جماليات الاعراض في مسرحة أصالة الوجود /الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
الأعراض التي تتناولها نظرية أصالة الوجود هي كالاتي :-
(اين) : المرتبطة بالمكان وكذلك بنسبة وجود الشيء الى المكان، وهي تأتي لتحديد المكان وتحديد الشيء في داخله .وقد ذكرنا عمل (هلتون) في مجال إرتباطها بالكم المتصل .أما هيأة الزمان والمرتبطة بـ(متى) في أصالة الوجود والتي ترتبط بالكم المنفصل . إذ يربط (هلتون) هيأة الزمان في داخل العرض المســرحي مع الأزمنة المسرحية ، ومثال ذلك ما ذكر من أزمنة في مسرحية (اوديب). وبعدها تأتي هيأة (الوضع)وهي المتكونة من أجزاء الشيء بعضها ببعض والمجموع الى الخارج ،ويبرز عملها عند (هلتون) في مفهوم الإضاءة الجامعة بين أجزاء العرض المســرحي ، إذ تأتي من خلال عناصر ثلاثة رئيســـة تحقــقها الإضاءة وهي السرعة، درجة الحدة، نوعية اللون المستخدم، فهذه العناصر هي التي تتحكم في تشكيل صورة اجزاء العرض في الحيز المكاني . وتأتي بعد ذلك هيأة (الجدة) ،أو الملك ،أو ما تسمى في نظرية أصالة الوجود (إحاطة )الشيء بالشيء وتأتي هذه العملية مرتبطة بهيأة (الإضافة) الحاصلة من تكرار النسبة بين شيئين ، وهنا يكون تفسير النسبية في العرض المسرحي عند (هلتون) على وفق ما يراه في تحقيق العلاقة النسبية مع الواقع من خلال الشكل الذي يربطها للتركيز والتكثيف والنظرة النسبية الى العالم ،فالتركيز يأتي من خلال تحديد مساحه الأداء وزمن العرض والممثلين في بداية المسرحية ،إذ يجعل من هذا المفهوم أمراً حتمياً. أما التكثيف الذي يأتي ثانياً في نظرية هلتون فيرى فيه أن المسرح لا يهدف الى الانفصال عن الواقع والارتفاع فوقه بقدر ما يهدف الى تكثيف ،أي تكثيف وعينا به إذ تتأمله من جديد وقد زالت غشاوة الالفة عن عيوننا فنسترد الإحساس بالدهشة إزاءه . ولهذا فمن الأفضل أن نستبدل كلمة الانتشاء بكلمة التكثيف في نظريتنا الدرامية (المسرحية الجديدة )، فالعرض المسرحي على وفق هذه النظرية يفضي الى تكثيف الوعي بالحياة لا الى الابتعاد عنها، أي بمعنى الإحاطة بهيأة الشيء من خلال الإنتقال من مفهوم الانتشاء الى التكثيف ،أي الانتقال من المفهوم الأول الذي يفرض المعرفة بتفاصيل المحيط الذهني بالشيء الى مفهوم تشكيل المحاط من خلال مفهوم التكثيف. أما المفهوم الثالث الذي يشكل (الإضافة) على وفق مفهوم النسبية ،فأن المسرح عند (هلتون) يجب أن يهدف الى تعميق وعي المتفرج بهذا العالم من خلال عرض جوانبه المختلفة وصوره المنوعة ، ويضع هذا الهدف المسرح على الحافة القصوى على دائرة الوعي الثقافي السائد في موقع القيادة الطليعية، ويجعل منه وسيطاً ثقافياً .
ونصل الى الهيأتين الأخيرتين هما (الفعل)الحاصل من تأثير المؤثر الذي ما يزال يؤثر، و( الأنفعال ) الحاصل من تأثير المؤثر الذي لا يزال يتأثر . إن مفهومي الفعل المؤثر والأنفعال المتأثر، هما آخر (الأعراض) للوجود الحقيقي، إذ نتلمس وجودهما في نظرية العرض المسرحي عند (هلتون) من خلال الفاعلية في العرض كمؤثر يقع في داخله مفهومي الفعل عند الممثل ،والانفعال عند ممثل آخر لتنتقل هذه العملية الى العرض بكليته الذي يتحول الى فعل مؤثر في الجمهور من خلال عرض الرسالة الدرامية في حين يتحول الجمهور الى خانة المتأثر الذي يتأثر بفعل العرض المسرحي. ان طرفي المعادلة المؤثر والمتأثر، والتي تحدث في داخل العرض وخارجه فيرى (هلتون) عملية انتقال طبيعية من الممثل كمؤثر ومؤَثر الى المتفرج ،إذ يقول: أن الممثل حين ينجح في أداء مهمته يحول الجمهور من مشاهد سلبي الى مشارك ايجابي في إنشاء دلالة الحدث المسرحي، فالأداء الجيد يجعل المتفرج يشعر وكأنه في قلب الأحداث المعروضة أمامه ويدفع الى الاشتباك الدرامي مع العرض وجوديا ومعرفياً ،وهذا الاشتباك يأتي من خلال مفهومي الفعل والانفعال .
ولتوضيح ما تم تقديمه في الفقرات(ا، ب، ج) ،نضع الخطاطتين الآتيتين لتوضيح (العَرَض) في أصالة الوجود وارتباطه في نظرية (هلتون) المسرحية على وفق الشكلين.
إن الوجود الحقيق في نظرية (الأصالة ) ،هو وجود الشيء في الواقع وهذا الوجود يأتي من جوهر الشيء ،لا من (عَرَضَه) لأن المقولات الخمسة المتصلة بالجوهر ،هي التي تكون الوجود الحقيقي بشقيه الداخلي والذي يتكون من (عقل ،نفس، مادة) ، ووجوده الخارجي الذي يتكون من (جسم ،صورة جسمية). والوجود الخارجي قد تم توضيحه من ضمن جوهر الوجود بحسب ما جاء في الشكل رقم (1). أما الأعراض وبحسب مقولاتها التسعة التي تشكل ماهية الوجود أو ما تسمى بالماهية الرابطة، فقد تم شرحها وتوضيحها على وفق الشكلين السابقين ، والان نتطرق الى الوجود الذهني الذي يتشكل في ذهنية المتلقي من ماهية الوجود الحقيقي ،ومن ثم تتكون ماهية ذهنية في داخل الوجود الذهني للشيء المشاهد ، ولتوضيح هذه الخطوات وكيفية تكوين الصورة الماهوية في الذهن نوضحها على وفق الخطاطة الآتية.
إن الوجود الحقيقي للعرض المسرحي ،والذي يتمثل في جوهره ، يعطي من خلال جسمه والصورة الجسمية (ماهيته الخارجية) التي هي مضافة اليه والتي تتشكل بفعل الأعراض التسعة المذكورة سابقاً ،ومن ثم من خلال أعراض الوجود الحقيقي يتشــكل الوجود الذهني عند المتــلقي ويكون هذا الوجـود الذهني بماهيته الذهــنية هو أعتباري وليس حقيقياً ،لان الحقيقة الموجودة هي فيما يخص الشيء ذاته ، أي بمعنى ان الوجود الأول الحقيقي تترتب عليه أثار مادية ملموسة ومحسوسة في الحيز المكاني، في حين الوجود الثاني لا تترتب عليه أثار مادية وبمرور الزمن يتلاشى الوجود الذهني وماهيته من ذهن المتلقي ، إذا ما تمت عمليات الجد والإضافة وتكرار العملية في عرض الأحداث لتركيز وتكثيف الأحداث ونسبيتها تجاه الواقع المشاهد، وهنا يعطينا (هلتون)مثالاً عن الوجود الحقيقي وماهيته الرابطة وعن الوجود الذهني ، إذ يقول: قبل أن نأتي نحن الجمهور الى المسرح تشكل لدينا سلسلة من التوقعات من خلال الإعلانات عن العرض التي تخبرنا أن عرضاً يدعى (يوليوس قيصر ) سيقدم في المكان الفلاني في التاريخ الفلاني، وقد تخبرنا الإعلانات أيضاً أن الممثل(جوبلوجز) سيقوم بدور قيصر(…)وحين نصل الى المسرح تهاجمنا مجموعة منوعة من أفعال وعلامات الإشارة والتعريف تشحذ وعينا بالمكان وتنبهنا الى أن ما سوف نراه هو عرض مسرحي سنرى فيه (جو بلوجز) ويحدث هذا فعلاً في المشهد الثاني من الفصل الأول ،إذ نرى (جو بلوجز) لكننا نراه وقد تحول الى (يوليوس قيصر) ،وعلى الرغم من إننا نعرف تماماً انه ليس (قيصر) في الواقع فأننا ندرك تماماً أيضاً أنه كذلك في عالم المسرحية، وهكذا يطالبنا الوعي المنبثق من طبيعة العرض المسرحي بأن نصدق حقيقتين متناقضتين عن وجودهما انه (قيصر) وانه ليس (قيصر).
إن تشكيل الوجود الذهني، بماهيته عن مسرحية (يوليوس قيصر) ، بشخصية (قيصر) المسرحية وشخصية (جو) الممثل الحقيقي ، هما لشخصيتين مختلفتين يشاهدهما الجمهور ويعيهما ، تجعل من وجود العرض المسرحي هو المصداق الحقيقي لما يراه الجمهور، وليس لشخصيتين مختلفتين .وتصبح الماهية الرابطة عن الشخصية المسرحية هي ما يقابلها في وعي المتفرج وليس الشخصيتين المتناقضتين ومن ثم يتشكل الوجود الذهني بماهيته من الوجود الحقيقي للعرض المسرحي وليس من شيء أخر .
إن نظرية الوجود تنظر الى الحمل على أساس ارتباطه بالموضوع، فأما ان يكون الحمل ذاتياً ، ويأتي من داخل الموضوع ذاته ، وأما ان يكون الحمل تركيبياً، ، ويأتي من خارج ذات الموضوع، وبالتالي يحمل الموضوع أفكارا أخرى غير التي تخرج من ذات الموضوع.
إن هذه المفاهيم التي تهم الحمل الذاتي والتركيبي، يمكن ان نجدها في وجهه نظر (هلتون) تجاه عملية التلقي للعرض المسرحي من خلال الاشتباك الدرامي بين العرض المسرحي والجمهور، وهذا الاشتباك يقع في مستويين:
- مستوى اشتباك يقع على خشبة المسرح والذي يشكل حبكة المسرحية، وهنا يدخل الحمل الذاتي المأخوذ من ذات الموضوع (موضوع العرض المسرحي) لإنتاج محمول من ذات الموضوع.
- .مستوى اشتباك مع الجمهور يقع في الوجود الذهني عن فعل إبداعي في ذهن المتلقي لإنتاج محمول (بديل مقنع)على ذات الموضوع من خارج الموضوع نفسه.
وفي النوع الثاني تدخل المغايرة بين الوجود الحقيقي، والوجود الذهني لخلق محمول مركب على ذات التوقعات عند المــتلقي ،وفي هذا الصدد يقول (هلتون):إن في العرض المسرحي يدور الاشتباك الدرامي على مستويين متزامنين :الأول هو مستوى الصراع الدائر على خشبة المسرح الذي يشكل حبكة المسرحية ،والثاني هو مستوى الاشتباك مع الجمهور في فعل أبداعي خيالي يسعى الى إنشاء عالم بديل مقنع .
وهنا يظهر وجود تقسيم للتلقي عند (الجمهور المسرحي) الى مستويين على وفق نظرية (هلتون) هما:-
- مستوى مباشر:- وهو الذي يقع مع الأحداث المقدمة على خشبة المسرح ، وهنا يرتبط مستوى التلقي بالحمل الذاتي من ذات الموضوع، ويكون المحمول في الوجود الذهني هو بناء صورة ذهنية أو ماهية ذهنية مشابه لما موجود في الوجود الحقيقي.
- مستوي غير مباشر :- وهو ما يقع فيه تلاقي آفاق التوقعات عند المتلقي مع آفاق الفعل الإبداعي المرسل من خطاب العرض المسرحي ، وهنا يرتبط مستوى التلقي الثاني بالحمل التركيبي من خارج ذات الموضوع على الموضوع ذاته ، أي من خلال ما يحتويه أفق التوقع عند المتلقي في بناء ماهيته ذهنية مغايرة أو تأويل أخر لما موجود في الوجود الحقيقي .
وهنا تدخل مستويات الإدراك عند المتلقي في الحمل الذاتي (من خلال المدرك الحسي) ،أو في الحمل التركيبي (من خلال المدرك المبني على الخيال او الوهم) في تبني فكرة تأويلية محددة عن الموضوع.
ترتب نظرية (أصالة الوجود) ،الوجود الى ثلاث مراتب ، أي ان الوجود يمر في ثلاث مراتب هي: الأولى (الكتبي) والثانية (اللفظي) والثالثة (الذهني) ولكل مرتبة وجودها والمرحلة التي تمر بها في الوجود ، وكذلك لكل مرحلة لها فضائها المعرفي وحيزها فالكتابة هي حيز وجود الأفكار ، واللفظ هو حيز وجود الكلمات والأفعال المرافقة للكلمات ، والذهن هو حيز وجود المعاني. وهكذا فأن العملية تكرر في مراتب الوجود الثلاثة .
إن مراتب الوجود الثلاثة كانت حاضرة في العملية المسرحية بصورة عامة، ولكن عند (هلتون) لها طبيعتها الخاصة ،إذ يرى بأن العرض المسرحي وهو المرتبـة الثانية من مراتب الوجود وهذه الرتبة هي تعبر عن الوجود الحقيقي من خلال مكوناتها المادية التي يكون فيها المؤدي (الممثل) ،هو حجر الأساس من خلال وجوده المادي (البصري) ووجوده الصوتي (اللفظي) ،وهو خير وسيلة للربط بين الوجودين (ألكتبي والذهني) وتأتي هذه العملية من خلال العرض المسرحي الذي يؤدي فيه المؤدي دور الوسيط بين نوايا المؤلف، وبين توقعات المتلقين ،ويحقق التواصل بينهما ،فهو ينوب عن المؤلف المسرحي أمام الجمهور وينوب عن الجمهور أمام المؤلف المسرحي ، وقد يقول البعض إنَّ المؤلف يستطيع ان يصل الى الجمهور عن طريق الكلمة المطبوعة ،وهذا حق، لكن علاقة المؤلف بالجمهور هنا تتحول الى موضوع للدراسات الأدبية لا للدراسات المسرحية، ومن ثم فأن العرض المسرحي هو المرتبة الثانية التي تحقق تواصل بين الوجودين الكتبي والذهني, وهنا نضع الخطاطة الآتية لتوضيح مراتب الوجود الثلاثة في نظرية العرض المسرحي لـ(جوليان هلتون) على وفق الشكل الآتي:
إن العرض في وجوده هو جوهر أصيل مستقل عن صورته في الذهن ، إذ يأخذ أصالته من كونه يقع في وجود حقيقي ،ويترتب عليه أثار ملموسة في الحيز المكاني الذي يشغله من خلال جسم العرض والممتد في جهاته الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع) والمتحرك على وفق صورته الجسمية وامتداداتها العقلية والنفسية والمادية . ان للعرض المسرحي ماهية تأخذ وجودها من الأعراض ،وهذه (الأعراض) هي ليست من جوهره ، بل هي من ماهيته المستمدة ملامحها من مقولات تسعة هي : الكم ،والكيف، وأين ،ومتى، والوضع، والجدة، والإضافة، والفعل ،والانفعال ، كما أن هذه الماهية هي مضافة اليه وتسمى ايضاً بالماهية الرابطة بين الوجودين الحقيقي والذهني . ويتشكل العرض المسرحي أنطولوجيا من ثلاث مراتب ، إذ يمر في ثلاث مراحل تنتج وجوده على الخشبة وتشكيل معناه في ذهن المتلقي هي: الوجود(الكتبي) من حيث ان العرض المسرحي ،هو كتابة كنص مسرحي وأيضاً كتابة على خشبة المسرح التي يرافقها ويتماش معها الوجود (اللفظي) وصولا الى الوجود (الذهني)، ولكل مرتبة وجودها والمرحلة التي تمر بها في الوجود ، وأيضا لكل مرحلة لها فضائها المعرفي وحيزها ،فالكتابة هي حيز وجود الأفكار والانتاج على الخشبة ، واللفظ هو حيز وجود اللغة والأفعال المرافقة ، والذهن هو حيز وجود المعاني. وهكذا فأن العملية تكرر في مراتب الوجود الثلاثة. ان للعرض المسرحي ماهية ثانية تقع في الوجود الذهني ، وهذه الماهية تأخذ شكلها في الوجود الذهني من الأعراض التسعة في الماهية الرابطة . والماهية الذهنية اعتبارية لا تترتب عليها أثار فعلية وجودية حقيقية في داخل الذهن ، بل تبقى صورة ذهنية ، تفقد ملامحها تدريجيا إذا لم تتكرر بشكل منتظم ، وهذا الفقدان يأتي من أن آثارها ليست واقعية حقيقية ملموسة في داخل الذهن ، ومن ثم يكون وجودها اعتبارياً مقروناً بالوجود الحقيقي للموجود المشاهد . وتتكون الماهية الذهنية نتيجة حملين، الأول ذاتي وهو يحمل من ذات الموضوع ويعمل على تثبيت الصورة المباشرة للوجود الحقيقي ، والثاني تركيبي يحمل من خارج ذات الموضوع ويعمل على إضافة معلومات أخرى تكمل النقص الحاصل في معنى الصورة الذهنية ، ومن ثم فأن إكمال في عملية تلقي يأتي من الحملين، ويكون الحمل الأول مباشر من ذات الموضوع، والحمل الثاني غير مباشر من خارج ذات الموضوع .