بتونس:"تمثّلاتُ الفضاء المسرحي على ضوء المشغل الحضاري والجمالي وضمن تقاطعاته السينوغرافية والتكنولوجية"
الورقة العلمية للندوة الفكرية الدولية لمهرجان أيام قرطاج المسرحية ال 21
أيام 12 و 13 و 14 ديسمبر 2019
مدير الندوة الفكرية: د. عبد الحليم المسعودي
(I) – المنطلقات
اذا كانت الحداثة مٌبشّرة دائما بتحرير الفضاء, بوصفه حيز الزّمانية والمكانية, وإزالة الحدود الظاهرة والخفيّة وفق مبدأ تحرير الإنسان ضمن إنسانية كونية متجاوزة لكل معطل معياري عِرقيّ كان أو حضاري, فإن ما نشهدُه اليوم من تَحوّلات سريعة في نمط التواصل البشري المحكوم بالافتراضي خاصة يُؤكد أن وعود هذه الحداثة كانت سرابا وأضغاث أحلام, وأن هذه الحداثة ذاتها قد فشلت في هذا المسعى فشلا ذريعا, بل أن عهدا جديدا يعلنُ عن نفسه بضراوة من خلال إعادة رسم الحدود وإقامة الجدران والحواجز والتلاعب بالخرائط ضمن هذا التواصل ذاته الذي يَفْتكُ بالإنسان ويُفتّتُ ذاكرته المكانية ويُرْبكُ تمثلاته المجالية الغريزية القائمة على الاستقرار والترحال.
ولأن المسرح وإن كان لصيقا كعادته بكل طارئ حديث عن حياة الإنسان, فإن طبيعته تلك تجعله دائما في مقدمة جدل هذه التحولات التي يعيد صياغة أسئلتها بمرونة الاتصال والانفصال و التي يتقن لعبتها ويدرك مخاطرها ورهاناتها.
فجوهر المسرح كفن يظل قائما على ” حضور” (présence) يحيل على ” وجود ” (existence) , هكذا يذكرنا جون ديفينيو Jean Duvignaud وهو يعيد السؤال عن طبيعة المسرح متكئا على تأملات الفيلسوف هنري غوييه Henri Gouhier الذي يرى أن الجوهر في هذا الفن كامن في هذا الحضور الذي يتخطى موضوع المسرح نفسه ليتجلى كوجود,أي وجود المخاتلة الدائمة التي لا تستقيم إلا بادراك “التجسد” (incarnation) .
ولأن “التجسّد” رهان المسرح الأساسي في الكتابة والفرجة والتلقي والفعل الجمالي, فإن القوّة الكامنة فيه تفيض عنها دلالات الحركة في الزمان والمكان وهو ما نسميه اليوم بكل ثبات “الفضاء المسرحي” بتنويعاته الدلالية الذهنية والحسية والمادية والهندسية التجريدية وبكل مُتمماته التي تجعل هذا “التجسّد” متوهّجًا وفاعلا.
ولأن “التجسّد” أيضا اختراقٌ خارق لقوانين الزّمنية والمكانية واكراهاتها ,فإن أهم ما بلغه المسرح اليوم من ذرًى في التشظي والتشتّت واللامعنى في التعبير الجامع والفاجع عن حيوات الإنسان المعاصر زمن الاستهلاك والمكننة والاستنساخ والغربة المرقمنة,هو تخلصه كفن من المقولات الموروثة التي تحشره في فنون لا تقوم بالضرورة على مبدأ تحقيق هذا “التجسد” كفن التصوير والرّسم وهندسة المنظور.
مقولات كتلك التي ردّدها البعض مثلا عن ليون باتيستا ألبارتي Léon Battista Alberti منذ عصر النهضة وهي أن يكون المسرح “نافذة مفتوحة يمكن أن نطل منها على التاريخ ” أو مقولة ” نافذة مفتوحة عن العالم ” التي ردّدها بول سيزان Paul Cézanne والتي تلقفتها المدرسة الطبيعية في المسرح وحاولت تقديمها كرؤية ممكنة تتجاوز الإيهام والخداع البصري وغيرها من الموروثات المتعلقة بإصلاحات المشهد المسرحي الكلاسيكي.
وبهذا النزوع الدائم نحو الاستقلالية عن الفنون عامة والفنون المجاورة له, استطاع المسرح بمرونة فائقة أن يكون فنّا جوهريا فريدا ” قائما في العالم”, أي قائما في الوجود دون أن يكون هو العالم و دون أن يكون ” انمساخا ” (Avatar) لهذا الوجود.
وتكاد تكون الأطروحة المنقذة لهذا التوهان الإدراكي لمسألة الفضاء المسرحي الجامع للزمانية والمكانية و هو ما قدمه إيتيان سوريو Etienne Souriau في مقترحه الجمالي المتعلق بتنظيم الفضاء الركحي في نظريته “المكعب والكرة ” (Le Cube et la Sphère) والتي سمحت للفن المسرحي باعتباره فعلا حدثا أن يتنقل بحرية كما يشاء من علاقة المجابهة بين الحضور والتلقي سواء في واجهات المكعب المتعددة إلى ملامسة البؤر الديناميكية الحيّة في العمل الفني دراميا وعمليا أو إلى حدود انتفاء الرّكح والقاعة في تخوم دوائر الكرة.
ويبدو أنه بفضل هذه المرُونة الفريدة التي اكتسبها الفن المسرحي على ضوء هذا المقترح الجمالي والعملي أصبح هذا “التجسد” (عبر حضور جسد الممثل) الذي أشرنا شرطا أساسيا لنشأة الفضاء المسرحي وتحولاته في ثنائية الزمنين المتجاورين الزمن الحقيقي المعاش لحظة الفرجة والزمن المتخيل للفرجة المعاش أيضا من خلال الأفعال. إن مقولة هنري غوييه اللاهث وراء تحديد “جوهر المسرح” قائمة في الحقيقة على مفارقة حين يقول “رُوح المسرح هو أن يمتلك جسدا ” (L’âme de théâtre ,c’ est d’avoir un corps) لتجد في هذا المقترح الجمالي الذي يقدمه ايتيان سوريو أبلغ تجسيد لها, ولعلها أيضا تعبير مفارق لابد من وضعه في البال حين نفكر في إشكالية المسرحة (La théatralité) أي ما يكون به المسرح مسرحا.
(II) – المسوغات
وعليه فنحن اليوم وقد فعلت أطروحات ما بعد الحداثة فعلها في محو الخرائط و إتلاف الرسوم في الفضاء المسرحي الذي تحول على حد عبارة ابن سينا إلى مجرد “خلاء”, فإننا نروم في هذه الورقة التقديمية للندوة الفكرية الدولية لمهرجان أيام قرطاج المسرحية العودة إلى سؤال الأمكنة والذاكرة لتمثلات الفضاء المسرحي في كامل أبعاده ,وإن تدخل السنوغرافي وصانع الفرجة والمؤرخ والمهندس المعماري والأنثروبولوجي لضروري للملمة شظايا هذا الميراث التاريخي والحضاري الشاسع الممتد من أواخر القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الخامس ميلادي لأمر في غاية الأهمية في إعادة خلخلة المسلمات الراكدة في تمثلاتنا للمسرح .
إن الناظر في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية لا يجد صدى لكيفية تعامل العرب مع آثار ما وجدوه من المسارح الرّومانية, وتعاملهم لا يتجاوز عتبة “المجهول به”, وتكاد معرفتهم لا تتعدّى حيرة أسلافهم الفاتحين حين اعترضهم مسرح بُصرَى الشام على حدودهم الحجازية فحوّطوا بسور وحوّلوهُ إلى قلعة عسكرية, أو حيرة المؤرخين والرحالة أمام هذه الآثار والمسارح المنتشرة حول المتوسط, كمثال أبي عبد الله البكري (القرن XI م) حين يذكر خرائب قرطاج ويصف مسرحها في “المسالك و الممالك ” بتسميته الإغريقية “الطياطر” ويقول :” …وأعجب ما بقرطاجنة دار الملعب, وهم يسمونها الطياطر قد بنيت أقواسا على سواري, وعليها مثلها ما أحاط بالدار وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات“.
ومن الواضح أن الرجل لا يعرف المسرح بالرّغم من موطنه الأندلس القريب من العالم اللاّتيني, و ظل مكتفيا في ذلك بالتسمية الصّحيحة “الطياطر”, مخطئا في التّعرف على شعار المسرح المكرّس في قناعي التّراجيديا والكوميديا المرموز إليهما بقناع عبوس وآخر ضاحك, ويعتبرهما رمزا للرّياح. ودوننا في كل ذلك خلو أيّ أثر في الثقافة العربية الإسلامية بما يوحي بمعرفة بالآداب المسرحية الإغريقية بالرّغم من إطلاع العرب على الفلسفة والآداب الإغريقية وسعيهم إلى ترجمتها, بما في ذلك الآثار التي تعرّضت للمسرح سواء تعلق الأمر بكتابات “حكيم يونان” أفلاطون,أو”المعلّم الأول” أرسطوطاليس.
ويبدو أن تمثل هذا الإرث الإغريقي- الروماني لايزال غائبا أو مغيّبا في مسرحنا العربي أمام الاكتفاء الرّسمي بما هو ثابت لا يتغير كالتعاليم السرمدية والذي كرسه الإتباع للآخر المهيمن أو ما أوحى به وهم النزوع الهووي التي لَوَتْ أعناق الحقائق التاريخية والحضارية .
و لذلك وعلى ضوء هذه المشاغل الحضارية التاريخية والجمالية في تقاطعاتها مع تمثلات الفضاء المسرحي ومن أجل إدراك جديد لجوهر المسرح وطبيعته على محك ما تَعِدُ به انزلاقات السينوغرافيا ككتابة في الفضاء وبالفضاء و تعالقها مع مقترحات التكنولوجيا الجديدة في مجال البصريات والتصميم الضوئي, فإننا نقترح على المساهمين في أعمال هذه الندوة العلمية المحاور التالية :
(III) – المحاور
المحور الأول: ما حدود القراءة التاريخية والأركيولوجية للإرث المسرحي الإغريقي – الروماني المغيب من خلال شواهده الأثرية والمكانية ضمن المجال الجغرافي للشمال الإفريقي والعربي المشرقي؟ وما مدى علاقته اليوم بتمثلاتنا للفضاء المسرحي وأثره في مخيالنا الجمعي وإنتاجنا الرمزي ؟
المحور الثاني: تجاوزا للنموذج الجاهز الذي تقترحه تعليمات السينوغرافيا في تاريخ المسرح الغربي هل يمكن الحديث عن مقترحات جديدة في تمثلات الفضاء المسرحي سواء في التجربة المسرحية العربية أومن خلال روافد المرجعية الشرقية للفرجة؟ وإن وجدت هذه المحاولات كيف تم التأصيل لهذه الأطروحات نظريا وجماليا ؟
المحور الثالث: هل يمكن اليوم الحديث عن السينوغرافيا كفن مستقل بذاته يرتقي إلى مصاف الكتابة و التأليف, وبالتالي الحديث عن وظيفة السينوغراف كوظيفة واضحة ومستقلة عن باقي الوظائف المسرحية كالإخراج وغيرها من الوظائف ؟ أم أن السينوغرافيا لا تزال في حيّز التردد بين خدمة الإخراج وصياغة مقترحاه وبين الانفلات إلى مجالات فنية أخرى أو مجاورة ؟
المحور الرابع: أصبح الفضاء المسرحي اليوم منظورا إليه بوصفه الحيز الجمالي المستقل بذاته, وهو ما يمكن أن نسميه بشعرية الفضاء (la poétique de l’espace théâtral) المسرحية وإنشائيته (La poïétique de l’espace théâtral), فهلمن امكانية للحديث عن هذه الجمالية من خلال تدخل السينوغرافيا ؟
المحور الخامس: هل يمتلك السينوغراف اليوم لسانا, بمعنى هل ينتج السنوغرافي خطابا مقابل ثرثرة المخرج والدراماتورج؟ وإذا أفصح السينوغراف فبأية لغة يتكلم؟ و أي معجمية يستعمل ؟ وما هي مواضيع خطابات السينوغراف تجاه مهنته و تجاه عمليته الإبداعية ؟ و هل هو محروم من الكلام ؟