روح النص والفكرة وروح الحركة..علامات الممثل عند فيسفولود مايرهولد/ د. أحمد شرجي

لا يرتكز النص عند مايرهولد على أرضيته اللغوية (الحوار)، بل على روح النص أو الأرواح التي تسكن أعماق الفكرة الرئيسة،
وهذا ما يؤكده مايرهولد بمفهومه للأسلبة “ليس إعادة تصوير أسلوب عصر ما أو حدث ما وإنما تشكيل بُنيته وجوهره، أي استخراج الخُلاصة الداخلية لعصر أو لحدث ما، وإعادة تشكيل صفاته المُخبأة بمُساعدة كُل الوسائل التعبيرية. وأنا أربط بذلك بين فكرة العُرف والتعميم والرمز”. وقد رفض مايرهولد أن يتصبب الممثل عرقاً على خشبة المسرح، جراء التدفق الهائل للمشاعر والأحاسيس، واستبدله بالحركة وديناميكتها على الخشبة، هادفاً للتعارض مع الشخصية، لأنها سمة التمثيل التي يجب أن يتسلح بها الممثل الجديد. هذا الأخير عند مايرهولد يعرض ولا يعايش الشخصية التي يمثلها، فليس هناك اندماج ولا معايشة داخلية، لأن الممثل يؤدي موقفه من الشخصية، وليس موقف الشخصية. ويظل تحديد الموقف من الشخصية للجمهور مهما، لأن الممثل يقدم العديد من الشخصيات في العرض المسرحي الواحد، انطلاقا من مبدأ التحول Reversel الذي يسعى إليه مايرهولد، لإبراز قدرة الممثل على التحول. هذه العلاقة بين الممثل والدور، أطلق عليها مايرهولد بـالقناع Mask، وعلى الممثل ألا يخاف من تكرار القناع، بل من تكرار نفسه داخل القناع.
وفي ضوء هذا الاتجاه أصبحت الدلالة الاجتماعية للحركة الجسدية والإيماءة الأرضية التي يستند إليها أسلوب عمل مايرهولد، يتسم الأداء فيها بالمبالغة من أجل الحصول على الإيحاء الكافي لتصوير طبقة اجتماعية ما، من خلال تفعيل الغروتسك Grotesque، لإبراز الأسلبة. لا يتسم أداء الممثل Perfomance بالانفعالية عند مايرهولد، لأن الأداء المشحون بالعواطف وذرف الدموع، يقتل الإبداع عند الممثل. ويخلف جمهوراً سلبياً وغير مشارك بالعملية المسرحية وهذا أسلوب مرضي، بل يجب أن يكون الأداء بسيطاً بارداً. فالممثل هو المدافع عن الشعب كما يراه مايرهولد، ولا بد من سيطرته على انفعالاته، لذا يجب عليه أن يكون مراقباً للحدث وينقل موقفه الخاص تجاه الأحداث الدرامية، لأن “كل الانفعالات النفسية تحددها تغيرات فسيولوجية. ولكي يصل الممثل إلى الانفعال الذي يريد أن ينقله إلى المشاهد ويغريه بالاندماج معه في العرض، لابد له من السيطرة على حالته الجسدية. إن هذا الانفعال هو جوهر فن التمثيل”. و لا يقترب الممثل من الحقائق الحياتية عن طريق استثارة العواطف، بل يجب على الممثل أن يكون مبدعاً، لا مقلداً، وهذا يتمثل في أسلوب Style عمل (الممثل الجديد)، الذي يعتمد على الحركة، لأنها مصدر الأفكار. بمعنى آخر أن دينامية الحركة تشكل مصدر الأفعال الدقيقة، كيفية الإعداد لها أمر في غاية الصعوبة، لأنها تشتغل بمرجعية تفرضها دلالتها الاجتماعية. وقد استعار مايرهولد من الانكليزي كوردن كريك G. Craig (1872­1966) صفة الدمية المتحركة، للتمييز بين الممثل الجديد والممثل الطبيعي. ولقد وسّع تفعيل الحركة على حساب المشاعر والأحاسيس عند مايرهولد من دائرة الانتقاد لطريقته. وصفت هذه التقنية، بـ(التقنية الخارجية) لأنها تفصل الحالة النفسية عن الحالة العضلية، وتعبر عن النفسي بالحركة، التي هي جوهر الفكرة. وهذه الطريقة تقوض العملية الإبداعية عند الممثل وتصادر أحاسيسه ومشاعره. وقد وجد (فاختنغوف)، أن مايرهولد “غير قادر على إثارة الانفعال المطلوب عند الممثل، وإيجاد الإيقاع الضروري، والمشهدية المسرحية المناسبة…” ، لكن هذا الرأي له أسبابه، لأنه فاختنغوف من أنصار دانشنكو وستانسلافسكي، ومدرستي الواقعية والطبيعية، اللتين كانتا سائدتين آنذاك، وبما أن مايرهولد جاء بتجربة وأداء جديد، مغاير، ممثلا جديداً، حتما يتلقى كثيرا من الانتقادات. ويري مايرهولد بإن مرونة الجسد، تساهم بليونة الفكر داخل المجتمع. فدفع حياته ثمناً.
تعد الإيماءة إحدى مصادرالممثل للتعبير الجسدي، بعد اهتمام المسارح التقليدية بالتركيز على الحركة، فحركة الممثل ليست بالضرورة بحاجة إلى الكلام من أجل توكيدها، ولا كل الإشارات والحركات تدل على الكلام الذي يدور بين عاشقين، بل هناك حواران داخلي وخارجي وكلاهما يختلفان عن بعضهما البعض، وهنا تكمن مهمة المخرج بإبراز الحوار الداخلي، لأنه يجسد روح الفكرة، العمل بوعي متقد لاستثارة وعي المتفرج، فإن الجمهور يعلم بأنه مدعو للمشاركة، لا يفرض أسلوب المشاهدة بل “إن الجمهور قد وجُد كي يرى ما نريده نحن أن يرى..”. لذا يتبادل العشاق عند مايرهولد سلسلة متوالية من الإشارات والإيماءات للتعبير عن مشاعرهم الداخلية، من دون الحاجة للكلام، عندها لا يحتاج الممثل لاستجداء عواطف الجمهور. ويتم ذلك من خلال التمارين الحركية والإيمائية، ترويض جسد الممثل. ويعد (الأداء التمهدي)، أو(مرحلة ما قبل الأداء) وسيلة مهمة للممثل المبدع، وللمتفرج ، وما يسبق عملية إلقاء الحوار، جذب انتباه الجمهور لقدرة الممثل الداخلية، التي تعبر عن المشهد من خلال منظومة حركية وإشارية. كيفية انتقال وانعكاس محتوى رسالة يقرأها الممثل أمام الجمهور، قبل أن يسرد محتواها، لهفة المتفرج لمعرفة سر الرسالة، يراه على وجه الممثل وحركاته وإيماءته، يسبق عملية الإلقاء، بمعنى انعكاس الفعل الداخلي، وإظهاره، يعطي أهمية عند المتفرج، أكثر من أهمية محتوى الرسالة. وبهذا تكون الأسبقية للفعل والحركة، وليس للكلام. وهذه الأولوية هي جوهر عمل مايرهولد، ويطالب الأخير الكتاب بضرورة كتابة سيناريو للحركة، مساويا للنص الدرامي “سوف يسمح له بوضع كلمات على لسان الممثل، لكنه يجب أن يكتب سيناريو للحركة أولاً. كم يستغرقهم الأمر حتى يضعوا على الطاولات المسرحية القانون الآتي: إن الكلمات في المسرح هي مجرد إضافة زخرفية لتصميم الحركة”، ولأن “الحركة الجسدية هي أكثر وسائل التعبير المسرحي فعالية عند الممثل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت