"مكتوبلي اغنيلك" وجبة فنية متكاملة وحالة إنسانية ووجدانية/ نور الهدى عبد المنمعم

بينما أشاهد عرض “مكتوبلي أغنيلك” الذي يُقدم على خشبة مسرح محمد عبد الوهاب بالأسكندرية، قفزت إلى ذاكرتي جملة عبقرية للشاعر الراحل “طاهر البرنبالي” أنا عشت عمرين، حيث مر بأزمة صحية كبيرة جدًا وخرج منها ليمارس حياته وفنه الذي يعشقه، بل ووثق هذه التجربة في عمل إبداعي أكثر من رائع هو ديوان شعر بعنوان “طلعة ربيع دار الفؤاد”، وهي التجربة نفسها التي مر بها الفنان إيمان البحر درويش مع اختلاف نوعية المرض، فها هو إيمان يعود إلى خشبة المسرح، يصول ويجول بأغنياته التي أصر أن يغنيها “لايف” يوميًا ليؤكد لنفسه أولاً أنه عاد إلى الحياة يعيش عمرًا آخر، مؤكدًا في ذات الوقت أنه لن يموت أبدًا مثل جده الذي مازال يعيش بيننا بفنه الأصيل، وهي إحدى الأفكار الكثيرة جدًا التي راودتني أثناء مشاهدة العرض لأتأكد مبدئيًا من ثراء العرض، فحين تشاهد عرضًا مسرحيًا وتجد نفسك تفكر في عدة قضايا وتفاصيل في لحظة واحدة لدرجة المعاناة من التزاحم الشديد للأفكار في رأسك، وتحاول فض هذا الاشتباك بأن تقوم بتفكيك هذه التفاصيل في شكل نقاط وتبدأ في تفسيرها وتدوين ملاحظاتك عليها، من هنا تعرف مدى أهمية هذا العرض وثراءه.
“مكتوبلي اغنيلك” ينتمي إنتاجيًا إلى البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية، لا إلى البيت الفني للمسرح، من هنا فهو مبدئيًا ليس عرضًا مسرحيًا يمكننا أن نطبق عليه قواعد بناء العرض المسرحي كما ينبغي أن يكون، فهو ليلة فنية غاية في الروعة حيث الاستعراض والطرب والتراث الفني الأصيل، أو بمعنى أدق “أوبريت” وبالطبع لا يخلو من أحداث درامية مهمة جدًا تلقنا درسًا في أهمية التراث وقيمة الفن الحقيقي ونبذ الابتزال والجرائم التي ترتكب باسم الفن. وأداءً تمثيليا لنجوم حقيقيين وجهد كبير مبذول من كل أفراد فريق العمل، يقف خلفهم مخرج مجتهد ومغامر هو عبد المنعم محمد، والحقيقة أنني أشفق جدًا على المخرج الشاب حين يتعامل مع نجوم كبار، هل يترك لهم حرية الحركة والأداء حرجًا منه في توجيههم، أم يتجاوز ذلك ويصر أن يمارس عمله على أكمل وجه (واللي مش عاجبه يمشي)، وهل سيلتزم الفنانون بتعليماته أم يفرضون وجهة نظرهم، طبعًا كل هذه التفاصيل تعتبر من أسرار العمل ولن نعرفها إلا في حالة واحدة هي تصاعد الخلافات واعتذار أحد الطرفين عن العمل، وبما أن العمل قد خرج إلى النور بالفعل ولم نعرف أي شئ عن هذه التفاصيل، إذن فقد تجاوز المخرج كل هذه العقبات ونجح في العبور بالعمل إلى بر الأمان.

نأتي إلى نقطة غاية في الأهمية وتشغلني جدًا بشكل شخصي، ماذا لو كتبت مقالاً عن جدي “أبوالعطا” هل سيقرأه أحد أو سيهتم بمعرفة هذا ال “أبوالعطا”، مؤكد لا فهو إنسان بسيط لا يمثل أي أهمية في المجتمع، وإذا كان المقال عن طه حسين أو العقاد أو نجيب محفوظ هل سيهتم به الناس؟ نعم وبكل تأكيد لأنهم علامات هامة في تاريخ الوطن، وماذا لو كان أحدهم جدي وكتبت عنه هل سيكون الموقف نفسه حين أكتب عن جدي الذي لا يعرفه أحد، مؤكد لا ففي هذه الحالة لم يكن جدي وحدي فهو جد لكل المصريين، هذه المقدمة الطويلة أرد بها على من يهاجمون الفنان إيمان البحر درويش لأنه يحيى تراث جده سيد درويش طوال الوقت، ويجعله قضيته الأساسية التي يحيا من أجلها، له أن يفخر بجده بل ويمجده، ليس لأنه جده فحسب بل لأنه جد لكل المصريين.
تدور أحداث العرض في قالب كوميدي راق جدًا من دون أي ابتذال، حول امتلاك سيدة تدعى نرمين لاستديو غنائي وتجسد هذه الشخصية الفنانة “شرين”، ورثته عن شقيقها الملحن المعروف وبسبب حاجتها الشديدة للمال -حيث تقوم بتربية ابنه سمسم “مصطفى عبد السلام” وابنته سارة “مروة جمال” اللذين لم يعد لهما أحدًا غيرها بعد وفاة الأم والأب- كما أن سارة اعتادت أن تحضر أصدقائها الذين يقدمون أغاني المهرجانات لتسجيلها في هذا الاستديو، مما يجعلها تقوم بعرضه للبيع بشرط أن يُستخدم في تسجيل الألحان القيمة وعدم استخدامه في أغاني المهرجانات والألحان المتدنية التي انتشرت مؤخرًا، وبالفعل تعثر على من يعدها بتحقيق هذا الشرط، هو د. رأفت الذي توافق على البيع له بعد اجتيازه للإختبار الذي أجرته، وهو أن تستمع إلى ألحانه أولاً، وبالطبع يجسد هذه الشخصية الفنان إيمان البحر درويش، وقد اعتمد على أغاني جديدة من ألحانه وكلمات واشعار مصطفى درويش، توزيع يحيى الموجي منها: يا ظالم، مش ندمان، انا مش نبي، ومقتطفات  صغيره من أغاني لسيد درويش _لم يتم التعاقد عليها مما يدل على أن الهدف هو الانتصار للقيمة وليس الربح_ ولم يقم بتقديمها كما هي بل أعد لها توزيعات جديدة تلائم العصر ليثبت أن الفن الحقيقي صالح لكل مكان وزمان، فيبطل بذلك حجة مروجوا الأغاني الهابطة بادعاء التطور ومتطلبات العصر.

وبعد أن ينجح د. رأفت في اجتياز الاختبار وكسب ثقة نرمين يرفض شراء الاستديو ويصر أن يكونا شريكين فيه ليس لتقديم ألحان جادة فحسب بل لاكتشاف المواهب الحقيقية ودعمها، وهو ما حدث مع الشاب الذي يحب ساره فجعله يستغل موهبته في تقديم الأغاني الأجادة، كما تم تقديم أصوات نسائية للأسف لم أجد أسمائهن ب “البانفليت”، مما يؤكد أن أحداث العرض لم تكن مجرد تمثيل بل فعل حقيقي وإيجابي.
يشارك إيمان البطولة الفنانة شيرين، الفنانة صفاء جلال “نهي” خطيبة د. رأفت، ولن أتحدث عن آداء هذا الثلاثي فخبرتهم تغني عن ذلك، ومجرد اشتراكهم في العرض يعتبر عنصر هام من عناصر ثراءه، ومجموعة من الشباب الرائعين والذين أتوقع لهم مستقبل باهر، خاصة مصطفى عبد السلام الذي جسد شخصية سمسم ذو القدرات الخاصة لتعرضه لحادث وهو طفل أدى به أن يظل عقله عقل طفل بينما ينمو جسده، فتجسيد هذه الشخصية يحتاج إلى قدرات خاصة في الممثل، وقد سبق أن جسدها عدد محدود جدًا من الفنانين الكبار منهم: نور الشريف، يحيي الفخراني، نبيلة عبيد، مع اختلاف طبيعة الحالة التي يجسدها كل منهم، لكنهم جميعًا قاموا بتجسيدها سينمائيًا وليس مسرحيًا وهو الأسهل بالطبع، باستثناء محمد صبحي الذي جسدها على خشبة المسرح في “انتهى الدرس يا غبي”، من هنا فإن مصطفى هو الأفضل على الإطلاق في كل فريق العمل لصعوبة الشخصية التي يؤديها. تأتي بعده ماجي التي تجسد شخصية مبروكة الشغالة البسيطة وقد كانت مفاجأة كبيرة لي حين علمت أنها تمارس التمثيل لأول مرة في حياتها، فأدائها يتسم بالهدوء والبساطة والطبيعية، خاصة تعبيرات وجهها التي تؤكد على مدى فقر وبساطة البيئة التي تنتمي إليها من دون ذكر ذلك نهائيًا بالعرض، كذلك محمود تركي “ميشو”، محمد مجدي “كيشو”، وائل علاء “صفوت”، مصطفي يوسف ” نصار”، فتحي سعد “شهاب اللبان”، حمزه خاطر “شوقي السواق”، كلهم رائعين.
الديكور الذي قام بتصميمه الفنان محمد عبد الرازق عبارة عن فيلا نيرمين والاستديو، يتميز ببساطة الأثاث والتصميم للفيلا، أما ما يبرز جماله فهو الاستوديو الذي صمم ببساطة وبراعة فائقة فهو عبارة عن “بانر” خلف لوج زجاجي فقط لا غير، ويضم صور لعمالقة الغناء والموسيقى في مصر والوطن العربي منهم: محمد فوزي، شادية، نجاة، فيروز، عبد الوهاب، عبد الحليم، كارم محمود، سيد درويش، ام كلثوم، فريد الأطرش. ليلى مراد، محمد الموجي، هدى سلطان، محمد رشدي، وهي لفتة عبقرية وذات دلالات عميقة.

ازياء فاتن درويش تميزت بالبساطة والعادية فيما عدا ملابس “سمسم” نظرًا لطبيعته الطفولية. استعراضات د. أحمد يونس البديعة، إضاءة د. عمرو عبد الله التي لعبت دورًا هامًا في الاستعراضات.
في النهاية فإن العرض وجبة فنية متكاملة وحالة إنسانية ووجدانية تحوي صوت والحان وكلمات، طاقة إيجابية تؤكد أن القادم أفضل وأن الفن الحقيقي موجود ومستمر، كما قدم عدة رسائل منها: الربط بين الارهاب والإسفاف وتدني مستوى كل شئ، التأكيد على خطورة أغاني المهرجانات التي لا تقل عن خطورة المخدرات فكلاهما يثير الغرائز ويغيب العقول، مما يدل على وحدة المصدر ووحدة الهدف وهو تدمير الوطن. كما فرق بين الفن الشعبي الذي يجسده محمد العزبي، أحمد عدوية وغيرهما وأغاني المهرجانات المليئة بالإسفاف والعبارات غير اللائقة، وأن الفنان الحقيقي هو من يتقدم الصفوف مثل القائد العسكري.
“مكتوبلي أغنيلك” تأليف المخرج الكبير الراحل حسن عبد السلام، معالجه واخراج عبد المنعم محمد.
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت