مسرحة الواقع أم واقعية المسرح في مسرحية (قيء) لعلي العبادي/ حيدر جمعة العابدي

بين الواقع والمسرح علاقة متواشجة ، تقوم على اساس التداخل والتساوق والاندماج لذا هي علاقة تحكمها فلسفة وثقافة جدلية بين  فكرة الوجود والعدم ولا يتم ذلك الا بمسرحة احداث الواقع  و واقعية احداث المسرح – أي سحب المسرح الى قلب احداث الواقع  و كلا التصوريين يقومان على اساس انتاج صور الحياة المختلفة والمتجددة بكل انماطها الواقعية حزن ،فرح، قبح ،جمال ، وانماطها الفنية المأساة والملهاة .
مسرحية قيء  للكاتب علي لعبادي تشيد بناءاتها الفنية والموضوعية ، وفق نفس هذه العلاقة الجدلية  مع واقعها المعاصر لدرجة التشابه والمحاكاة للكثير من الاحداث  مع الاخذ بنظر الاعتبار الرؤية الفنية  تعددية الصوت ، الإضاءة ، الشخصيات ، الديكور ، اضافة للرؤى  الفكرية الثيمة ، نوعية الخطاب ، الرسالة ، اللغة ، التي حاول من خلالها الكاتب  احداث ورسم الفارق الجمالي والدلالي (الصورة ) من  خلال  شخصيتين  هي شخصية  الام ، و الرجل  ابطال المسرحية  حيث توسعت دلالة الام والرجل لتكون ديالكتيك الوجود الفني المتقابل لصورة الحياة ، فمع كل دلالة للام تقابلها دلالة للرجل .
الام = المرأة ، الماء ، الوطن ، الحياة   .
|        |        |      |         |
الرجل = الحارس ،الوحل ، القيم ، الموت
 
منذ اللحظة الاولى يضعنا الكاتب امام مشهد وصورة دلالية ورمزية دقيقة تحيل الى واقع خبره المتلقي في العراق حتى بات يستحوذ على ذاكرتنا الجمعية …  (بناية أو عمارة متهالكة بفعل الانفجارات  يقف امامها حرسا بحوزته مظلة قد احكم غلقها لتكون على شكل عصا كبار السن واضعا راسه عليها) .وبما ان المسرح كما باقي الاجناس الادبية الاخرى يحاول الاجابة عن اسئلتنا الوجودية والذاتية ،والجمعية  ، لذا كانت الصوت الاول للشخصية يبدأ بسؤال وجودي ونفسي عميق على لسان الأم  بكل ما تحمله التسمية من دلالات اجتماعية وقيمية داخل بيئة مجتمعية مثل العراق وهو سؤال يرتكز حول البحث عن الانا ،ولنحن و دلالتها  المشظيه ما بين ركام الاحداث اليومية ، والحروب ، والاقصاء الثقافي ،والاجتماعي لصورة المرأة ، لذا كان سؤالا عن الهوية الغائبة  بفعل جهلنا هو جوهر سؤال الام  (أين أنا؟ لماذا أنا هنا ؟ هل هناك احد هنا ؟تصرخ ) وهو ما يعيدنا الى بنية منظومتنا القيمية والثقافية كيف تشكلت وانتظمت داخل واقعها ، ولو عدنا لشخصية الام الابرز و تجلياتها داخل المتن سنجد انها تشير الى صورة الانسان الناقم على قيم الواقع الملوثة والوحشية المصاحبة لكل اشكال الاستغلال والاقصاء بفعل المهيمنات الاجتماعية والقيمية البالية، لذا  جاءت دلالة الأم متسقة مع واقعها المعاش ، الحزينة ، المهجرة ، المسلوبة الارادة ، المغيبة بفعل الحروب والانفجارات ( وسخ وسخ كل شيء حولي ملوث ) .
وللبحث عن دلالة موازية لصورة الأم بكل بؤسها جاءت  صورة الرجل لتجيب عن اسباب هذا التأخر والبؤس في صورة الأم  وهي صورة الحارس بما يحمله عمل الحارس من دلالة ومعنى ممثلا بحراسة القيم والنظام والقوة فعلى الرغم من كونه حارسا ساذجا  الا انه كان الاكثر ارتباطا بنوعية المهيمنات الثقافية الحاكمة والتي وفق دلالتها داخل المتن  كان الوحل والجهل واللامبالاة  أهم تجليتها بل وبات احد ضحايا القيم نفسها التي يحرسها فمع حركة المشاهد ،و الشخوص، والإضاءة  تتحول دلالة  الرجل  وفق نفس شروط الواقع، من حارس لبناية خربة مات جميع سكانها ، إلى مؤجر بيوت انتهازي الى رجل دين ينظر لقيم بالية داخل واقع مدمر ، لتكتمل دلالة الواقع  بتشوه صورة الوطن  بفعل الدمار البشري المفتعل  ليكون من وطن الجميع الى  وطن للخوف والتهجير والموت ، فكان بالنسبة للأم ابنها الذي قتل بسب انفجار كبير ،وللرجل جثث وضحايا متناثرة ، لتكون المحصلة (زيادة في صناديق الموتى ،وفائض في عدد البشر ) مجرد ارقام
الحارس : (مندهشا ) كيف تسول لك نفسك الاساءة الى رجال الدين .
المرأة : العظيم ليس بحاجة الى ثلة من اللصوص ،يكفيه رقاب عانقت المشانق لفرط ثقلها  .
حركة الشخصيات كانت مرتبطة هي الاخرى بجدلية  الحياة والموت داخل فضاء المسرح ()الزمكان وهي حركة ذات ايقاع فني تعبيري متخيل اكثر منه واقعيا – ترمز لطبيعة الصراع التاريخي والاسطوري  ما بين (الماء ) كدلالة على النقاء، والحياة  ،والامل ، وما بين (الوحل ) كدلالة على التشوه والقذارة ، والعتمة ،والموت ولكون هذا الصراع يأخذ شكلا رمزيا وفكريا  كانت جمع تمثلاته مرتبطة هي الاخرى بنوعية شكل الحياة التي نريد ان نحيا في ظلها، فالمرأة تبحث عن الماء لتتطهر  من نجاسة قيمنا الخاوية والرجل يرفض الماء لأنه لا يطيق ان يرى نفسه بوضوح ونقاء  ويفضل الوحل  كونه اقرب للواقع لينتهي هذا الصراع بانتصار رغبة الحياة ( الأم ،الماء ، الامل  ) يصدح صوت الرعد وينزل المطر ،  الرجل يتجمد كانه تمثل في مكانه ليتحول الى رمز لزمن الجهل بالحياة وعناصرها وتسدل الستارة .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت