"شباك مكسور " ..بين عبث الواقع وفانتازيا الدراما/ أحمد خميس
لا شك أن أحد المهام الأساسية الموكلة للكاتب الدرامي هي كيفيات تقديم الحدث الواقعي أو المعتاد بمنطق جمالي غير تقليدي للمتلق فتبدو الحكاية في صور وأفكار لامعة تعيد ترتيب الحدث وتطرحه بمنطق مشوق قابل لإكتساب حيوات جديدة لم نكن نحسب أنها هناك , ليس مطلوب هنا أن يعيد الكاتب الحدث الواقعي بنفس تكوينه وتراتب أحداثه كما انه ليس مطلوب منه أيضا الإتكاء علي نتائجه المعروفة أو المتوقعة وإنما إبتكار أحداث موازية أو طرق جمالية في التكوين من شأنها إنشاء أحداث مشابهة أو موازية لدنيا الواقع , وإبراز بعض المواقف بتضخيمها أو التقليل منها أو بث روح جديدة فيها وحث المتلق علي تكملة الصورة المطروحة أو إتاحة الفرصة له كي يستوعب الحدث الإجتماعي من خلال فلسفة جمالية غير معتادة قد تضفي الجانب العبثي وتعطيه الصدارة في البناء الداخلي أو تمرر نهايات يختارها المتلق بذاته فيما سمي بالمشاركة الفعالة أو المبتكرة , من هذا المنطلق تحركت الدراما في عرض (شباك مكسور) للكاتبة رشا عبد المنعم والمخرج شادي الدالي وهو العرض الذي قدم مؤخرا علي مسرح الطليعة , فرغم كون المسرحية قائمة علي حكاية مأساوية تابعناها كثيرا في وسائل الإعلام المختلفة في السنوات الأخيرة وفجعنا لنتائجها التي تتعلق برب أسرة يتخلص من عائلته لخوفه الشديد علي مستقبلهم البائس , إلا أن الكاتبة هنا تناولت الموضوع بمنطق الكوميديا السوداء التي تحتفي بالحدث المأساوي وتضعه في إطار من الكوميديا المفجعة من هنا يمكن للحكاية مأساوية الطابع أن تغلف بشئ من الفانتازيا الموجعة التي تمتاز بالحس الساخر والسماحية بتمرير الضحك علي المواقف شديدة التعقيد والأسي أو تلك التي إنتهت بالفعل بمأساة مفجعة , وكما يقول المثل الشعبي الشائع (شر البلية ما يضحك) , فالحدث ينتهي وقد إكتشف رب الأسرة أن جرعة السم التي وضعها لعائلته بعد فشله التام في تسيير مجريات حياتهم لم تكن إلا جرعة فاسدة لم تأت بنتجة مرجوة حيث أنها تحمل علامة (صنع في مصر) فكما الحال في فشل معظم مناحي الحياة منطقي جدا أن تفشل أحد الصناعات بسيطة التكوين لغياب البديهيات العلمية والأسس المعرفية السليمة , والحكاية برمتها مضحكة من شدة القسوة والمرارة , من هنا ينتهي الحدث وقد أكمل المتلق الجملة التي صممت الرقابة علي شطبها من النص الاصلي للكاتبة حينما يسائل رب الأسرة الجمهور (صنع فين السم دة) ؟
ما لا يعرفه كثير من متابعوا العرض المسرحي أن ذلك النص تم تداوله بين أكثر من جهة إنتاج بين الرفض غير المعلن والتأجيل بحجج واهية أو رهبة وخوف من المسائلة القانونية التي قد يتعرض لها أي مدير مسرح متحمس لمثل تلك الأفكار التي تحمل طابع إنتقادي لاذع وصور كاريكاتيرية موغلة في إدانة الأسباب الرئيسة التي أدت إلي تردي أوضاع الأسرة المصرية بنت الطبقة المتوسطة , النص تم تعطيله لتسع أو عشر سنوات ليستقر أخيرا في مسرح الطليعة ويقدمه واحد من أهم المخرجين الشباب في الأونة الأخيرة فيضيف لتيماته بعض اللمسات المؤثرة ويمنح أحداثه الحياة التي تستحقها , فمسرح شادلي الدالي لا يتوسل بالحوار المنطوق فحسب وإنما يمكنه عن طريق التشكيل الجمالي لمجموعة الممثلين أو إستخدام بعض الحيل الشكلية قليلة التكلفة أو الغناء المفعم بإنكسار حلم الشباب أن يصنع حكايات موازية للنص المنطوق يحضرنا في هذا الصدد عرضه الذي مثل مصر منذ عدة سنوات في مهرجان المسرح العربي بالشارقة والذي جاء تحت إسم (حلم بلاستيك) حيث لعبت القماشة قليلة التكلفة دورا رئيسيا في دنيا العرض وأعطت التيمات المتناولة قيم جمالية كبيرة
في هذا العرض كانت أفكار شادي وحيله المبتكرة ظاهرة لكل المشاهدين حتي ولو تم الغاء الإسم الأصلي أو الغاء بعض الأحداث والشخصيات المكملة لطبيعة الحدث وهو الأمر الذي يقابله معظم المسرحيين في الأونة الأخيرة حيث تتدخل الرقابة بشكل سافر في النصوص المقدمة فتحذف أو ترفض ما تظن أنه غير لائق علي المستوي الإجتماعي أو السياسي
تدور الاحداث من خلال مخيلة الأب المحرك أو الراوي ( لعب الدور الممثل اللامع أحمد مختار) والذي يبدأ من خلال كابوس رب الأسرة ويواجة الجمهور ليؤسس لطريقة تناول الحدث بالمنطق البسيط الذي يتغلغل بسهولة ويشرك المتلق في البناء ويبدأ من إعطائنا فكرة عن أسرته الفقيرة بنت الطبقة المتوسطة والمكونة من الزوجة المهتمة بالدين (نادية شكري) من خلال متابعة برامج التوك شووالتي لايعنيها من التدين الا بعض المظاهر الشكلية , والجدة الغائبة عن العالم أو الصانعة لعالم وهمي يخصها (روبا) طول الوقت وإبنتان إحداهما تزوجت لفترة (مروي كشك) ثم غاب زوجها أو هرب فعادت للأسرة بطفلين لتزيد مأساتها الإقتصادية وتشير لإحدي خيبات المجتمع في الاونة الاخيرة حيث هناك ظاهرة كبيرة غير معلنة تفيد بوجود كثير من المهجورات أو المطلقات , والبنت الأخري (هند حسام) تعيش طول الوقت مع الحكايات الاسطورية حيث عالم الغيبيات يسيطر علي حياتها والأبن الوحيد للأسرة (مروان عزب) طالب فلسفة متقلب يعوض عدم تحققه بالانتماء لفصائل سياسية متضاربة الافكار فتارة نراه يساري وأخري إسلامي , إلي جانب زوح البنت التي سميت علي إسم جدتها والذي لعب دوره هنا الممثل الذكي (علي كمالو) والجار الذي يطل دائما علي الاحداث من خلال النافذة المكسورة والذي لعب دوره هنا الممثل الكوميدي (مجدي عبيد)
وعلية فإننا نقابل داخل نسيج النص هنا أربعة أجيال لنفس الأسرة , وقد إعتمدت الكاتبة في بناء الحدث علي مجموعة من القصص المتفرقة للكاتب الساخر (جلال عامر) منها – عودة الصول خميس , وليلة القبض علي الخروف , وهريدي والبوتاجاز – وتضمين تلك الحكايات جاء هنا حرا وحسب الترتيب الجمالي لطبيعة الحدث كما صنعه كل من المؤلفة والمخرج شادي الدالي الذي قدم نموذجا رائعا في كيفيات تنفيذ توصيات الرقابة بالمنطق الذي لا يبتسر الأفكار الأساسية أو يقلل منها , فمن ضمن مهارات المخرج التي بدت جلية في العرض المسرحي كيفيات إدارة بعض مشاهد الحدث المقدم بحيث يمكن إستقبال بعض اللحظات بأكثر من معني وأكثر من طبقة وعي جمالي , ومن ضمن مهاراته أيضا تكوين المشاهد بالمنطق الذي يحافظ علي حيويتها وتدفقها والسماح للمؤدين لإبتكار لحظات نيرة تساعد الفعل الدرامي علي التغلغل في وجدان المتلق , كل هنا حسب قدراته الأدائية وإرتباطه الجمالي بالحدث العام الذي يخص المسرحية ووعيه المكون من مشاهد إجتماعية وسياسية وفلسفية مؤثرة تقف جنبا الي جنب مع مواقف الحدث المقدم , من هنا برز أحمد مختار في دور الاب حيث كان مطلوبا منه أن يلعب عدة أدوار في العرض المسرحي فهو الحكاء الذي تنبعث الحكايات من مخيلته وهو رب الأسرة الفقيرة وهو الباعث للمشاهد المطورة للحدث وعين المتلق علي تلك الروايات المشكلة لدنيا العرض
والحكاية كلها تبدأ من خلال النافذة المكسورة التي يشير لها الأب في عمق المشهد المسرحي فمن خلال تلك النافذة يتحرك العالم الدرامي لهذة العائلة البائسة فهي هنا تطل علي الحوائط الخلفية للبنايات المجاورة الأمر الذي يهيئ المكان ليصبح زاوية منسية يمكن إستخدامه للتخلص من النفايات غير المرغوب فيها أو القاء القمامة بشكل مستمر , أو حتي التلصص علي عالم تلك الأسرة من خلال شخصية عم جمعة ذلك الجار الكوميدي الذي يستبيح كل شئ وأي شيئ وقتما يريد حيث يتدخل عبر تلك النافذة في شئون الأسرة ويسمح لنفسه بتغيير مسارات بعض المواقف, كما أن وجود تلك النافذة علي هذا النحو يمرر الروائح الكريهة التي إعتادتها الأسرة ويعطي الفرصة للتعايش مع الأمر بعفوية وكأنة شئ معتاد وهو الأمر الذي يشير اليه بأسي رب الأسرة الذي لا يعرف علي نحو مطمئن كيف تدار الأمور كي تعيش هذة المجموعة من البشر ومجموع دخلهم الشهري لا يساوي بأي حال من الأحوال إحتياجاتهم الشهرية ؟؟!
المنظر المسرحي الذي صنعه المصمم (وائل عبدالله) يبدو لي منطقي للغاية حيث تكون من بانوهات تحيط بصالة منزل الأسرة تميل في تكوينها للداخل وكأنها علي وشك الإنهيار وفي منتصف المسرح في العمق وضع الشباك المكسور الذي يحمل عنوان المسرحية وقد أحيط بجدران متشرخة فتلك الأسرة يمكن أن تنهار وتسقط جوانبها في أي لحظة مستقبلية , وعلي أقصي يسار المتلق كان هناك مطبخ بائس كتلك المطابخ التي تعتمد عليها الطبقات الدنيا ومن ثم فالمنظر في معظمة واقعي رمزي يشي بقرب إنهيار الطبقة الاجتماعية كما يشير بداهة للفقر المدقع الذي يحيطنا الحدث الدرامي بة وفي رايي أن المصمم هنا قد أهمل الجانب الصناعي في اللعبة الدرامية متعددة الرؤي ولم يعطه الإهتمام الكافي فالحكاية برمتها نابعة من مصدر الحكاء الذي قرر أن يقدم لنا الحدث وهو الأمر الذي يعني الكشف والتخييل , واللعبة الدرامية تتكئ علي الكوميديا السوداء ومبنية من عناصر مرنة ومن ثم ترجو إهتمام أكبر من جانب المصمم كي تبرز المشاهد وتأخذ مكانتها التشكيلية التي تستحقها إذ أن الفارق كبير بين تحقيق دنيا تلك الأسرة وبين القراءة العميقة لما وراء الحدث حيث يبرز الجانب الفانتازي الذي أشرنا له من قبل , وفي تصوري أن المسئولية هنا مشتركة بين المصمم ومخرج العرض شادي الدالي
علي جانب أخر فطن وائل عبد الله تماما لنفس الجانب في صناعة أزياء بعض أفراد الأسرة وخاصة الأبن الصغير المدلل والذي لا تتعدي مشاهده بعض لحظات علي خشبة المسرح
أما مصمم الإضاءة أبو بكر الشريف فقد إمتاز بوعي فارق خاصة في المشاهد شبة المظلمة والتي تحاط فيها الأسرة بإنارات نابعة من النوافذ المحيطة التي تخترق المكان وكأنها تتلصص علي التكوين المفضوح , فضلا عن رؤيته المنطقية لطبيعة مشهد المائدة أو المزاوجة بين اللحظات العمياء التي يسيطر فيها الأب الراوي للأحداث واللحظات التي تخلط العبث بالواقعية
وفي النهاية ورغم الضغط الشديد الذي مارسته الرقابة علي صناع العرض إلا أن خروج اللعبة الدرامية للنور يعد مكسبا كبيرا في ظل تلك الفترة التي يمر فيها المسرح المصري بمنعطف صعب , حيث يواجة حربا شرسة قد تتسبب في إنتهاء مصداقية عروضه عند المتلق طالما هناك أياد صارمة تصر علي بتر الاحداث والمواقف والقضايا من النصوص المسرحية أو تمنعها من الأساس , في رأيي تلك مسألة تحتاج لتوافر إرادة قوية من وزارة الثقافة تعي أهمية أن يناقش المسرح قضايا مجتمعه بالشكل الذي يتيح تكوين النقد الاجتماعي والسياسي والذي يسعي بقوة للوقوف علي أمراض المجتمع ووضع قضاياه تحت المجهر الجمالي الذي يشرح المشاكل ويبرزها من خلال مفاهيم جمالية حرة لا تعطلها أفكار أو قرارات أحادية