أثر مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي/ يوسف حمدان (البحرين)
الأثر الأول للتجريب :
إن الدور الذي لعبه المسرح التجريبي في حياتنا المسرحية العربية منذ انطلاقته بقاهرة المسرح والفكر والتجديد والمعاصرة عام 88 ، لا يمكن أن يتجاهله أو يتجاوزه إلا حاقد على التغيير وضروراته الخلقية والإبداعية ، فبعد أن كنا أسرى تجارب لم تخلص لغير طرائقها واجتهاداتها التقليدية السائدة ، يأتي التجريبي ليرمي بحجر كبير في جوف بحيرتنا المسرحية الراكدة المضطربة ليعلن أوان المشاكسة والمغايرة والتجديد في كل تفاصيل وتضاعيف كل الأنواع المألوفة والممجوجة أحيانا ، بل في كثير من الأحيان ، وإذا كانت هناك ثمة مغايرة في التجارب المسرحية العربية ، فهي تلك التي اقترن وجودها وخلقها بمدارس واتجاهات مسرحية مؤسسة ومؤثرة في أوربا أكثر تحديدا ، أو تلك التي استدعتها ضرورات سياسية وأيديولوجية في حينها ، خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، وكانت محل اهتمام كبير من قبل المسرحيين الذين يرومون التغيير والتطوير في حراكهم المسرحي وفي واقعهم الاجتماعي ، ومثل هذه التجارب المخلصة حد الضجر أحيانا لمدارسها واتجاهاتها الفنية والسياسية ، يصعب حصرها أو جردها في هذه الشهادة التي تروم الوقوف على التحولات الخلقية والإبداعية التي طرأت على حراكنا المسرحي العربي من بعد بزوغ فجر التجريبي في مسرحنا العربي عام 88 .
بلد التأسيس .. أول التجريب :
يهمني في هذه الورقة / الشهادة ، أن أشير إلى أن هذا التغيير الذي أحدثه التجريبي في ساحتنا المسرحية العربية ، كان أول تأثير له ، في بلد التأسيس للمهرجان ، وأعني بها مصر ، إذ معه تغيرت طبيعة ونوعية المؤسسات والبنى ذات الصلة بالمسرح ، وأصبحت هذه المؤسسات تتشكل وفق رؤى التجديد والتغيير اللذين يقتضيهما التجريب ذاته ، بوصفه حراكا ديناميكيا لا يستكين للساكن الجامد السائد ، الأمر الذي تطلب من الجهة الأم لتبني هذا المشروع الجديد والإشكالي والإستثنائي ، وأعني بها وزارة الثقافة والمؤسسات والهيئات الثقافية والمسرحية التابعة لها ، تطلب بناء وإعداد بنى جديدة مغايرة لما كان سائدا آنذاك ، ولعل مركز الهناجر الذي عني بتنظيم الورش المسرحية ذات الصلة بالروح التجريبية الخلقية ، واستقطاب أهم الفاعلين المسرحيين المؤثرين في العالم في مختلف الحقول المسرحية للتدريب فيه ، يعد أحد أهم المنجزات المسرحية التجريبية التي اضطلعت بها وزارة الثقافة المصرية ، والذي ساهم في إطلاق أجنحة شبابية مبدعة قادرة على فتح آفاق مسرحية جديدة ومغايرة في فضاء المسرح المصري ، على صعيد الكتابة النصية والإخراج والتمثيل والسينوغرافيا والنقد والتنظير والترجمة ، كما أتاحت وزارة الثقافة فرصا كبيرة لرؤى شبابية تتملك وعي التغيير والخلق المسرحي المغاير الذي تخضعه لمحاورة ومشاكسة مرجعياتها الفكرية والتراثية والفنية ، الأمر الذي لفت واستوقف أهم مدراء المهرجانات العالمية ، ودفعهم لاستضافتها في بلدانهم ، وبالتالي تمكنت هذه التجارب الإبداعية من أن تشكل حضورا عالميا لافتا ومؤثرا في أوساط مجتمعية ومسرحية غير عربية ، وإنْ تقاعس بعضها مؤخرا عن الاستمرار في ضخ الجديد البحثي والخلقي في قلب تجربته ، وآثر ، للأسف الشديد ، المراوحة في آخر ما أنتجته مخيلته ورؤيته ، أو التوقف تماما عن الإنتاج لأسباب يعلمها الله وهو .
التجريب بؤرة الاستقطاب :
وهنا لا بد أن أشير أيضا ، إلى أن تجريبي القاهرة وهو ينفض الصدأ العالق في ذاكرتنا ومخيلتنا جراء ما تورطتا به لعقود ليست بقليلة من انجذاب وإيمان بقيم مسرحية ميتة أو بالية أو متبلدة ، تمكن من أن يستقطب في فضائه الحر الرحب أهم التجارب المسرحية العربية المغايرة التي تسنى لنا مشاهدتها في مهرجاني بغداد ، 86 ، 87 ، ومهرجانات قرطاج ، وكما لو أنه يمنحنا فرصة أكبر للتعرف على هذه التجارب الرائية ، قبل أن ينحسر ضوؤها أو تصبح رهينة واقعها وبيئتها ، وبالتالي يسهم هذا المهرجان في الاحتفاء بالتجارب والرؤى المسرحية العربية الإبداعية في فسحه الدولي ، ويمنحها روحا جديدة للتجلي في مهرجانات دولية أخرى مما يضمن لها الاستمرار والتأثير .
ويحق لي أن أزعم ، كوني قد توفرت على فرص ذهبية لحضور أغلب دورات تجريبي القاهرة منذ التأسيس ، وشاركت فيه مؤلفا ومخرجا لعرض فرقة الصواري البحرينية الأول فيه وهو ( كاريكاتير ) عام 92 بجانب استضافتي ناقدا وباحثا مشاركا وضيفا يتابع العروض والفعاليات المقدمة فيه ، أن أزعم بأن هذا المهرجان الاستثنائي أسهم في تكويني الفكري والمسرحي ، وكان بمثابة أكاديمية مسرحية دولية تلقيت فيها أهم وأبلغ وأبدع الدروس والرؤى والاتجاهات المسرحية العربية والعالمية المؤثرة ، ومن هذا المنطلق تشكلت وتكونت لدي فكرة إلى حد كبير عن مدى تأثير هذا المهرجان على حراكنا المسرحي العربي ، وخاصة في خليجنا العربي .
التجريب مختبر الذات القلقة:
إن هذا المهرجان ، لم يكن بيئة لمشاهدة العروض وحضور الندوات الفكرية والورش فحسب ، وإنما كان مختبرا واسعا وحميما لكل أفكارنا ورؤانا وقلق أسئلتنا ، وكما لو أنه يتسع بنا ليصبح حياتنا ، حيث لا فواصل بين عرض وآخر ، ولا بين آخر عرض واستراحة ، إلا وكان الحوار الساخن حاضرا وبقوة بشيطنته الخلقية الشكية بين أهل الهم ، ينسج ويفكك ويدعونا لقلق حتى عرض أو ليل آخر ، وكثيرا ما أسهمت هذه المشاكسات البينية في تغيير رؤى بعض المؤلفين والمخرجين والنقاد ، أساتذة وأصدقاء ، ولعلي إذ أذكر ذلك ، يطفر من بين ثنايا ما أذكر ، هذا الهوس الحواري اليومي ، الليلي الممتد حتى صبح آخر ، الذي يجري بيني وبين الأصدقاء ، قرناء الهم والحلم ، دكتور سامح مهران وناصر عبدالمنعم وسيد سباعي ومحمد زعيمه وأحمد خميس ودكتوره ساميه حبيب بمشاركة الراحل دكتور عبدالرحمن عرنوس والمخرج عبدالله السعداوي والمخرج الراحل صالح سعد وبعض شباب الطائف واعذروني إذا نسيت بعضهم ، ولعل أطولهم حوارا وأكثرهم قلقا ذلك الحوار الذي يضمني بالصديق الدكتور سامح مهران ، إذ نظل حتى وقت متأخر وكما لو أننا نخطط حينها لإقامة مهرجان قادم أكثر جمالية ومشاكسة ، ولم يكن اليوم بمنأى عن رؤانا وأحلامنا ذات أمس .
في هذا المهرجان شاهدنا عروضا مسرحية تجريبية بالمعنى البحثي والمختبري ، تنطلق من اتجاهات مسرحية مؤثرة ، وكنا نحلم يوما أن نشاهدها ، شاهدناها من مختلف دول أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا ، مثلما شاهدنا الرؤى التجريبية العربية الإبداعية والمؤثرة لأهم مخرجي تونس ، توفيق الجعايبي وفاضل الجبالي والراحل عز الدين قنون والمخرج محمد ادريس والمخرجة الراحلة رجاء بن عمار ، ولأهم مخرجي العراق ، جواد الأسدي والراحل عوني كرومي ، ولأهم مخرجي مصر ، ناصر عبدالمنعم وانتصار عبدالفتاح وصالح سعد ، وغيرهم مما لا يحضرني ذكر أسمائهم في هذه السانحة .
كنا نتسلل من عرض إلى آخر ، ومن فضاء إلى آخر ، لنرى مسرح المعلم الياباني سوزوكي ، ومسرح الكباريه الإنجليزي ومسرح مونجيك البولندي ، ومسرح الشومون الفرنسي ، ومسرح الصفائح البلجيكي ( نيك أوت ) نموذجا ، وتابعنا بحب وولع شديدين التجارب التي تتمثل مايرخولد وغروتوفسكي وبيتر بروك وأوجينيو باربا ومسرح الأندر غراوند الأمريكي ومسرح الكابوكي الياباني ومسرح الأسطورة الكوري ومسرح الجسد الألماني ومسرح الموت الكانتوري ، كنا نتسلل من عرض إلى آخر ، ومن فضاء إلى آخر ، وكل الأمكنة وإن ضاقت تستوعبنا وتحتوينا ، وكما لو أن تجريبي القاهرة اختزل مسارح قارات العالم كلها في ذواتنا التواقة للتسلل بدهشتها في شرايين ما تقدمه هذه المسارح من تجارب ورؤى .
التجريب بوصفه مختبرا للأسئلة
هذه المسارح وهذه التجارب والرؤى القلقة الخلاقة وضعتنا في مواجهة ذواتنا وأسئلتنا وتجاربنا المسرحية ، إذ كيف نصوغ وجودنا المسرحي من جديد ؟ وكيف يمكننا اقتحام مختبر هذه الأسئلة الصعب ؟ وماذا نعني بالتجريب ؟ وأسئلة أخرى أكثر شائكية وإشكالية لحظة اختبار هذه الذات في معمل التجربة والخلق ، ولعل أهمها وأصعبها هو كيف يمكننا إزاحة هذا الإرث المسرحي التقليدي الثقيل عن خلايا مخيلتنا وأرواحنا وأجسادنا ورؤانا ونجعلها أكثر قدرة على التحرر والخلق ومشاكسة ثوابتها القهرية ؟ .
هذه الأسئلة كانت في محك التجربة وإمكانية تخلقها الدائب عبر العروض المسرحية والورش المعملية ، مثلما هي في مواجهة رؤى التنظير المتعددة لأفق التجربة التي تهيؤها لنا موائد الندوات الفكرية الساخنة والمتنوعة والمتباينة في تجريبي القاهرة ، وهي الأسئلة التي أسهمت في تشكيل تجربة الصواري البحرينية بقيادة المخرج عبدالله السعداوي ، ومكنتها من المشاركة الفاعلة واللافتة لسنوات في تجريبي القاهرة ، من خلال مخرجين آخرين أيضا ، من بينهم وأهمهم المخرج إبراهيم خلفان ، وهي الأسئلة التي أسهمت أيضا في إبراز تجربة المخرج الإماراتي ناجي الحاي ، وهي الأسئلة التي أسهمت في استقطاب المخرج الكويتي المعاصر سليمان البسام للمشاركة في حدث تجريبي القاهرة بوصفه مختبر الخلق والأسئلة ، وهي الأسئلة التي احتفت بتجارب عربية شابة ، من أمثال المخرج التونسي جعفر القاسمي ، وهي الأسئلة التي دشنت حضورا لافتا وبهيا للمخرجين والممثلين المبدعين السوريين فوزي قزق وجهاد سعد ، وهي الأسئلة التي شكلت وهجا تجريبا مغايرا في لبنان عبر المخرجتين سهام ناصر ولينا صانع .
هي أسئلة تمكنت لسنوات قبل أن يأفل وميض قلق بعضها في سنوات لاحقة بعد توقف التجريبي أو قبل توقفه بقليل ، من أن تجد لها موقعا دوليا مهما في خارطة التجريب المسرحي الدولي ، وبين التجارب المسرحية المعاصرة التي كانت محل تأثير بالغ وملحوظ في التجارب والرؤى المسرحية العالمية ، ليس في القاهرة فحسب أو في موطن التجربة ، إنما في مواقع عربية ودولية أخرى أيضا ، والفضل يعود طبعا لتجريبي القاهرة الذي وإن تمادى البعض في محاربته بوصفه بيئة للتخريب كما يزعمون ، فإنه يظل من وجهة نظري أجمل مهرجان ساهم في تخريب العقول التقليدية المترهلة التي تروم قتل كل خلية منتجة لحياة جديدة في المسرح .
انعكاسات التجريب على مسرحنا الخليجي:
ومن أهم انعكاسات تجريبي القاهرة على تجارب مسرحنا الخليجي بشكل أكثر تحديدا ، هو استثمار بعض الفرق المسرحية لطرق ونوعية الورش المسرحية التي من شأنها خلق روح جديدة ومغايرة في التجربة المسرحية بعناصرها المتعددة ، ففي العربية السعودية تأسس مختبر الطائف المسرحي ، وفي البحرين أصبحت ورش الصواري التي يتولى إدارتها في الغالب الصديق المخرج عبدالله السعداوي ، من أهم ورش الخلق المسرحي في خليجنا العربي ، وفي الكويت حول بعض المخرجين الشباب من أمثال فيصل العميري وهاني النصار بعض الدروس الإخراجية والتمثيلية إلى ورش مسرحية بعيدا عن الدرس الأكاديمي ، وقد كان لبعض أفلام الفيديو التي تحتوي بعض الورش المسرحية والتدريبات لكبار المخرجين والمفكرين المسرحيين المؤثرين في العالم ، من أمثال بيتر بروك وبينا باوش وغروتوفسكي رومسرح المقهورين ومسرح الشمس لأريان منوشكين وبعض تجارب الكابوكي الياباني ، هذه الأفلام التي توفر عليها بعض المخرجين أو المسرحيين الخليجيين من أصحاب الورش ذاتها أو من فرقهم المسرحية أو مراكز التدريب فيها ، كان لها تأثير كبير على تجارب بعض المسرحيين الخليجيين ، وإن كنت لا أزعم ذلك ، فإن فرقة الصواري ، وكوني أحد مؤسسيها ، توفرت على كل هذه الأفلام وأخضعتها للتدريبات في المسرح ، وتجلى أثرها في تجارب كثيرة قدمتها الفرقة محليا وخليجيا وعربيا ودوليا ، وخاصة في مجال الجسد والتعامل مع الفضاء المسرحي ، ومن بينها مسرحيات ( الكمامة ) و ( اسكوريال ) و( القربان ) لعبدالله السعداوي ، ( يوم نموذجي ) و ( الليلة العلمية ) لإبراهيم خلفان ، وتجربة ( ضوء وظل ) لسلمان العريبي ، وكلها عروض قدمت في مهرجانات تجريبي القاهرة ، ونالت الكمامة من بينها جائزة أفضل إخراج دولي عام 94 .
مطبخ التجريبي الثقافي :
وتعتبر الإصدارات والمطبوعات التي يضخها مطبخ التجريبي سنويا ، واحدة من أهم الإنجازات الثقافية التي كنا نحرص سنويا أو متى ما تهيأت لنا فرصة المشاركة في التجريبي ، على الحصول عليها أو اقتنائها ، ولا تزال مكتبتي المسرحية عامرة بها ، إذ كانت مكافئتنا على كل ورقة نقدمها في الندوات الفكرية ، هي هذه الإصدارات ، فمن خلالها تسنى لنا التعرف على أهم الاتجاهات المسرحية المعملية والنقدية والفكرية ، جوليان هيلتون ، آن بروسفيلد ، ياوس ، رولان بارت ، بيتر بروك ، المسرح الياباني ، الأفريقي ، المسرح الراقص المعاصر لبينا باوش ، ليتز بيسك ، وغيرهم ، ومن خلالها انفتحت لدينا أسئلة جديدة على عالم المسرح ، دعتنا في كثير من الأحيان لحوار لا يكف أواره حتى إصدار آخر ، كما قربت لنا المسافات الثقافية المتباعدة والمجهولة بالنسبة إلينا في بعضها ، وهنا أجزم بأن تجريبي القاهرة سد فراغا كبيرا في مكتبتنا المسرحية العربية ، وأتاح مجالا كبيرا لبعض الكتاب والنقاد العرب لترجمة دراسات واتجاهات مسرحية كانت شبه مجهولة على كثير من مسرحيينا .
حوار التجربة وتفكيكها :
هذه التجارب ، وهذه الورش ، وهذه الذخيرة الثقافية المسرحية الفريدة والنادرة ، هيأت الرؤى التجريبية السائلة والمشاكسة في مسرحنا العربي ، لحوار خلقي جديد مع عناصر العرض المسرحي ورؤاه وأفضيته ، فلم يعد التعاطي مع النص المسرحي بوصفه كائنا مقدسا لا يمكن التصرف في بنيته المكتملة بالنسبة للمؤلف ، إنما أصبح العرض قرينا لكتابته وصوغه من جديد وفق مقتضيات وشروط الرؤية المعملية في المسرح ، ووفق مقتضيات أفضيته ، وبالتالي أسهم التجريبي في إنتاج قراءات جديدة للنصوص تخضع لرؤى إبداعية مغايرة لما هو سائد ، وبالتالي أصبحت هناك أفضية أخرى لتعاطي هذه القراءة مرتكزاتها الأساسية دلالية وتأويلية وتخييلية ، ويكون المتلقي فيها مشاركا في التأويل ، فالنص مثقوب حسب آن بروسفيلد ، وهو مشروع مقترح لبعث روح جديدة في العرض وفضاء التلقي فيه ، كما أننا شاهدنا عروضا مسرحية يكتبها مخرجوها على الخشبة مباشرة وفق القضية التي يتم تناولها للعرض ، كما شاهدنا عروضا تقترب من روح التدريب والارتجال وتتنامى لتصبح عروضا مسرحية لا موقع لها على الأرض التي نتخيلها ، وبات تفكيك العرض من أهم سمات التجربة المسرحية المعضدة بأسئلة لا متناهية .
التجريبي صرخة وملاذ وأفق :
ومن خلال هذا المهرجان ، لاحظنا مدى تأثر كثير من العروض المسرحية بأهمية الفضاء السينوغرافي فيها الذي غالبا ما يكون صنوا رئيسا في كل عناصر خلقها ، كما لاحظنا تجارب أولت الإيقاع روحا إبداعية لا تنفصم أهميته عن أهمية الجسد أو الكوريغرافيا في العرض المسرحي ، مثل تجارب الصديق المخرج انتصار عبدالفتاح ومسرحه البوليفوني ، والتي تجلت أكثر ما تجلت في تجربته مخدة الكحل ، وقد كنت باختيار محب من الصديق انتصار منظرا لتجاربه المسرحية التي قدمها ، ( الطبول ) ، ( سوناتا ) , ( كونشيرتو ) ، كما لاحظنا في هذا المهرجان الحضور الطقسي الخلاق في بعض عروضه ، ومن بين من تميز في هذا الشأن المخرج الصديق عبدالله السعداوي في مسرحيته ( اسكوريال ) أو ( أجراس ) ، كما شاهدنا عروضا مسرحية احتفت بالتكنولوجيا في المسرح وغيرها بالصمت وأخرى بالفضاء الرملي العاري كتجربة ( حبة رمل ) للمخرج الإماراتي الصديق ناجي الحاي ، ولعل أهم ما يميز هذا المهرجان هو منح أو إتاحة الفرصة للمنخرطين في تجاربه التعبير وبجرأة عالية عن رؤاهم ، فلم تعد التجارب التي كان بعضها في أول التجريبي خجولة ومتحفظة ، لم تعد رهينة هذا الخجل المتردد في طرحه ، بل ذهبت أكثر نحو فضاء تعلن صرختها وتمردها فيه ومن خلاله ، وكان التجريبي أول الملاذ ، ومنها يتشكل الأفق .
فكلمة أفق تعني ما تعني، بمعنى أنها رؤية وذهاب نحو مستقبل ربما يكون غير معلوما ، يقف ورائها مجموعة من الأفراد تبحث وتفكر وتحاول أن تكتشف لغة جديدة أو مغايرة عن ما هو سائد أو تضيف لما هو مغاير في المسرح المعني بالتجريب كفكر أو اتجاه .
التجريبي يعود معاصرا :
وبعد توقف قصير في عمر الزمن ، طويل لمن يدرك أهمية تجريبي القاهرة ، يعود المهرجان ثانية ليمنح عروض المشاركين فيه وسام الاتجاه قبل الجائزة ، وليمنح المشاركين فيه فسحة الحوار أكثر حول التجربة بمعزل عن فوز هذه التجربة أو إخفاقها ، يأتي معضدا بروح مسرحية شابة ومعاصرة متوقدة وخلاقة ، تتصدر مسئوليته ومهمته شخصيات فاعلة ومؤثرة في عالم المسرح المصري والعربي والدولي ، من أمثال الدكتور سامح مهران ، الناقد والباحث المشاكس ، رئيس المهرجان ، وقرينه في الهم والتجربة والمسئولية المخرج المسرحي ناصر عبدالمنعم ، وآخرين وأخريات شاركوا في إدارة هذا المهرجان وتولي مسئولية تنظيمه وفعالياته من عروض مسرحية وندوات فكرية وورش مسرحية رفيعة المستوى ، ليثبتوا ويؤكدوا أن هذا المهرجان قادر على أن يتجدد ويأتي بخلق مسرحي جديد ويستمر بروح مسرحية معاصرة ، ولا يمكن أن يتوقف ، مهما حاولت ماكينة وآفات التخلف والتكفير والجهل اعتراض طريقه وتوهجه .
يأتي ليؤكد مجددا وبقوة بأن مصر بلد المسرح والفن بامتياز ، وبأنه مهما حاولت القوى الظلامية وأد هذا المسرح والفن ـ فأنها حتما لم ولن تتمكن من تحقيق أي مأرب خبيث لها فيه ، فلمصر الكنانة تاريخ مشرق في ثورة المسرح والفن ، يوازي في أهميته ثورة شعبها في مختلف الصعد الأخرى .
التجريبي بروتوكولات وخبرات وتحديات :
ومن مزايا تجريبي القاهرة المعاصر ، انصراف رئيسها الصديق الدكتور سامح مهران ، إلى الوقوف على كل ما من شأنه إضافة لبنات جديدة تعلي من شأن المسرح العربي وليس المصري فحسب ، على الصعيد العربي والدولي ، وتسهم في تثبيت وترسيخ أركانه ودعائمه بوصفه صرحا ثقافيا حضاريا ، ولعل من أهم منجزات تجريبي القاهرة المعاصر ، توقيع الدكتور مهران بروتوكل تعاون مع الهيئة الدولية للمسرح ، يمنح فرصة كبيرة وثمينة لتبادل الخبرات والعروض في المهرجانات العالمية والمشاركة في الورش التدريبية ، بجانب حرص الدكتور مهران ، على أن تتضمن هذه الاتفاقية ، افتتاح مواقع الكترونية لمختلف شئون المسرح العربي ، ومن أهمها افتتاح مكتبة مسرحية عربية دولية ، تحتوي أهم النصوص والدراسات والعروض ومنجزات الورش ، وهي لعمري خطوة مهمة في طريق تطوير وإنعاش الحراك المسرحي في وطننا العربي ، نحتاجها بوصفها ضرورة وليست مناسبة عابرة .
الصديق الجميل القلق الدكتور مهران ، لا يتعاطى المسئولية الإدارية من خلف بوابات الفكر والوعي والذائقة ، بل هو في قلب المسئولية ، حاملا هم مصر والعرب والعالم على عاتقه من أجل تشكيل وتدشين رؤية مسرحية إبداعية يحترمها ويقدرها العالم كله ، فهو في موقع التحدي وفي أتون المساءلات المحرجة ، هو هاملت عصره وسيزيف أحلامه وتطلعاته وبروميثيوس الشعلة التي ينبغي ألا تنطفئ حتى اللحظة الأخيرة في مضمار التحدي الصعب ..
القادم أجمل :
نحن على ثقة كبيرة بأننا سنشاهد وسنحيا في الدورات القادمة تجارب جديدة ومنعشة لروح مسرحنا العربي خاصة ، وسنرى ذواتنا المسرحية مؤججة لاكتشاف رؤى جديدة ربما جهلناها منذ أمد ..
الصديق الحميم ، مهران بروح حصان .. وحتما بأن فريق مضماره الواسع والطويل الطويل لن يكون سائسا تابعا للسباق ، إنما بمثابة أحصنة وخيول يافعة جامحة تدرك حجم المسئولية التي يتطلبها الوعي بأحلام مهران الحصان في مضمار الخلق والإبداع في مختلف فنون المسرح التجريبية والمعاصرة ..
فدعونا نتفاءل .. فالقادم حتما أجمل مسرحيا وإن كان الواقع في أبشع صوره ، فالتعبير عن الحالة ليست كالوقوع في براثنها ..
إن الدور الذي لعبه المسرح التجريبي في حياتنا المسرحية العربية منذ انطلاقته بقاهرة المسرح والفكر والتجديد والمعاصرة عام 88 ، لا يمكن أن يتجاهله أو يتجاوزه إلا حاقد على التغيير وضروراته الخلقية والإبداعية ، فبعد أن كنا أسرى تجارب لم تخلص لغير طرائقها واجتهاداتها التقليدية السائدة ، يأتي التجريبي ليرمي بحجر كبير في جوف بحيرتنا المسرحية الراكدة المضطربة ليعلن أوان المشاكسة والمغايرة والتجديد في كل تفاصيل وتضاعيف كل الأنواع المألوفة والممجوجة أحيانا ، بل في كثير من الأحيان ، وإذا كانت هناك ثمة مغايرة في التجارب المسرحية العربية ، فهي تلك التي اقترن وجودها وخلقها بمدارس واتجاهات مسرحية مؤسسة ومؤثرة في أوربا أكثر تحديدا ، أو تلك التي استدعتها ضرورات سياسية وأيديولوجية في حينها ، خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، وكانت محل اهتمام كبير من قبل المسرحيين الذين يرومون التغيير والتطوير في حراكهم المسرحي وفي واقعهم الاجتماعي ، ومثل هذه التجارب المخلصة حد الضجر أحيانا لمدارسها واتجاهاتها الفنية والسياسية ، يصعب حصرها أو جردها في هذه الشهادة التي تروم الوقوف على التحولات الخلقية والإبداعية التي طرأت على حراكنا المسرحي العربي من بعد بزوغ فجر التجريبي في مسرحنا العربي عام 88 .
بلد التأسيس .. أول التجريب :
يهمني في هذه الورقة / الشهادة ، أن أشير إلى أن هذا التغيير الذي أحدثه التجريبي في ساحتنا المسرحية العربية ، كان أول تأثير له ، في بلد التأسيس للمهرجان ، وأعني بها مصر ، إذ معه تغيرت طبيعة ونوعية المؤسسات والبنى ذات الصلة بالمسرح ، وأصبحت هذه المؤسسات تتشكل وفق رؤى التجديد والتغيير اللذين يقتضيهما التجريب ذاته ، بوصفه حراكا ديناميكيا لا يستكين للساكن الجامد السائد ، الأمر الذي تطلب من الجهة الأم لتبني هذا المشروع الجديد والإشكالي والإستثنائي ، وأعني بها وزارة الثقافة والمؤسسات والهيئات الثقافية والمسرحية التابعة لها ، تطلب بناء وإعداد بنى جديدة مغايرة لما كان سائدا آنذاك ، ولعل مركز الهناجر الذي عني بتنظيم الورش المسرحية ذات الصلة بالروح التجريبية الخلقية ، واستقطاب أهم الفاعلين المسرحيين المؤثرين في العالم في مختلف الحقول المسرحية للتدريب فيه ، يعد أحد أهم المنجزات المسرحية التجريبية التي اضطلعت بها وزارة الثقافة المصرية ، والذي ساهم في إطلاق أجنحة شبابية مبدعة قادرة على فتح آفاق مسرحية جديدة ومغايرة في فضاء المسرح المصري ، على صعيد الكتابة النصية والإخراج والتمثيل والسينوغرافيا والنقد والتنظير والترجمة ، كما أتاحت وزارة الثقافة فرصا كبيرة لرؤى شبابية تتملك وعي التغيير والخلق المسرحي المغاير الذي تخضعه لمحاورة ومشاكسة مرجعياتها الفكرية والتراثية والفنية ، الأمر الذي لفت واستوقف أهم مدراء المهرجانات العالمية ، ودفعهم لاستضافتها في بلدانهم ، وبالتالي تمكنت هذه التجارب الإبداعية من أن تشكل حضورا عالميا لافتا ومؤثرا في أوساط مجتمعية ومسرحية غير عربية ، وإنْ تقاعس بعضها مؤخرا عن الاستمرار في ضخ الجديد البحثي والخلقي في قلب تجربته ، وآثر ، للأسف الشديد ، المراوحة في آخر ما أنتجته مخيلته ورؤيته ، أو التوقف تماما عن الإنتاج لأسباب يعلمها الله وهو .
التجريب بؤرة الاستقطاب :
وهنا لا بد أن أشير أيضا ، إلى أن تجريبي القاهرة وهو ينفض الصدأ العالق في ذاكرتنا ومخيلتنا جراء ما تورطتا به لعقود ليست بقليلة من انجذاب وإيمان بقيم مسرحية ميتة أو بالية أو متبلدة ، تمكن من أن يستقطب في فضائه الحر الرحب أهم التجارب المسرحية العربية المغايرة التي تسنى لنا مشاهدتها في مهرجاني بغداد ، 86 ، 87 ، ومهرجانات قرطاج ، وكما لو أنه يمنحنا فرصة أكبر للتعرف على هذه التجارب الرائية ، قبل أن ينحسر ضوؤها أو تصبح رهينة واقعها وبيئتها ، وبالتالي يسهم هذا المهرجان في الاحتفاء بالتجارب والرؤى المسرحية العربية الإبداعية في فسحه الدولي ، ويمنحها روحا جديدة للتجلي في مهرجانات دولية أخرى مما يضمن لها الاستمرار والتأثير .
ويحق لي أن أزعم ، كوني قد توفرت على فرص ذهبية لحضور أغلب دورات تجريبي القاهرة منذ التأسيس ، وشاركت فيه مؤلفا ومخرجا لعرض فرقة الصواري البحرينية الأول فيه وهو ( كاريكاتير ) عام 92 بجانب استضافتي ناقدا وباحثا مشاركا وضيفا يتابع العروض والفعاليات المقدمة فيه ، أن أزعم بأن هذا المهرجان الاستثنائي أسهم في تكويني الفكري والمسرحي ، وكان بمثابة أكاديمية مسرحية دولية تلقيت فيها أهم وأبلغ وأبدع الدروس والرؤى والاتجاهات المسرحية العربية والعالمية المؤثرة ، ومن هذا المنطلق تشكلت وتكونت لدي فكرة إلى حد كبير عن مدى تأثير هذا المهرجان على حراكنا المسرحي العربي ، وخاصة في خليجنا العربي .
التجريب مختبر الذات القلقة:
إن هذا المهرجان ، لم يكن بيئة لمشاهدة العروض وحضور الندوات الفكرية والورش فحسب ، وإنما كان مختبرا واسعا وحميما لكل أفكارنا ورؤانا وقلق أسئلتنا ، وكما لو أنه يتسع بنا ليصبح حياتنا ، حيث لا فواصل بين عرض وآخر ، ولا بين آخر عرض واستراحة ، إلا وكان الحوار الساخن حاضرا وبقوة بشيطنته الخلقية الشكية بين أهل الهم ، ينسج ويفكك ويدعونا لقلق حتى عرض أو ليل آخر ، وكثيرا ما أسهمت هذه المشاكسات البينية في تغيير رؤى بعض المؤلفين والمخرجين والنقاد ، أساتذة وأصدقاء ، ولعلي إذ أذكر ذلك ، يطفر من بين ثنايا ما أذكر ، هذا الهوس الحواري اليومي ، الليلي الممتد حتى صبح آخر ، الذي يجري بيني وبين الأصدقاء ، قرناء الهم والحلم ، دكتور سامح مهران وناصر عبدالمنعم وسيد سباعي ومحمد زعيمه وأحمد خميس ودكتوره ساميه حبيب بمشاركة الراحل دكتور عبدالرحمن عرنوس والمخرج عبدالله السعداوي والمخرج الراحل صالح سعد وبعض شباب الطائف واعذروني إذا نسيت بعضهم ، ولعل أطولهم حوارا وأكثرهم قلقا ذلك الحوار الذي يضمني بالصديق الدكتور سامح مهران ، إذ نظل حتى وقت متأخر وكما لو أننا نخطط حينها لإقامة مهرجان قادم أكثر جمالية ومشاكسة ، ولم يكن اليوم بمنأى عن رؤانا وأحلامنا ذات أمس .
في هذا المهرجان شاهدنا عروضا مسرحية تجريبية بالمعنى البحثي والمختبري ، تنطلق من اتجاهات مسرحية مؤثرة ، وكنا نحلم يوما أن نشاهدها ، شاهدناها من مختلف دول أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا ، مثلما شاهدنا الرؤى التجريبية العربية الإبداعية والمؤثرة لأهم مخرجي تونس ، توفيق الجعايبي وفاضل الجبالي والراحل عز الدين قنون والمخرج محمد ادريس والمخرجة الراحلة رجاء بن عمار ، ولأهم مخرجي العراق ، جواد الأسدي والراحل عوني كرومي ، ولأهم مخرجي مصر ، ناصر عبدالمنعم وانتصار عبدالفتاح وصالح سعد ، وغيرهم مما لا يحضرني ذكر أسمائهم في هذه السانحة .
كنا نتسلل من عرض إلى آخر ، ومن فضاء إلى آخر ، لنرى مسرح المعلم الياباني سوزوكي ، ومسرح الكباريه الإنجليزي ومسرح مونجيك البولندي ، ومسرح الشومون الفرنسي ، ومسرح الصفائح البلجيكي ( نيك أوت ) نموذجا ، وتابعنا بحب وولع شديدين التجارب التي تتمثل مايرخولد وغروتوفسكي وبيتر بروك وأوجينيو باربا ومسرح الأندر غراوند الأمريكي ومسرح الكابوكي الياباني ومسرح الأسطورة الكوري ومسرح الجسد الألماني ومسرح الموت الكانتوري ، كنا نتسلل من عرض إلى آخر ، ومن فضاء إلى آخر ، وكل الأمكنة وإن ضاقت تستوعبنا وتحتوينا ، وكما لو أن تجريبي القاهرة اختزل مسارح قارات العالم كلها في ذواتنا التواقة للتسلل بدهشتها في شرايين ما تقدمه هذه المسارح من تجارب ورؤى .
التجريب بوصفه مختبرا للأسئلة
هذه المسارح وهذه التجارب والرؤى القلقة الخلاقة وضعتنا في مواجهة ذواتنا وأسئلتنا وتجاربنا المسرحية ، إذ كيف نصوغ وجودنا المسرحي من جديد ؟ وكيف يمكننا اقتحام مختبر هذه الأسئلة الصعب ؟ وماذا نعني بالتجريب ؟ وأسئلة أخرى أكثر شائكية وإشكالية لحظة اختبار هذه الذات في معمل التجربة والخلق ، ولعل أهمها وأصعبها هو كيف يمكننا إزاحة هذا الإرث المسرحي التقليدي الثقيل عن خلايا مخيلتنا وأرواحنا وأجسادنا ورؤانا ونجعلها أكثر قدرة على التحرر والخلق ومشاكسة ثوابتها القهرية ؟ .
هذه الأسئلة كانت في محك التجربة وإمكانية تخلقها الدائب عبر العروض المسرحية والورش المعملية ، مثلما هي في مواجهة رؤى التنظير المتعددة لأفق التجربة التي تهيؤها لنا موائد الندوات الفكرية الساخنة والمتنوعة والمتباينة في تجريبي القاهرة ، وهي الأسئلة التي أسهمت في تشكيل تجربة الصواري البحرينية بقيادة المخرج عبدالله السعداوي ، ومكنتها من المشاركة الفاعلة واللافتة لسنوات في تجريبي القاهرة ، من خلال مخرجين آخرين أيضا ، من بينهم وأهمهم المخرج إبراهيم خلفان ، وهي الأسئلة التي أسهمت أيضا في إبراز تجربة المخرج الإماراتي ناجي الحاي ، وهي الأسئلة التي أسهمت في استقطاب المخرج الكويتي المعاصر سليمان البسام للمشاركة في حدث تجريبي القاهرة بوصفه مختبر الخلق والأسئلة ، وهي الأسئلة التي احتفت بتجارب عربية شابة ، من أمثال المخرج التونسي جعفر القاسمي ، وهي الأسئلة التي دشنت حضورا لافتا وبهيا للمخرجين والممثلين المبدعين السوريين فوزي قزق وجهاد سعد ، وهي الأسئلة التي شكلت وهجا تجريبا مغايرا في لبنان عبر المخرجتين سهام ناصر ولينا صانع .
هي أسئلة تمكنت لسنوات قبل أن يأفل وميض قلق بعضها في سنوات لاحقة بعد توقف التجريبي أو قبل توقفه بقليل ، من أن تجد لها موقعا دوليا مهما في خارطة التجريب المسرحي الدولي ، وبين التجارب المسرحية المعاصرة التي كانت محل تأثير بالغ وملحوظ في التجارب والرؤى المسرحية العالمية ، ليس في القاهرة فحسب أو في موطن التجربة ، إنما في مواقع عربية ودولية أخرى أيضا ، والفضل يعود طبعا لتجريبي القاهرة الذي وإن تمادى البعض في محاربته بوصفه بيئة للتخريب كما يزعمون ، فإنه يظل من وجهة نظري أجمل مهرجان ساهم في تخريب العقول التقليدية المترهلة التي تروم قتل كل خلية منتجة لحياة جديدة في المسرح .
انعكاسات التجريب على مسرحنا الخليجي:
ومن أهم انعكاسات تجريبي القاهرة على تجارب مسرحنا الخليجي بشكل أكثر تحديدا ، هو استثمار بعض الفرق المسرحية لطرق ونوعية الورش المسرحية التي من شأنها خلق روح جديدة ومغايرة في التجربة المسرحية بعناصرها المتعددة ، ففي العربية السعودية تأسس مختبر الطائف المسرحي ، وفي البحرين أصبحت ورش الصواري التي يتولى إدارتها في الغالب الصديق المخرج عبدالله السعداوي ، من أهم ورش الخلق المسرحي في خليجنا العربي ، وفي الكويت حول بعض المخرجين الشباب من أمثال فيصل العميري وهاني النصار بعض الدروس الإخراجية والتمثيلية إلى ورش مسرحية بعيدا عن الدرس الأكاديمي ، وقد كان لبعض أفلام الفيديو التي تحتوي بعض الورش المسرحية والتدريبات لكبار المخرجين والمفكرين المسرحيين المؤثرين في العالم ، من أمثال بيتر بروك وبينا باوش وغروتوفسكي رومسرح المقهورين ومسرح الشمس لأريان منوشكين وبعض تجارب الكابوكي الياباني ، هذه الأفلام التي توفر عليها بعض المخرجين أو المسرحيين الخليجيين من أصحاب الورش ذاتها أو من فرقهم المسرحية أو مراكز التدريب فيها ، كان لها تأثير كبير على تجارب بعض المسرحيين الخليجيين ، وإن كنت لا أزعم ذلك ، فإن فرقة الصواري ، وكوني أحد مؤسسيها ، توفرت على كل هذه الأفلام وأخضعتها للتدريبات في المسرح ، وتجلى أثرها في تجارب كثيرة قدمتها الفرقة محليا وخليجيا وعربيا ودوليا ، وخاصة في مجال الجسد والتعامل مع الفضاء المسرحي ، ومن بينها مسرحيات ( الكمامة ) و ( اسكوريال ) و( القربان ) لعبدالله السعداوي ، ( يوم نموذجي ) و ( الليلة العلمية ) لإبراهيم خلفان ، وتجربة ( ضوء وظل ) لسلمان العريبي ، وكلها عروض قدمت في مهرجانات تجريبي القاهرة ، ونالت الكمامة من بينها جائزة أفضل إخراج دولي عام 94 .
مطبخ التجريبي الثقافي :
وتعتبر الإصدارات والمطبوعات التي يضخها مطبخ التجريبي سنويا ، واحدة من أهم الإنجازات الثقافية التي كنا نحرص سنويا أو متى ما تهيأت لنا فرصة المشاركة في التجريبي ، على الحصول عليها أو اقتنائها ، ولا تزال مكتبتي المسرحية عامرة بها ، إذ كانت مكافئتنا على كل ورقة نقدمها في الندوات الفكرية ، هي هذه الإصدارات ، فمن خلالها تسنى لنا التعرف على أهم الاتجاهات المسرحية المعملية والنقدية والفكرية ، جوليان هيلتون ، آن بروسفيلد ، ياوس ، رولان بارت ، بيتر بروك ، المسرح الياباني ، الأفريقي ، المسرح الراقص المعاصر لبينا باوش ، ليتز بيسك ، وغيرهم ، ومن خلالها انفتحت لدينا أسئلة جديدة على عالم المسرح ، دعتنا في كثير من الأحيان لحوار لا يكف أواره حتى إصدار آخر ، كما قربت لنا المسافات الثقافية المتباعدة والمجهولة بالنسبة إلينا في بعضها ، وهنا أجزم بأن تجريبي القاهرة سد فراغا كبيرا في مكتبتنا المسرحية العربية ، وأتاح مجالا كبيرا لبعض الكتاب والنقاد العرب لترجمة دراسات واتجاهات مسرحية كانت شبه مجهولة على كثير من مسرحيينا .
حوار التجربة وتفكيكها :
هذه التجارب ، وهذه الورش ، وهذه الذخيرة الثقافية المسرحية الفريدة والنادرة ، هيأت الرؤى التجريبية السائلة والمشاكسة في مسرحنا العربي ، لحوار خلقي جديد مع عناصر العرض المسرحي ورؤاه وأفضيته ، فلم يعد التعاطي مع النص المسرحي بوصفه كائنا مقدسا لا يمكن التصرف في بنيته المكتملة بالنسبة للمؤلف ، إنما أصبح العرض قرينا لكتابته وصوغه من جديد وفق مقتضيات وشروط الرؤية المعملية في المسرح ، ووفق مقتضيات أفضيته ، وبالتالي أسهم التجريبي في إنتاج قراءات جديدة للنصوص تخضع لرؤى إبداعية مغايرة لما هو سائد ، وبالتالي أصبحت هناك أفضية أخرى لتعاطي هذه القراءة مرتكزاتها الأساسية دلالية وتأويلية وتخييلية ، ويكون المتلقي فيها مشاركا في التأويل ، فالنص مثقوب حسب آن بروسفيلد ، وهو مشروع مقترح لبعث روح جديدة في العرض وفضاء التلقي فيه ، كما أننا شاهدنا عروضا مسرحية يكتبها مخرجوها على الخشبة مباشرة وفق القضية التي يتم تناولها للعرض ، كما شاهدنا عروضا تقترب من روح التدريب والارتجال وتتنامى لتصبح عروضا مسرحية لا موقع لها على الأرض التي نتخيلها ، وبات تفكيك العرض من أهم سمات التجربة المسرحية المعضدة بأسئلة لا متناهية .
التجريبي صرخة وملاذ وأفق :
ومن خلال هذا المهرجان ، لاحظنا مدى تأثر كثير من العروض المسرحية بأهمية الفضاء السينوغرافي فيها الذي غالبا ما يكون صنوا رئيسا في كل عناصر خلقها ، كما لاحظنا تجارب أولت الإيقاع روحا إبداعية لا تنفصم أهميته عن أهمية الجسد أو الكوريغرافيا في العرض المسرحي ، مثل تجارب الصديق المخرج انتصار عبدالفتاح ومسرحه البوليفوني ، والتي تجلت أكثر ما تجلت في تجربته مخدة الكحل ، وقد كنت باختيار محب من الصديق انتصار منظرا لتجاربه المسرحية التي قدمها ، ( الطبول ) ، ( سوناتا ) , ( كونشيرتو ) ، كما لاحظنا في هذا المهرجان الحضور الطقسي الخلاق في بعض عروضه ، ومن بين من تميز في هذا الشأن المخرج الصديق عبدالله السعداوي في مسرحيته ( اسكوريال ) أو ( أجراس ) ، كما شاهدنا عروضا مسرحية احتفت بالتكنولوجيا في المسرح وغيرها بالصمت وأخرى بالفضاء الرملي العاري كتجربة ( حبة رمل ) للمخرج الإماراتي الصديق ناجي الحاي ، ولعل أهم ما يميز هذا المهرجان هو منح أو إتاحة الفرصة للمنخرطين في تجاربه التعبير وبجرأة عالية عن رؤاهم ، فلم تعد التجارب التي كان بعضها في أول التجريبي خجولة ومتحفظة ، لم تعد رهينة هذا الخجل المتردد في طرحه ، بل ذهبت أكثر نحو فضاء تعلن صرختها وتمردها فيه ومن خلاله ، وكان التجريبي أول الملاذ ، ومنها يتشكل الأفق .
فكلمة أفق تعني ما تعني، بمعنى أنها رؤية وذهاب نحو مستقبل ربما يكون غير معلوما ، يقف ورائها مجموعة من الأفراد تبحث وتفكر وتحاول أن تكتشف لغة جديدة أو مغايرة عن ما هو سائد أو تضيف لما هو مغاير في المسرح المعني بالتجريب كفكر أو اتجاه .
التجريبي يعود معاصرا :
وبعد توقف قصير في عمر الزمن ، طويل لمن يدرك أهمية تجريبي القاهرة ، يعود المهرجان ثانية ليمنح عروض المشاركين فيه وسام الاتجاه قبل الجائزة ، وليمنح المشاركين فيه فسحة الحوار أكثر حول التجربة بمعزل عن فوز هذه التجربة أو إخفاقها ، يأتي معضدا بروح مسرحية شابة ومعاصرة متوقدة وخلاقة ، تتصدر مسئوليته ومهمته شخصيات فاعلة ومؤثرة في عالم المسرح المصري والعربي والدولي ، من أمثال الدكتور سامح مهران ، الناقد والباحث المشاكس ، رئيس المهرجان ، وقرينه في الهم والتجربة والمسئولية المخرج المسرحي ناصر عبدالمنعم ، وآخرين وأخريات شاركوا في إدارة هذا المهرجان وتولي مسئولية تنظيمه وفعالياته من عروض مسرحية وندوات فكرية وورش مسرحية رفيعة المستوى ، ليثبتوا ويؤكدوا أن هذا المهرجان قادر على أن يتجدد ويأتي بخلق مسرحي جديد ويستمر بروح مسرحية معاصرة ، ولا يمكن أن يتوقف ، مهما حاولت ماكينة وآفات التخلف والتكفير والجهل اعتراض طريقه وتوهجه .
يأتي ليؤكد مجددا وبقوة بأن مصر بلد المسرح والفن بامتياز ، وبأنه مهما حاولت القوى الظلامية وأد هذا المسرح والفن ـ فأنها حتما لم ولن تتمكن من تحقيق أي مأرب خبيث لها فيه ، فلمصر الكنانة تاريخ مشرق في ثورة المسرح والفن ، يوازي في أهميته ثورة شعبها في مختلف الصعد الأخرى .
التجريبي بروتوكولات وخبرات وتحديات :
ومن مزايا تجريبي القاهرة المعاصر ، انصراف رئيسها الصديق الدكتور سامح مهران ، إلى الوقوف على كل ما من شأنه إضافة لبنات جديدة تعلي من شأن المسرح العربي وليس المصري فحسب ، على الصعيد العربي والدولي ، وتسهم في تثبيت وترسيخ أركانه ودعائمه بوصفه صرحا ثقافيا حضاريا ، ولعل من أهم منجزات تجريبي القاهرة المعاصر ، توقيع الدكتور مهران بروتوكل تعاون مع الهيئة الدولية للمسرح ، يمنح فرصة كبيرة وثمينة لتبادل الخبرات والعروض في المهرجانات العالمية والمشاركة في الورش التدريبية ، بجانب حرص الدكتور مهران ، على أن تتضمن هذه الاتفاقية ، افتتاح مواقع الكترونية لمختلف شئون المسرح العربي ، ومن أهمها افتتاح مكتبة مسرحية عربية دولية ، تحتوي أهم النصوص والدراسات والعروض ومنجزات الورش ، وهي لعمري خطوة مهمة في طريق تطوير وإنعاش الحراك المسرحي في وطننا العربي ، نحتاجها بوصفها ضرورة وليست مناسبة عابرة .
الصديق الجميل القلق الدكتور مهران ، لا يتعاطى المسئولية الإدارية من خلف بوابات الفكر والوعي والذائقة ، بل هو في قلب المسئولية ، حاملا هم مصر والعرب والعالم على عاتقه من أجل تشكيل وتدشين رؤية مسرحية إبداعية يحترمها ويقدرها العالم كله ، فهو في موقع التحدي وفي أتون المساءلات المحرجة ، هو هاملت عصره وسيزيف أحلامه وتطلعاته وبروميثيوس الشعلة التي ينبغي ألا تنطفئ حتى اللحظة الأخيرة في مضمار التحدي الصعب ..
القادم أجمل :
نحن على ثقة كبيرة بأننا سنشاهد وسنحيا في الدورات القادمة تجارب جديدة ومنعشة لروح مسرحنا العربي خاصة ، وسنرى ذواتنا المسرحية مؤججة لاكتشاف رؤى جديدة ربما جهلناها منذ أمد ..
الصديق الحميم ، مهران بروح حصان .. وحتما بأن فريق مضماره الواسع والطويل الطويل لن يكون سائسا تابعا للسباق ، إنما بمثابة أحصنة وخيول يافعة جامحة تدرك حجم المسئولية التي يتطلبها الوعي بأحلام مهران الحصان في مضمار الخلق والإبداع في مختلف فنون المسرح التجريبية والمعاصرة ..
فدعونا نتفاءل .. فالقادم حتما أجمل مسرحيا وإن كان الواقع في أبشع صوره ، فالتعبير عن الحالة ليست كالوقوع في براثنها ..