مسرحية"بيدرو والنقيب" وتحولات الحكم والنفس للمخرج الفلسطيني (إيهاب زاهدة)/تحسين يقين

دائرة؟ هل هي كذلك؟ وهل هي قصة الإنسان، الحضارة، الفن، الحكم؟

في دورتها الأولى تكوّن مأساة، وفي الدورة الثانية فإنها تثير السخرية..ربما مما كان ويكون!

هي الدنيا، ولعل الحكم أبرز ما فيها كونه المتحكم بالبشر، وكون مجالات الحياة المختلفة تنبع منه. وللأسف فإن سلوكيات الحكم تتكرر.

نقل لنا المخرج المبدع إيهاب زاهدة هذه اللعبة سياسيا، إلى الخشبة، حيث عشنا هذا الصراع بين الحكم المستبد ممثلا بالنقيب، وبين المناضلين، ممثلا ببيدرو، لقد نجح المخرج بإدماجنا نفسيا وفكريا في المسرحية من خلال غرفة التحقيق وما يتم فيها من ضغوطات نفسية وجسدية، بحيث جعلنا نتأمل بعمق بمشاعر متعددة وأسئلة إنسانية وسياسية، ليس عن الاستبداد فقط بل عن جدواه، خصوصا أنه مهما استبد وبطش، فهو ماض الى نهايته.

واستطاع فنانان محترفان هما رائد الشيوخي ومحمد الطيطي، من إقناعنا شعوريا بهذا الصراع، وذلك لتقمص الشخصيتين بشكل بارع، خصوصا حينما كان حوار المحقق “رائد الشيوخي” أشبه بمونولوج داخلي، استطعنا من خلاله ليس التفكير بمبررات الحكم الاستبدادي فيما يخص الحفاظ على مصالح الشعب، بل ودوافعه القادمة من إغراءات الامتيازات المقدمة لجهاز الأمن.

لا نستطيع ونحن نشاهد، إلا تذكر التاريخ، المضي والحاضر، حاضرنا العربي والعالمي، خصوصا في مسألة الحكم والحريات، في الظروف الانتقالية، أو في ظروف الحروب، حين يجد الحاكم تلك الظروف مبررا للإيغال في الاستبداد، سواء أكان في الأرغواي منشأ النص الأصلي للكاتب ماريو بينيديتي، أو في بلادنا العربية، في مسألة الحريات السياسية، وصولا لما صار يعرف “بالربيع العربي”.

يبدو أن ماريو بينيديتي قد تأثر بالتاريخ المعاصر لبلاده، منذ إعلان حالة الطوارئ في أواخر الستينيات، حين تلاها تعليق المزيد من الحريات المدنية عام 1972 وصولا لاستيلاء الجيش على السلطة، مرورا باحتجاجات 1984 ضد الحكم العسكري، حتى الاضطرار للتراجع والعودة إلى الحكم المدني، وإجراء الانتخابات الوطنية في العام نفسه، والبدء بإصلاحات اقتصادية وديمقراطية.

غرفة تحقيق!

منسجما مع مضمون النص، استخدم المخرج (معد السينوجرافيا) كرسيا للمحقق، وطاولة وحاسوب، يظهر سطح مكتبه من خلال شاشة على جانب المسرح، (انسجاما مع العصر). وماء..فيما ظهر المعتقل مغطى الرأس، ملقى بإهمال على أرض الغرفة مقيدا.

أما النقيب مكتمل الصحة واللياقة، فيكون منشغلا في تصفح فيسبوك بيدرو-بدر، ثم يبدأ بتمثيل دور المحقق اللين غير العنيف، كعادة التحقيق الثاني اللاحق للتحقيق العنيف، حيث يبدأ بالحديث المتفهم لحالة المعتقل الصامت، كما يبدي عدم رضاه عن أسلوب التحقيق العنيف، ويعلمه بأن الأمن يعرف شركاءه، ويسميهم، لكنهم يريدون العنوان، وأنهم سيخفون أنه هو المزود بالمعلومة، حيث سيصرحون أنهم وصلوا لهم عن طرق أخرى. لكن مع الصمت يبدأ “المحقق غير العنيف” بالتحول للتهديد، بإيذاء أسرته خصوصا زوجته. وهو في الوقت نفسه يذكّره  كيف كان يعيش حياة عادية مع اسرته وعمله، وأنه بالإمكان العودة لذلك مرة أخرى. ومع استمرار الصمت وعدم الاعتراف، يعيد التهديد ويؤكد له بأنه سيعترف في النهاية، وأنه الأفضل له إذن ان يعترف.

هنا يظهر كيف يفكّر النظام المستبد من منظور مصالحه؛ حيث يجد عجبا في نضال المواطن العادي، الذي يعيش حياة عادية، وكيف يقدم على مغامرة المعارضة كما يرى المحقق. بل إن يستنكر ويستغرب انضواءه ضمن دائرة الثوار. فكيف يمكن التضحية بهذه الامتيازات في سبيل مغامرة غير مضمونة النتائج!

خلال فترات التهديد، يتنقل بوجهه بين المرايا في عمق المسرح، التي ترينا وجها مضخما، لزوم التخويف، أو الشعور بالقوة، لكن ربما من منظور بيدرو يظهر كقزم، لذلك يكون المعتقل ندا له، فينجح باستفزازه ليكون له ندا، غير خائف منه، بل استطاع بصموده أن يربك المحقق.

يعود المحقق للين، حيث يعود إلى الوراء ربما لأيام الجامعة، ليذكره بتلك الأيام، وربما ليجد مبررا أخلاقيا لما يصنعه الآن، وبأنهما كان يعيشان تلك الحياة، بما يلائم حياتهما ومرحلة العمر وما فيها من علاقات ومشاعر، حيث يظهر الجانب الإنساني للمحقق بشكل خاص. بل يفتح صوت الموسيقى أيضا، كأن ذلك حنين ما لديه، يؤكد ذلك حينما يستغرق في الحوار في التحقيق، حيث يصير اتلحوار مونولوجا داخله، بشكل مسموع، بأنه هو أيضا ضحة ما، بسبب خوفه على امتيازات وظيفته كضابط تحقيق. ولعل هذه اللحظة كانت فاصلة في المسرحية، بما قبلها وما بعدها، كونها تكشف النفس الإنسانية من الداخل، ويزيد من هذا الكشف-البوح عمق الحوار بين بيدرو والمحقق، حين ينتصر بيدرو المقيد أخلاقيا على المحقق، بما يجعله منفعلا ومتوترا، فيصبح هو المعتقل أخلاقيا ونفسيا.

ساعد الديكور في إيصال الرؤية الإخراجية، لحالة تحقيق، كذلك ايحاءات القضبان، أما الصندوق فتم توظيفه للنفي-الموت. وقد لعبت الإضاءة دورا في المشاهد، أما الإبداع فكان في تمهيد الانتقال-التحول في النهاية، حيث كأنه يمر وقت، أو لنقل سرد في اللاوعي.. حين يصبح النقيب معتقلا، والمعتقل يقف على خشبة المسرح..دلالة  الانتصار على القيد.

خدم التمثيل الحيّ والإبداعي على الخشبة الرؤية الإخراجية، التي تكاملت من خلال توظيف المكان، وصولا للحظة التحول الأخيرة. لقد شحن الأداء الجمهور من البداية للنهاية، بقينا ليس مع العرض فقط بل داخله.

لقد تعمقت فكرة تضامن الأفراد معا في العمل الشعبي من أجل التغيير، حيث أن ارادة الجماهير تنتصر في النهاية، لا كما يتوقع المحققون، حينما يقررون أن المعتقل سيعترف في النهاية.

عودا على بدء، ثمة أهمية في إنتاج “مسرح نعم”، ويمكننا هنا أن نستجليها عبر مجالين:

–       التحولات، وهي سلوك البشر، الحاكم والمحكوم، في ظل الحكم الاستبدادي، وما يحدث خلاله وبعده. وهذا ينطبق على البلاد الأخرى كما انطبق على الأرجواي من أواخر الستينيات حتى أوسط الثمانينيات. وهي تحولات متنوعة بالطبع.

–       تحولات النفس، وهي بالطبع مرتبطة، أو نتيجة لتلك التحولات، وهنا نزعم ان المسرحية، كما نص الكاتب ” ماريو بينيديتي”، قد نجحت في التعبير عن النفس الجوانية.

نشر موقع العربي الجديد-ضفة ثالثة الأربعاء 09/09/2015 م ترجمة لنص ماريو بينيديتي عن نصه “بيدرو والنقيب” بأنه كان”استقصاءً درامياً في نفسية المعذب، فهي شيء من قبيل الإجابة عن التساؤل: لماذا وبواسطة أية عملية يمكن لكائن طبيعي أن يتحول إلى جلاد، ليؤكدوا بأن “بيدرو والنقيب” ليست مواجهة ما بين وحش وقديس، وإنما رجلان، أو كائنان من لحم ودم، كل واحد منهما يتمتع بنقاط ضعف ونقاط مقاومة، لافتين إلى أن “المسافة الفاصلة بين الأولى والثانية، هي أولاً وقبل كل شيء أيديولوجية، وهناك ربما يكمن المفتاح لفوارق أخرى تشمل الأخلاق والنفس والحساسية أمام الألم الإنساني، والمسار المعقد ما بين الشجاعة والجبن والقدرة على التضحية، وما إذا كانت المسافة كبيرة أو صغيرة ما بين الخيانة والوفاء.

إن التفسير الأيدولوجي مهم هنا، في سياق المنطلقات الأخرى التي تحدث عنها الكاتب، بدءا بالأخلاق ومرورا بما ذكر، وليس انتهاء بالمسافة بين القيم. ولعل ذلك ما زال ينطبق بتفاوت على البلاد التي تمر بتحولات، وإن كنا نجد أنفسنا مقتربين من مسألة مجموع الخلاصات الفردية، التي تكون معا الخلاص الجمعي، أكان ذلك وفق أيديولوجية أو غيرها. ولعل ذلك ينسجم مع ما ذكره ماريو عن الرجلين بيدرو والنقيب، بأنهما ” كائنان من لحم ودم، كل واحد منهما يتمتع بنقاط ضعف ونقاط مقاومة”، بمعنى أن محرك الخلاص إما أن يكون نحو الخلاص الفردي ويمثله النقيب ومسوغاته في الاستبداد، وإما الخلاص الجمعي ويمثله بيدرو ومسوغاته خلاص المجموع، وهو منهم.

لعبة جادة على الخشبة أدارها باقتدار المخرج إيهاب زاهدة في مهرجان المسرح الوطني في دورته الثانية خارج مسابقة المهرجان، حرك من خلالها دواخلنا شعوريا وفكريا، حيث رحنا نفكر بمقاربة ذلك هنا في فلسطين وبلادنا العربية؛ فثمة ما هو متشابه، ومختلف، وثمة ما هو ملتبس، في ظل حالتنا.

Ytahseen2001@yahoo.com

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت