المنشور عام 2012، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة.
أي أن هناك مسار تاريخي درامي، وجدت المونودراما نفسها خلاله، نتيجة تراكمات في الشكل والمضمون، أو تجريب، أو لعله اقترابا من الشكل الأولي: الحكاية. ولعل التفكير في الجزء الأول المتعلق بالحكواتي، لا يبعد نفسيا واجتماعيا، عن تطور سردي ما لدى سارد محب للحكايات، طوّر مع الارتجال أشكالا وأساليب متعددة.
لكن الفرق بين عرض الحكواتي وعرض المونودراما، أن الحكواتي كان يركز على حركة المجموع، من خلال سرد السير والبطولات، في حين تركز المونودراما على الفرد؛ والتي وفقا للباحث علي هارف: “هي المسرحية التي تطرح صوتا دراميا واحدا وتعتمد في بنائها شخصية درامية مستوحاة تعاني أزمة، وتنفرد تلك الشخصية بالجمهور وساحة الفعل الدرامي لتسرد تجربتها انطلاقا من منظور أوتوقراطي يعكس أحادية الصوت المونودرامي”.
وما بين الجمعي والمفرد؛ ثم ما هو فردي في الجمعي يلمح لمحا، باستثناء الأبطال، وثمة ما هو جمعي في الفردي، أي في المونودراما.
وهذا ما أود الوصول إليه؛ فمن خلال تتبع مسرحيات المونودراما التي شاهدتها، وجدت أن هذا الفن، بالرغم من تصويره لآمال الأفراد وآلامهم، فإنه إنما يتحدث عن مجموع الأفراد؛ بمعنى أن تكرار قضية الفرد، تجعل هذا الفن ينأى عن الذاتية، باتجاه الموضوعية.
وهذا باختصار همّ العربي واهتماماته!
ولنا أن نتذكر ما أكدت عليه دراسة الفنان العراقي الدكتور حسين علي هارف، فيما يتعلق موضوع ومضامين المونودراما، باتجاهات الخلاص الإنساني للمضطهدين.
وهكذا، فإننا لنسعد بنجاح عقد الدورة الثانية من مهرجان قرطاج الدولي للمونودراما، الذي يترسخ على خارطة المهرجانات، التي تحمل الهوية نفسها والشكل نفسه ، جنبا الى جنب مع الكويت، والفجيرة، والقاهرة، والتي أيضا تعقد مهرجانا خاصا بطلبة الجامعات، بما تحمل جميعا من تفكير وبحث أيضا حول الفن والحداثة والتراث.
ومما يعمق هذه المهرجانات الخاصة بهذا الشكل الفني وجود الرابطة الدولية للممثل الواحد “المونودراما”، التي تناقش في اجتماعاتها آفاق هذا الفن عالميا، حيث قرأنا خبرا حول الاتفاق على المقترح المقدم من قبل رئيس الرابطة المهندس محمد سيف الأفخم، بشأن إنشاء مكتبة توثيقية خاصة بمطبوعات المونودراما من كل أنحاء العالم، على أن يكون مقرها الفجيرة، وهذا بحد ذاته مشاركة عربية جادة في المنجز الفني-الإنساني.
نجحت دورة قرطاج للمونودراما الدولية الثانية تجميع إبداعي بمشاركة 27 عرضاً عربياً وأجنبياً، وثمانية عروض لمسرح الشارع، في احتفاء نادر بفن الأداء المسرحي الفردي .
ومن علامات الدورة الثانية، إنجاز المسابقة، حيث فاز العرض السوري (كحل عربي) من بطولة روجينا رحمون، وإخراج سوزان علي بالجائزة الذهبية، الذي ويحكي قصة فتاة فقدت أسرتها في تفجير انتحاري لتبقى وحيدة مع الذكريات حائرة بين البقاء في سوريا أو الرحيل عنها. كذلك فاز بالمركز الثاني العرض المغربي (طل عليا) بطولة إيمان الإدريسي وإخراج رضوان الإبراهيمي، بينما جاء بالمركز الثالث العرض التونسي (الجدود) بطولة خير الدين بن عمر وإخراج غسان الجديدي.  ومنحت لجنة التحكيم جائزتها الخاصة للعرض الإسباني (لا تنساني) بطولة وإخراج ماريا اوبرتو.
وأظن أن هوية المسرحية، يتفق مع ما ذكرت عن هموم الذات كهموم مجموع غير منقطعة عنه.
يعكس تشكيل لجنة تحكيم المهرجان برئاسة المخرج والممثل المصري عاصم نجاتي، وعضوية الناقد العراقي حسين علي هارف، والممثل الفلسطيني أحمد أبو سلعوم، وخبير السينوغرافيا الجزائري حمزة جاب الله، تفكيرا عميقا، في منظومة الفن المسرحي، من التمثيل والنقد والشكل البصري، بما يؤكد وحدة العمل الفني إبداعيا.
ومن إنجازات الدورة، عقد ورش عمل في النقد المسرحي والكتابة والمسرح التفاعلي، وندوة عن “المونودراما في العالم العربي”، يتحدث فيها متخصصون من تونس والعراق والسعودية وليبيا والجزائر
أما التقليد المهرجاني الخاص بالتكريم، فقد تم تكريم الكاتب الفلسطيني، توفيق فياض، والممثل التونسي، عبد الغني بن طارة، ونقيب الفنانين العراقيين، جبار الجودي، والممثل الجزائري، هارون الكيلاني، والأكاديمي الليبي حسن قرفال.
ولعلنا ونحن نقترب من اختتام هذا المقال نشير إلى ما أفتتح به المهرجان عروضه، وهو العرض المصري “واحدة حلوة” من إخراج أكرم مصطفى وبطولة ليليت فهمي وإنتاج البيت الفني للمسرح؛ والمأخوذ عن نص “امرأة وحيدة” لـ”داريوفو” و”فراكارما”، المشكلات والقضايا التي تواجهها المرأة في المجتمع، بالإضافة إلى التحديات وسبل النجاة منها، باتجاه الوعي الإنساني من أول النص إلى تكرار إخراجه في بلاد الله الواسعة، بما تمثل المرأة أيضا من حياة للأرض والإنسانية.
واقعيا ورمزيا..فلسفيا ووجوديا: لن نبعد كثيرا عن أصل التسمية، حين صارت أشجار تونس قمرا وشمسا للعابرين صحراء الحياة والفكر والتحرر، لعل أهل البلاد يرعون تلك الأشجار، ويظلون فيها وبها، ونحن معهم، بعقول مفتوحة.
ولسي “إكرام م عزوز” الفنان الجميل، بقلبه الأخضر، الذي حمل المهرجان على كتفيه، امنياتنا له وللفن العربي بأن يزداد اخضرارا.
سيصاحبنا الأخضر كثيرا، سنحتاجه كثيرا لنحيا ونواصل الحياة، كأجمل ما تكون..واقعا وإبداعا.
Ytahseen2001@yahoo.com
 
 
 
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت