"الترياق الأزرق" .. من الموت قهرا إلى الموت غرقًا/ سعد الدين ابوه
تستطيع لغة الخشبة أن تهز الوجدان البشري بقوة، مثلها مثل فن الشعر، وفن الموسيقى، والسينما، وغيرها من الفنون الإبداعية.
إلا أن لغة المسرح ربما تستأثر بخصائص جمالية نادرة، تجعل من أب الفنون ممارسةً مدهشة وآسرة للوجدان البشري، وهذا ما أثبته العرض المسرحي “الترياق الأزرق” الذي ارتفع بالتجربة المسرحية المورتانية إلى مرحلة من التطور ربما لم يتوقع أغلب النقاد والمتابعون للساحة الثقافية أن يصل إليها بهذه السرعة في ظل بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية قاتلة للإبداع.
لست بصدد تفكيك عناصر العرض فنيا، بقدر ما أود الإشارة في هذه القراءة السريعة إلى مؤشرات ملفتة صاحبت العرضَ المسرحي وتستحق التوقف عندها:
– إن لغة جسد الممثلين الرئيسيين الثلاث (محمد عزيز، سلي عبد الفتاح، النبوي محمد) أثناء العرض كانت متماسكة لدرجة مبهرة، وغني عن القول إن الأداء المسرحي المتكامل يعتمد على قدرة الممثلين على تقمص الدور وتسخير كامل أجسادهم له، ناهيك عن نبرات الأصوات المتناسقة مع حركات الجسد، ومع الكلمات المنطوقة .. وهذا مؤشر أول على قدرة هذا العرض على تحقيق نجاحات ليس فقط على المستوى الوطني بل ربما على المستوى الدولي.. ولما لا ؟
– لا يمكن الحديث عن عرض مسرحي جذاب، وساحر، ومقنع للجمهور، دون الحديث عن النص، وفي هذا السياق لاحظتُ وأنا أحضُر العرضَ للمرة الثانية أن سحر الكلمات ودقة تعبيرها عن موضوع المسرحية “الهجرة”، وتناغمها، وجمالها الأدبي، كل ذلك لم يفقد وهَجه وسحره.
لقد لامست الأشعار التي ألقاها الممثلون عمقَ الجرح، ذلك الجرح الذي يثخِنه وجعُ الفراق ولوعته، وألم الغربةِ ومرارتها، وفظاعة الموت.. الشبح الذي يسبح في البحر الأبيض المتوسط مترصدا كل يوم فوجا جديدا من الهاربين من جحيم الفقر، الحالمين بلقمة من الكرامة، ولو كانت على بعد آلاف الأميال، والأرواح .. لقد استنطق النص بجدارة كل هذه الأوجاع التي تعج بها القارة السمراء، من الفقر والجوع والبطالة، والأحلام الموؤودة، التي أجهزت عليها سياط اليأس وعِصيُ القنوط من رحمة الآدميين.
قلق “الوطن” ..
ولما كانت كل هذه المآسي والأوجاع المتراكمة دافعا لآلاف الشباب الأفارقة على حمل ما تبقى من أشلاء أرواحهم المعذبة على زوارق اللاعودة .. كان الوجع الأكبر حاضرا في أغلب المشاهد التراجيدية للمسرحية:وجع الغربة.
بلادي وإن جارت عليَ عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا عليَ كرام. يرددها الممثل محمد عزيز وسط قهقهات تهكمية من زميليه، معبراً عن ذلك التعلق السرمدي بالموطن الأول، وإن كان جحيما لا يطاق، ثم ينتقل الحوار بسلاسة بديعة إلى الممثل عبد الفتاح سلي، الذي يؤدي دور المثقف حامل الشهادات، والذي أنفق نصف عمره في الدراسة، ثم دخل في ماراثون البحث عن فرصة للحياة، على عتبات المؤسسات والشركات والإدارات، لينتهي به المطاف في دوامة من العجز و البطالة لا أفق لها، مثل الآلاف من شباب وطنه، متحدثا بمرارة عن خيبات الأمل المتراكمة على صدره المنهك، ويأسه الحاد من لفتة حنان ولو واحدة من وطنه.. الوطن الذي يملك قلوب أبناءه، ويعذِب أرواحهم وأجسادهم بمنتهى البرودة !
لقد عالجت المسرحية كل تلك الهموم بأسلوب جامع بين الكوميديا المضحكة، والتراجيديا المؤلمة، بمهارة واضحة، ولابد حتما أن وراء هذا الأداء المتكامل والمتماسك عقلا مبدعا في كتابة السيناريو، والحورات، والأشعار، وغيرها من العناصر الفنية للعرض المسرحي.
ختاما أستطيع القول أننا نواكب بدهشة بالغة لحظة الميلاد الفعلية للمسرح الموريتاني، بعد أن تجاوزنا لحظة الميلاد “التاريخية” التي بدأت بطبيعة الحال قبل بضعة عقود.