حب ع الرف" لإميل سابا: رحلة صعبة لكن ضرورية في الذات والحياة/ تحسين يقين
- اتبعها..اتبعها!
- ………….
لم أجد نفسي إلا وأنا أخاطب جاسر في آخر المسرحية، أن اتبعها!
هل كان تطهرا كلاسيكيا هو ما شعرت به وهادية تنتظر أن يلبي مبادرتها لشراكته الحياة؟
لقد اختزلت الفنانة القديرة بيان شبيب(هادية) ليس فقط طموح الفتيات بالمساواة في الشراكة الإنسانية من خلال عرض الزواج على جاسر، بل مبادرة المحبة العميقة للعيش المشترك، من خلال كسر تابو الخوف من البوح بالمشاعر باعتبار ذلك ضعفا إنسانيا يتم تجنبه.
لذلك كانت سحنات المشاهدين/ات بدموعهم الظاهرة (قليلا) ودموعهم المخفية (كثيرا) متضامنة في الوعي مع المحبة التي ترجو حبا عاديا، ومتضامنة في اللاوعي مع كل حالة إنسانية تنحاز لصدقها في المشاعر.
ذلك هو تضامن الإنسان، وتلك هي مأساته في عدم التقاط اللحظة أكانت لحظة حب أو سلام أو عمل أو لجوء.
لقد تم نسج الأحداث من خلال تصوير دواخل الشخصيات، وصولا للمشهد الأخير، خصوصا في انتظار هادية لاعتراف جاسر بحبه لها، وما يترتب عليه من تكوين أسرة، وهو ما تردد به، في سياق شخصيته النفسية والاجتماعية القلقة، بتوترها في العلاقة مع الناس، وليس فقط مع الجنس الآخر. لذلك أزعم أن مشكلة الحب هنا، هي رمزية عميقة لمشكلة الحياة الوجودية.
وأراني أزعم ثانية أن شخصية جاسر هي القاعدة فعلا وليست الاستثناء، بمعنى ان البشر في علاقاتهم يعانون من التوتر والخوف والحذر.
يقال أن المثلث هو الشكل الهندسي الأقوى تأثيرا، لذلك مثلت الشخصيات الثلاث هذا المثلث، الذي تم بناء نصه ابداعيا ليراعي الشكل الإخراجي، أو لعل الرؤية الإخراجية هي من تعاملت مع النص.
البداية، القطعة المستقيمة الأولى، هي علاقة هادية بالأستاذ إدريس الكاتب المتقاعد. تعمل على رعايته، وشكلت وصاية على مأكله ومشربه. من جهة أخرى ظهرت في شخصية إدريس الحنان عليها، كذلك لسان حاله هو التقاط اللحظة للتفاعل، وهو من شجعها على الحب.
خلال هذه القطعة المستقيمة، أو ضلع المثلث، يظهر ضيق هادية بالرجال من خلال التفاعل في التواصل الاجتماعي، حيث ما أن تبدأ بعلاقة حتى تنهيها، في الوقت يظهر تدخل أمها في تزويجها، وأهلها. وهي في بحثها الجاد والجدي عن رجل للحب والزواج تجد نفسها صاحبة حظ قليل. وهو في العمق أيضا علاقتها بنفسها، كان هناك مونولوج داخلها، كأن مخدومها غير موجود أحيانا، وقد أبدع مصمم الإضاءة في هذا التركيز.
أما الضلع الثاني، القطعة المستقيمة الثانية، فتمثلت بجاسر الشاب في مقتبل الأربعينات، الباحث عن اطمئنان روح، ولي عن شريكة فقط، يعمل فني مختبر، حياته رتيبة، ما زالت ذكرى والدته تسكنه.. يسعى للحل دون جدوى. وهو في العمق أيضا علاقته بنفسه، كان هناك أيضا مونولوج داخله يفكر من خلاله، كأنه وحده، وساعدت الإضاءة في هذا التعميق.
الضلع الثالث، هو -هي، هما معا، هادية وجاسر، الباحثان عن الخلاص، في ظل رحلة داخل كل منهما، يلتقيان من خلال عمله حين يزور الأستاذ إدريس خذ عينات للفحص المخبري. يرى كل منهما الآخر مشروع قارب أمان في بحر النفوس المتلاطم في الحياة.
وقد أبدع الكاتب/المخرج في التمهيد برحلة كل منهما داخل نفسه وعرض معاناته، ثم في التلاقي والتفاعل. ولعله بهذا الضلع يكتمل المثلث، بقوة عجيبة، تغني عن أي ضلع جديد، فلا حاجة لا لمربع ولا لشكل خماسي وسداسي ..
من خلال العلاقة-هو-هي، التي شابها أيضا التوتر، وهو منسجم مع توترهما أصلا، يرتبط ميلها له كخلاص لها ومخلص لها مع نقدها الحاد له، في حين يكون رده هو الهروب، ومن ثم اللجوء للطبيبة النفسانية.
لذلك، كانت لقاءاتهما، مواعدة فيها تحفز واستفزاز، فهي تنتظر بوحه لها بميله، وهو أصلا بتوتره العاطفي-النفسي-الاجتماعي، يود لو تعجب به، بدلا من نقده. وتكون نتيجة المواعدة هروب أحدهما أو كليهما.
وهي تلجأ لبرنامج إذاعي تعرض قصتها، لتكتشف بأن الحل لديها هي، وفي ظل طول انتظارها لمبادرته، فإنها تمل الانتظار، فتلتقط لحظة مؤاتية لتعرض عليه الزواج؛ فيفاجأ كونه يريد أن يكون فاعلا مرة واحدة على الأقل.
لذلك، قامت الرؤية الإخراجية على ابراز الاضلاع الثلاثة، وصولا لتعميق فهم الخط المستقيم بين هو-هي، بشكل خاص، من خلال اختيار 3 أماكن داخل القاعة، الأول لها، والثاني مقابلها له، في حين مثل المكان الثالث، هو مكان التقاء كل منهما بآخرين، استدعى وجودهم ردود فعلهما تجاه بعضهما البعض، مثل اللجوء لطبيبة نفسانية، أو زيارة بوتيك الملابس الداخلية، أو البرنامج الإذاعي.
وقد وفّق المخرج الشاب إميل سابا في إظهار منطقة الأمان لكل منهما، أو منطقة الذات، حيث يجدانها أكثر أمنا ولو مجازا من خلال العودة دائما لمكانه، بما يدل على الشخصية كما هي. وقد انسجم السرير في حالة جاسر، لأنه مكان راحة وأحلام. أما هي فكانت مع المرآة، وجهاز الأيفون بحثا عن إنسان يشاركها الحياة.
هل هي كوميديا سوداء؟ أم هي واقع ملتبس؟ لعل عبثية وتطرف المأساة في التعامل مع الذات والآخر، تخلق ردود فعل كوميدية.
ليس من السهل التعبير عن تلك الشخصيات، إلا بتصويرها من الداخل على حدة، كذلك تصويرها من خلال التفاعل. وقد أدى هذا العمق الى انه راح ينشد عمق المشاهدين/ات وصولا للحالة التأثرية التي وضعتنا هادية (بيان شبيب) أمامها، وأما السؤال الوجودي الذي جاء استنكاريا، حيث رأى المشاهد، وشعر انه المقصود. وهو يتعمق في ظل سياق الحياة المادية وسط تحولات عاصفة لا ترحمنا، تم السطو فيها على القيم والمشاعر، لدرجة الخشية من التعبير عن الشعور والرأي، والحياة في ظل الخوف والتردد.
لقد ذهب المخرج الشاب سابا الى عالم التجريب في بحثه عن شكل معاصر، حيث تم العرض على مساحة الخشبة والقاعة. لقد تم توزيع المشاهدين/ات على الخشبة والقاعة، بحيث تجري الأحداث وحركة الشخصيات بينهم، على تماس معهم.
لقد تطابق الفضاء المسرحي مجازا معنويا، مع الفضاء الفيزيقي نفسه، حيث تحولت الخشبة (والغرفة بشكل عام)، لعل ذلك قرب رحلة تفكير المشاهدين في التمثيل وأنفسهم.
وقد أثبت المخرج الشاب فعلا مهارته في إدارة حركة الشخصيات، بل وتنقلها غير السهل وسط الجمهور في مساحة ضيقة (رمزية ضيق الحياة) هي ما تبقى للمثلين/ات، بعد ان شغل الجمهور معظم مساحة المكان، الخشبة وقاعة المشاهدة، فلم نعد هنا إزاء الغرفة المسرحية التقليدية المعروفة، صار الممثلون بيننا ومعنا، وشعرنا بنزقهم وعصبيتهم، التي تأتي في سياق هذا التدافع وسط زحمة البشر وتنافرهم في الحياة وفي المسرح. كان الاندماج هنا بالطبع وجدانيا، واستطاع أربعتهم التكيّف مع المكان، وأديا الأدوار باحتراف، بل وأضافوا لرصيدهم الفني الكثير. وبالرغم من ضيق المساحة الممنوحة لهم، الا انه منحنا جميعا ممثلين ومشاهدين فضاء واسعا للشعور والتأمل بل والنقد الذاتي باتجاه التغيير الإنساني.
في التمثيل، أبدع الجميع، بمحمد عيد الذي قدم دورا من أبدع أدواره، التي ارتقى فيها لمنزلة كبرى، عالمية فعلا، لقد جعلنا فعلا نعيش هذه الشخصية المترددة، وأشبعها، وأشبعنا شعورا، لقد امتلك الفنان محمد عيد دقة وابداع في اللغة والحركة والملامح، وكان لرشاقته دورا في التنقل السهل السريع من عمق الاعة الى مقابلها.
أما بيان شبيب بملامح وجهها العميقة والمتأثرة بالموقف الإنساني، فهي تذكرنا كيف كانت مبدعة وهي لم تغادر طفولتها بعد قبل سنوات، ولعل قمة الإبداع الإنساني قد تمثل في المشهد الأخير، حين عرضت الزواج عليه، وانتظرت، فكان لكل ثانية تأثير عميق على المنتظرة، وصولا لوجه صامت مليء بالدلالات..
كان الفنان الكبير أدوار معلم والفنانة الكبيرة إيمان عون رافعتين للمسرحية، حيث كانا بمهارتهما حاضنة وفرت لبيان ومحمد فرصة الابداع. وكان للحوارات أثر كوميدي خفف من سطوة النص التراجيدي، حيث أبدعت عون في أداء شخصيات: عطارة وطبيبة ومذيعة وسائق تاكسي.
هي فضفضة، أو بوح لم يكتملان من خلال المسرحية والجمهور، الذي سيجد نفسه أما هذا أو تلك، أو لربما وجد نفسه الضمير. وتلك صدمات الحياة النفسية، عبر سياقات اجتماعية واقتصادية وسياسية غير مرئية، وغير متداولة للحديث، إلا كانت كخلفية حاضرة بقوة.
“حب ع الرف” لمسرح عشتار، يعيدنا لتأمل الرفوف جميعها، مشاعر وأفكارا، لعلنا نلتقط اللحظة-الزمن، قبل فوات الأوان. تماما كما يظهر في شخصية الأستاذ الكاتب ادريس، في ساعات صحوه وتذكره، كأن هادية وجاسر يسكنانه، كعلاقة امراة برجل، وعلاقة بشر وأمم، وتلك رسالة الكاتب الإنسانية، لعلنا نأخذ عبرة..فأجمل ما فينا الحب والاعتراف به..وهو مدخل رائع للإنسانية.
إنها تحولات المجتمع العربي أيضا، فالكاتبة مصرية، والمخرج فلسطيني، ليس هناك سوى القرب من الهموم والاهتمامات والطموح والحلم بغد أكثر اطمئنانا.
*العمل مستوحى من مسرحية “منتجات مصرية” للكاتبة والمخرجة المصرية ليلى سليمان، سينوغرافيا: ماشا كابوستينا، مساعد سينوغرافيا: ايميل سابا، إضاءة: إدوار معلم، تقنيات: محمد قنداح.