النسوية تتسلل لمسرحنا العربي ترتكب الجرائم وتدعو للانتحار / د. حسن عطية

أثر أصابته بضربة على رأسه في بيته ، يفقد الزوج ذاكرته المرهقة في المستشفى التى نقل إليها، ثم سرعان ما تعود إليه، دون أن يخبر أحدا بعودتها، كما فعل من قبل الفتى المتقمص لشخصية “هنري الرابع” في مسرحية “بيراندللو” المعروفة بذات الاسم ، بحثا عن الحقيقة المغيبة عنه . فيعود الزوج هنا مع زوجته لبيته مرتديا قناع عدم التذكر ، سعيا لمعرفة بدوره لمعرفة حقيقة ومبررات القيام بمحاولة قتله، فهو يعرف جيدا شخصية من أقدم على قتله بضربه بتمثال على رأسه ، لكنه يود معرفة مبررات ذلك الفعل، منطلقا من الادعاء بالتشكك في أن يكون هذا البيت بيته، وأن تكون هذه المرأة المصاحبة له هى زوجته، مدعيا التفتيش عن حقيقة ذاته الفاقدة لتاريخه الذي مضى ولا يتذكره، داخلا مع زوجته في محاورات فكرية هدفه المعرفة، وهدف زوجته تزييف هذه المعرفة، بما تختزنه من خبرات ومعارف، موهمة إياه بأنه كان فظا معها في حياتهما الممتدة لعشرين عاما، وأنه حاول قتلها ذات يوم حينما قررت أن تتركه، متشككا في وجود رجل آخر في حياتها، مقدما هو لها مفاجأته التي أخفاها، مع مؤلف النص، لتكون قمة التوتر الدرامي، وبداية توجه المسرحية نحو نهايتها، وهى معرفته بكون الزوجة هى التي أقدمت على قتله، فقد شاهدها خلف ظهره وهو يستمع لقطعة موسيقية أثيرة عنده.

خلف الحوار الفلسفي بين الزوجين، تختفي (الجرائم الزوجية الصغيرة) المتبادلة بين الزوجين، والتي عنون بها الكاتب الفرنسي البلجيكي “أريك إيمانويل شميت” نص مسرحيته، التي ترجمها “أحمد الويزي” ومنحها عنوان (اعترافات زوجية)، وهو نفس العنوان الذي استخدمته فرقة (المسرح القومي) السورية، وقامت الكاتبة والمخرجة السورية “أنا عكاش” بإعداد النص الفرنسي ليتواءم مع الذهنية العربية، وأن اكتفت بتكثيف النص الطويل، ومنح الزوج اسم “جمال” بدلا من “جيل”، دون أن تمنح المرأة بصورة واضحة أسم علم، مكتفية بوجودها الفاعل في العرض باعتبارها اسم دال علي الجنس (امرأة) ، فيصبح أمر المسرحية مواجهة بين المرأة والرجل، سواء أكان يحمل أسم “جمال” العربي أو “جيل” الغربي، وتضحي المسرحية سجال عنيف بين الجنسين، تأكيدا على النظرة النسوية التي ترى العلاقة الزوجية هي علاقة تناطح ومعارك دامية لإثبات تفوق جنس على آخر، حتى في غرفة النوم، كما جاء في العرض المسرحي .

نجح المخرج “مأمون خطيب” في تقطيع مشهد الحوار الطويل جدا، في النص الأصلي، بحالات إظلام تصحبها الموسيقى، مع خلع الممثلين لقطعة من ثيابهم بصورة تدريجية، مغيرا بذلك صورة المشهد الواحد وزمنه، وناقلا للمتلقي أحساسا بتمدد هذا الحوار بين الزوجين لأيام كثيرة، وليس خلال ليلة واحدة، هى ليلة العودة للبيت من المستشفي، مازجا بحذق بين مشهد الحاضر ومشاهد الماضي المستدعاة والمتعددة المشاعر، والكاشفة في نفس الوقت عن جريمة إقدام الزوجة على قتل زوجها، ليست نتيجة للحظة انفعالية، فجرها التعاطي المتزايد للخمر من قبل الزوجة، ولكنها جريمة كامنة في عقل الزوجة المتناحرة طوال الوقت مع زوجها، والمرتعبة من تفوقه الأدبي والجماهيري عليها، فهو كاتب روايات بوليسية تجد رواجا أكثر من لوحاتها التشكيلية، مما ولد بينهما صراعا حول التفوق، دعمته النظرة النسوية للمسرحية التي ترى أن قبول الزوجة دخول علاقة زواج، يعنى خسرانها للعديد من سمات التفوق عندها، واشتباكها في حرب طاحنة من أجل استعادة تلك السمات المفقودة، حتى ولو أدى الأمر لقتل هذا الزوج السالب لشخصيتها المتميزة.

كما أستطاع كلا من “مالك محمد” مجسد شخصية الزوج المتشكك، و”رنا جمول” مجسدة شخصية الزوجة المتنمرة بث الحيوية في العرض المسرحي، والتحرك وفق ميزانسين المخرج في فضاء المسرح بالصورة الناقلة لحالة الصراع بين الزوجين، والتنقل من لحظات الحب الدافئة للحظات الكراهية بصورة دقيقة، بل وكيفية التعبير الدقيق عن مشاعر الكراهية المخبوءة خلف كلمات الحب المعسولة، وذلك داخل إطار سينوجرافيا “نزار البلال” و”ريم شمالي” التي ملأت خلفية المسرح بحوامل مفرغة، توحي بمكتبة الزوج الضخمة، ويكشف فراغها والكتب القليلة المعلقة بها عن عدم امتلاء حياة هذه العلاقة الزوجية بالمعرفة والحب المتبادل .
 

فرجينيا وولف

 
التقط الكاتب السعودي د.”سامي الجمعان” شخصية الكاتبة الإنجليزية “فرجينيا وولف”، كواحدة من أيقونات الأدب الإنجليزي فى بدايات القرن العشرين، وواحدة من مؤسسات الرؤية النسوية في الأدب والحياة ، ليقدم لنا معاناتها الحياتية مع الرجال، في مسرحيته ذات العنوان الدال (انتحار معلن) ، والذي يذكرنا بعنوان رواية “جابرييل جارثيا ماركيز” (وقائع موت معلن)، فكلاهم – المسرحية والرواية – يبدأن من الإعلان عن موت قادم : فى المسرحية للمرأة “فرجينيا وولف”، وفى الرواية للفتى “سنتياجو نصار”، حيث ينطلق الكاتب المسرحي من لحظة نهاية “فرجينيا” بموتها منتحرة ، فلا يصبح الموت الأخير هو غاية المسرحية في الكشف عن تطور حدثها الدرامي ومآله، بل يتبلور هدف المسرحية في الكشف عن مبررات هذا الموت المأسوي، بإلقاء نفسها في النهر المجاور لبيتها، تخلصا من حياة شاقة مع الرجل ، بكل عمومية الرجل هنا، المتمثل بداية في الأخوة غير الأشقاء الذين حاولوا اغتصابها وهى مازالت بعد صبية تكتشف جسدها وما تملكه من أعضاء لا يجب الاقتراب منها، وهو الوحيد الذي من حقه أن يخرج للحياة ليتعلم، والوحيد الذي يسمح له بدخول مكتبة أبيه، بينما الفتيات يقبعن في البيوت يتعلمن ما يقرر الرجل لهن، وهو المهيمن على حياة “فرجينيا” عقب موت أمها، ثم أختها الكبيرة التي لعبت دور الأم بعد وفاة الأخيرة، ففقدت معهما السند النوعي، وحوصرت وسط عالم ذكوري قاتل، أصابها بعدة نوبات عصبية، مما دفعها للإقدام على التخلص من حياتها أكثر من مرة، فهى بمفردها غير قادرة على مواجهة الرجال، وبالتالي عدم القدرة على الانتصار عليهم .
مونودراما تتيح للممثلة أن تنطلق بأدائها المعبر عن المشاعر الدفينة في كل أرجاء المسرح، ممتلكة وحدها هذا الفضاء المسرحي بديلا عن فقدانها لحق امتلاك فضائها الحياتي، وقام المخرج المصري “مازن الغرباوي” باستثماره والاستفادة من ستارة الخلفية البيضاء وشريحتين (بانوهين) بيضاويين أيضا على يمين ويسار المقدمة لتغيير الصورة المرئية، والتعبير عن تعدد الأمكنة، وتغير الحالات النفسية، بإسقاط صورا بالبروجيكتور فيديو عليها، محققا ثباتها نوعيا خلال الحكي الذي تسرده شخصية المسرحية “فرجينيا وولف”، مشوها المنظور في نهاية العرض، تشويها للواقع أمام نظر “فرجينيا”، وتمهيدا للحظة النهاية المأساوية ، كما صاغ “الغرباوي” ميزانسين جيد للممثلة التونسية “منى التلمودي”، التي أمسكت بتلابيب الشخصية المعقدة من الحياة، وعملت على تقديمها بسلاسة ودون صراخ، سابحة في فضاء مسرح متسع إلى حد ما، معبرة داخل اللحظات الضوئية عن مشاعرها المجروحة وأفكارها القلقة وشخصيتها المتهافتة.
عرضان جيدان، شاهدتهما في أمسية واحدة، غير أن سؤالا ظل هاجسا داخل عقلي قبيل وأثناء وبعد مشاهدة العرضين، لا يدور فقط حول النظرة النسوية التي يتبناها هذين العرضين، بقدر ما ينشغل بطبيعة المحتوى المقدم خلالهما، فالعرض الأول (السوري) يقدم نصا فرنسيا معدا لكي يكون عربيا، دون أن يتخلي لحظة عن كونه نصا أجنبيا، صحيح أنه يقدم قضية (إنسانية) عامة، ولكن ألا يحتاج مجتمعنا العربي الغارق في مشاكل وأزمات وتمزقات واقعية ضخمة، ويعاني من فكر سلفي متخلف يجرنا للخلف، ألا يحتاج هذا المجتمع لمناقشة (قضاياه الإنسانية العربية) الساخنة والملحة ؟
والأمر كذلك مع باكورة إنتاج (رابطة الإنتاج العربي المشترك) ذات الهدف النبيل في تقديم عروض (عربية) ترتكز على عناصر عربية متعددة، وتتوجه لكل الوطن العربي الممزق، وهو عرض (انتحار معلن) ألم يكن الأفضل أن نقدم نصا سعوديا يعبر عن حياة العرب في المملكة ؟، وذلك كي نتشارك معا في طرح همومنا العربية مسرحيا، وأن نتصدى معا لمناقشة التغيرات الاجتماعية والفكرية التي تحدث في المملكة اليوم ، وعلاقتها إيجابا وسلبا بما يحدث في كل أرجاء الوطن.
هو سؤال لا يفسد للود قضية، ولا يؤثر على جودة ما شاهدناه عبر العرضين المسرحيين في الليلة السعيدة .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت