عودة لقضية البدايات وتمصير المسرح المصري/ د. حسن عطية

مما لا شك فيه أن الغزو الفرنسي لمصر وامتداده للشام أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ، والذي استمر لثلاث سنوات (1798-1801) يكافحه فيها المصريون حتى طرده من البلاد، قد أحدث هذا الغزو هزة حضارية في المجتمع المصري، الذي كان يتهيأ للنهوض، مكتشفا الهوة بين ماضيه المتخلف وحاضر العالم المتقدم ، ومتنبها لهويته الوطنية الضائعة في العصور العثمانية والمملوكية السابقة، وتزامنت مع ظهور اللبنات الأولى من طبقة بورجوازية قوامها التجار وعلماء الأزهر، تهفو لامتلاك ذاتها ومقدراتها، وتأمل في تغيير واقعها إلى ما هو أفضل، ولذا التقطت صيغ التطور التي جاءت بها الحملة الفرنسية وصاحبتها، دون أن تنزع نفسها عن ماضيها ورؤيته للعالم، فراحت تتأرجح بين الموروث السائد والمتغلغل في التقاليد والعادات واللغة وصيغ الحياة القديمة، وهذا الوافد الجديد المحرك للعقل والملتقي مع الرغبة في النهوض من كبوة الماضي التليد، ومن هذا الجديد كان هذا المسرح المستجلب من باريس للترفيه عن جنود الحملة الفرنسية، والذي استمر فيما بعد، عبر الفرق المسرحية المستدعاة من قبل الجاليات الأوربية للإسكندرية والقاهرة وبلغاتها، ولفت انتباه مؤرخ هذه المرحلة أبن الأزهر النابه “عبد الرحمن الجبرتي” (1753-1825)، وأشار إليه تاريخه المعروف ب (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، واصفا المسرح الذي تقام في داخله العروض المستجلبة، وكيفية الدخول إليها وما يقدم عليها، وعرفنا الشيخ “رفاعة رافع الطهطاوي” (1801-1873) في كتابه الشهير (تخليص الأبريز فى تلخيص باريس) 1843، والذي هو نتاج معايشته للحياة الفرنسية في باريس لنحو خمس سنوات، ما بين 1826 و1831،  صاحب خلالها إحدى بعثات “محمد علي” العلمية لفرنسا، عرفنا بفن المسرح الذي شاهده وأعجب به في باريس، وأخبرنا خلاله أن ثمة فنونا دنيوية مهمة في حياة الفرنسيين، منها (السبكتاكل) (التياتر) ، وفي غيبة الوجود الفعلي لهذه الفنون في مصر والمنطقة العربية، حاول “الطهطاوي” تعريف هذين المصطلحين للمتلقي المصري ، بأن الأول “معناه : منظر أو منتزه أو نحو ذلك، ولفظ “تياتر” معناه الأصلي كذلك، ثم سمى بها اللعب ومحله” ([1])، فضلا عن ترجمة “الطهطاوي” للنص الأوبرالي (أوبرا بوف) (هيلانة الجميلة) للفرنسيين “هنري ميلهاك” و”لودفيك هاليفي” والمنشورة عام 1868 ([2]) .
لم تقف أذن النخب البورجوازية المتعلمة، ولا النخب الأرستقراطية المكونة في زمن “محمد علي” وأولاده والمتعلقة بالثقافة الفرنسية، والكلاسيكية منها خاصة، لم تقف من المسرح الذي شاهدته بلغات غير لغتها خلال الحملة الفرنسية وما بعدها مع الجاليات الأجنبية وبصفة خاصة الإيطالية وعبر دراساتها بأوروبا، لم تقف عند حد الاستمتاع الطبقي به، بل أدركت أهميته الثقافية لدى المجتمع بأكمله، والذي فتش بدوره عن هويته، بعد أن تحرر عمليا من الحكم العثماني المكبل لعقله لقرون خلت باسم الدين، وتذبذب في رؤيته لمن يحكمه بين المماليك المتمصرين والمغلوبين عقب عودتهم من المنافي الاختيارية التي هربوا إليها أثناء الحملة الفرنسية، وبين الألباني/ العثماني الداعم لسعيهم للتغيير، والمتولي الحكم باختيارهم، والساعي لنهضة هذا الوطن، فصار المحقق لأحلامهم، وفي زمنه وزمن أولاده عملت النخبة المتعلمة على الانتقال لزمن الحداثة الغربية ، فقامت بترجمة علوم السياسة والطب والهندسة والأدب والمسرح، هذا الأخير الذين أدركوا أنه ليس علما إنسانيا مطلقا، بل هو إبداع مجتمعي يتواءم مع كل ثقافة خاصة بمجتمعه، حتى ولو نقلت صيغ كتابته وعرضه عن الآخر، كما أنه ليس أدبا سرديا لغويا باق بين دفتي الكتب، بل هو فن درامي صيغ ليعرض بألسن المجتمع، في (سبكتاكل) موجه لعقول وأفئدة هذا المجتمع، ومن ثم لابد وأن يكون قريبا منه، متحدثا بلسانه وحاضنا لثقافته، فتحولت الترجمة إلى تعريب، بعد مرحلة من التداخل بينهما، وصار التعريب تمصيرا، يحذف من النص الأصلي ما يراه المعرب أو الممصر غير متفق مع تقاليد وعادات المجتمع المصري، ويضيف للنص الأصلي مشاهد يكتبها الممصر مرتئيا أنها ضرورة لتوضيح وجهة نظره الأخلاقية، أو مطلوبة لتجذير هذا النص في الثقافة المصرية عبر العرض المرئي أمام الجمهور، فضلا عن كتابتها باللغة العربية البسيطة أو اللهجة المحلية المطعمة بالأمثال والحكم الشعبية واللهجات المختلفة، فيقبل عليها كتطور حضاري لبابات (خيال الظل) ومقارعات (الأراجوز) ومسامرات الشاعر (الحكواتي) التقليدية، وكاحتياج اجتماعي / سياسي لفن تتحاور فيه الآراء المختلفة، ويحق للشخصيات المعارضة فيه أن تتحدث بحرية معبرة عن ذاتها وأفكارها.
تهيأ المجتمع المصري لاستقبال فن المسرح خلال العقود الست الأولى من القرن التاسع عشر، دعم هذا الاستقبال ظهور أول مسرح ناطق باللغة العربية، ومكتوب وناطق بها، على يد اللبناني “مارون النقاش” (1817-1855) في بيروت، قدم عليه ثلاث مسرحيات، تتقدمها مسرحية (البخيل) L’Avare المعربة عن نص الكاتب الفرنسي “موليير”، بنفس العنوان، 1847 والمصاغة في قالب موسيقي غنائي، على غرار فنون الأوبرا والأوبريت اللذين شاهدهما “النقاش” في إيطاليا، والتي انتقلت أخبارهما إلى مصر، قبل وصول فرقة أبن أخيه “سليم النقاش” إليها عام 1876، بينما ظهر الكاتب والمخرج المصري “يعقوب صنوع” ليقدم عام 1870 نصوصا مسرحية ممصر بعضها أو مقتبس أفكارها عن نصوص أوروبية، فلاقت نجاحا جيدا خاصة بين شرائح (الأفندية) التي كونها التعليم والوظائف الحكومية (الميري)، لتكون أبرز شرائح البورجوازية المتعطشة للمعرفة، والمتعطشة لفنون الحداثة الغربية ، وفي أعقابه ظهر “محمد عثمان جلال” الذي حرص على ترجمة النصوص الفرنسية للعامية المصرية في صيغة الزجل المحبب للمتلقي المصري ، وقدم باكورة أعماله عام 1873 بعنوان (الشيخ متلوف) تمصيرا لنص (تارتوف) للفرنسي أيضا “موليير” .
حول قضية التمصير التي صاحبت بدايات المسرح المصري، وحتى يومنا هذا، نشرت الباحثة والأستاذة الجامعية المرموقة د.”نجوى عانوس” كتابا جديدا لها، ضمن سلسلة كتبها المتميزة لتوثيق بدايات المسرح المصري، حمل عنوان (التمصير في المسرح المصري: من يعقوب صنوع 1870 إلى الحرب العالمية الثانية 1945) ([3])، كشفت فيه عن الدور الرائد للمسرحي “يعقوب صنوع” في تقديم أول العروض المسرحية المصرية ولمدة عامين منذ عام 1870 وحتى 1972 ([4]) ممصرة، وتركيزا على الدور المتميز ل “محمد عثمان جلال” ، والذي قدم أول عرض له عام 1873، ثم استكمالا لدوري “صنوع” و”جلال” تستمر المسيرة على أيدي “بديع خيري” و” نجيب الريحاني” و”عباس علام” و”محمد تيمور” و”توفيق الحكيم” و”بيرم التونسي” و”سليم نخلة” و”يونس القاضي” و” محمد عبد القدوس” و”إبراهيم رمزي” ، ولم تكتف كاتبتنا بعرض النماذج التي بذلت جهدا مضنيا في الحصول عليها وعلى مصادرها في القاهرة وباريس، بل عمدت على دراستها كعينة بحثية تستخرج منها سمات عملية التمصير.
رصدت د. “نجوى عانوس” 39 نصا ممصرا منذ نص (العليل) الذي قام بتمصيره رائد المسرح المصري “يعقوب صنوع” عن نص (مريض الوهم) Le Malade imaginaire للفرنسي “موليير”، وعرض بمسرح (صنوع) بحديقة الأزبكية فيما بين عامي 1871 و1872، حتى نص (إلا خمسة) الذي مصره “نجيب الريحاني” و”بديع خيري” عن نص Moins cinq للفرنسي أيضا “بول جافو”، وعرض بمسرح (الريحاني) في مارس 1945، كما قامت د.”عانوس” بعرض تاريخي دقيق في الفصل الأول من كتابها للمسرحيات المذكورة، بادئة فصلها هذا بقول المؤكد “كانت أول مسرحية ممصرة هى العليل ليعقوب صنوع عن مريض الوهم لموليير والثانية هى الأميرة الإسكندرانية” (عانوس – ص 33) ، حاسمة أمر وجود “يعقوب صنوع” وعروضه المسرحية في مصر فيما بين 1870 و1872، والذي ينكره وينكرها الباحث الجامعي الدءوب د. “سيد على إسماعيل” في معظم دراساته، وبخاصة كتابه (محاكمة يعقوب صنوع) ([5]) ، ثم عكفت على دراسة هذه النصوص الممصرة لتقف على التغيرات التي حدثت لهذه النصوص في رحلتها من الفرنسية إلى العربية، أو ما أسمته (ظواهر التمصير في المسرح المصري) في الفترة المبحوثة، منطلقة من ملائمة النصوص الفرنسية المختارة لتمصيرها، ففي رأيها موضوع (مريض بالوهم) لموليير، والقائم على فكرة سيطرة مزاج معين على بطل المسرحية، وهو أنه مريض فتخضع كل تصرفاته لهذا الوهم بالمرض،”يتناسب مع البيئة المصرية” (ص 69)، فالموضوع الملائم للذهنية المصرية يأتي في المقدمة، يأتي بعده تغيير أسماء الشخصيات، فيصبح “أرجان” “حبيبا”، وتضحى “انجليكا” الست هانم في مسرحية (العليل) ، ثم يأتي بالضرورة دور تغيير الأماكن التي تجرى فيها وقائع المسرحية، فتنتقل الأحداث في (العليل) من ضواحي باريس إلى حلوان بالقاهرة، هذا فضلا عن تغيير العناوين بالطبع حيث يمسي (مريض بالوهم) الموحي بزيف مرض الشخصية الرئيسية، لمجرد (عليل) لا تتكشف حقيقة ادعائه لمرضه إلا بمشاهدة المسرحية، هذا إلى جانب حذف شخصيات ومواقف وأفكار فرنسية لا تناسب التقاليد المصرية، يتم إبداع شخصيات من البيئة وأخرى أجنبية تعيش في مصر، فنجد في (العليل) شخصية مضافة هى “الشيخ عليّ” الدجال المغربي الذي ينطق اللهجة المغربية وسيلة من وسائل الإضحاك” (ص78) .
دراسة شديدة الأهمية لباحثة وأستاذة جامعية سخرّت عمرها في دراسة وتدريس المسرح المصري، لاسيما في بداياته التي يثار دوما جدلا حولها، كما وجهت تلاميذها وتلميذاتها لدراسة ظواهر ومعالم المسرح المصري في رسائلهم العلمية من أمثال “أبو السعود الإبياري” وبديع خيرى” و”يوسف وهبي” وغيرهم كثر، ولنا في الختام أن نتحفظ على رأي نقلته د”عانوس” دون تمهل عنده، وهو الذي أورته د. “نفوسة زكريا سعيد” حول الهوية أو ما كان يعرف بالقومية المصرية، والذي جاء في رسالتها للدكتوراه عام 1959 (تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر) والمنشورة كتابا بنفس العنوان عام 1964، وجاء نصا “ظهرت حركة التمصير بظهور القومية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وتبعتها في أطوار نموها حتى بلغت أشدها بعد ثورة 1919، والقومية المصرية من النزعات الإنفصالية التي خلفتها السياسة الاستعمارية” (ص22) ، وهو قول مغلوط مؤسس على فهم خاطئ لفكرة الهوية أو القومية، وللسياق التاريخي ومتغيراته الاجتماعية والسياسية المفجرة لموضوع (الهوية) أو القومية المصرية التي تفجر الشعور بها منذ بدايات القرن التاسع عشر، تزامنا مع الرغبة فى التحديث والتمدين والحاجة للتنوير، وعبرت عن نفسها في كتابات رموز التنوير زمنذاك، كما دفعت الشارع المصري للتحرك في ثورة جماهيرية شملت كل مصر عام 19 بهدف تأكيد الذات المصرية في وجه الوجود العثماني، حتى ولو كان اسميا، والاحتلال الإنجليزي الفعلي، فكان للمسرح دوره، جنبا إلي جنب أغاني “سيد درويش” وأزجال “يونس القاضي” وأشعار “بيرم التونسي” وكاريكاتير “رخا” وصاروخان” و”علي رفقي”، ونحت “مختار” وكتابات “أحمد لطفي السيد” وغيره فكان الشعور بالقومية المصرية شعورا وطنيا في مواجهة المحتل، وليس صنيعته، وكان وعيا بضرورة أن تكون “مصر للمصريين” اقتصاديا وسياسيا وحضورا مستقلا في العالم، لذا جاهدت مصر كي تتحرر من المستعمر الإنجليزي، ومن الهيمنة العثمانية، ومن كل أشكال التخلف التي جرتها للخلف لتنهض نهضتها التنويرية .
أما ما أود أن أختم به مقالي هذا، إلى جانب تحيتي لكاتبته المتميزة، ودورها في رصد البدايات التمصيرية لمسرحنا، والتي مازالت للأسف الشديد مستمرة حتى اليوم، باسم الإعداد والدراماتورجية والرؤى الخاصة، حتى بعد أن كسبنا العشرات من كتاب الدراما المسرحية المتميزين، لذا انقل هنا فقرة مهمة جدا في الكتاب، منقولة بدورها عن الممثلة والصحفية النابهة “فاطمة اليوسف” المعروفة باسم “روزاليوسف”، والتي نشرتها بمجلتها التي تحمل اسمها عام 1929 قائلة : “المؤلف هو عماد المسرح لا المعرب ولا المقتبس لأننا نريد مسرحا محليا لا صورة مشوهة من المسرح الأوربي” (ص 23) ، فمتى سنتخلص من عمليات التمصير المختلفة، ويعود لمسرحنا كتابنا المتميزين، ويعود للكلمة دورها المدعوم بالصورة المرئية، ليعود معها جمهورنا لمسرحه .
هوامش
([1]) رفاعة رافع الطهطاوى : تخليص الأبريز في تلخيص باريز – سلسلة ذاكرة الكتابة رقم 198- الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – ص 145
([2]) أنظر د. سيد على إسماعيل فى دراساته الجادة عن تاريخ المسرح المصري، لاسيما تقديمه للنسخة المنشورة مؤخرا لنص (هيلانة الجميلة) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة- 2015 .
([3]) نجوى عانوس (أ.د.) التمصير في المسرح المصري : من يعقوب صنوع 1870 إلى الحرب العالمية الثانية 1945 – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 2019 ، وسوف نذكر صفحات الكتاب التي نستشهد بفقرات منها في متن المقال .
([4] ) يصدر للدكتورة “نجوى عانوس” قريبا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة كتابا بعنوان (يعقوب صنوع ومسرحياته المجهولة) تكشف فيه عن حقيقة وجود “صنوع” كرائد للمسرح المصري، معتمدة على نصوص مجهولة له عثرت عليها في بحثها الدءوب عن حقيقة هذا الرجل ودوره في الحياة المسرحية العربية، ونافية بذلك أية محاولة لنفي وجوده في تاريخ المسرح العربي ، وهو استكمال لكتابها السابق المتميز والمعنون ب (مسرح يعقوب صنوع) الصادرعن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1984 .
([5]) سيد على إسماعيل (أ.د.) : محاكمة يعقوب صنوع – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 2001
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت