"أهل المخابئ" ملامح الكاتب ومستويات الكتابة/ بقلم: الدكتور عبد الكريم برشيد

يقول مثل من أمثالنا  ” الديك الفصيح من بيضته يصيح ” وكذلك هو المبدع الحق .. فإنه يولد مبدعا .. أو يكون مؤهلا للإبداع .. أ, مبشرا بالإبداع . وفي هذا الاسم – كريم الفحل الشرقاوي – يسكن المبدع .. ويقيم الفنان . وهو يعبر عن عمقه الإبداعي بالشغب المعرفي والجمالي . إنه يفيض حركة .. ويفيض كلاما .. ويفيض خيالا .. ويفيض عطاء .. ويفيض أسئلة .. ويفيض أحلاما . وهو يتجدد بحالات الوجود .. في كل يوم من الايام  بل في كل لحظة من اللحظات هو في شأن من الشؤون .. وفي حالة من الحالات .. وفي مقام من المقامات .. وفي درجة من درجات الوجود ..

عرفت هذا الاسم في أواخر الثمانينات . وكان ذلك بمدينة الخميسات . سمعت كلامه الحار ورأيت تمثيله الصادق .. وبين الشارع والخشبة رأيت أجسادا في جسد واحد .. وتمثل أشخاصا في شخص .. و اطلعت على شئ من مشاريعه المجنونة .. وهي مشاريع تنبت كالأزهار البرية وتشتعل  وتنطفئ لتحل محلها مشاريع اخرى غيرها أكبر منها وأخطر.  وربطتني به صحبة المسرح والابداع .. وواكبت حالاته في تقلباتها وتغيراتها .. وعرفت أن الذي يحركه  وينطقه  ويغضبه ويسعده ويشقيه هو .. سيدنا ومولانا المسرح . هو وحده لاشريك له .. وقبل أن أعرف هذا المبدع الانسان عرفت مسرحه .. فكانت عطاءاته هي بطاقة تعريفه الشخصية .. وهي جواز مروره إلى الوجود والى المجتمع وإلى الناس وإلى العالم وإلى الكون وإلى الحقيقة والتاريخ ..
في ذلك اللقاء الأول كلمني عن المسرح وإلى اليوم – وإلى هذه اللحظة – فهو لا يكلمني ولا أظنه يكلم أحد غيري  في شيء غير المسرح .. ولكنه – في هذا المسرح – يتكلم عن كل شيء .. ويحاول أن يقبض على كل شئ .. إنه يتكلم في الأدب والصناعة وفي الفن والفكر وفي الدين والسياسة ويتحدث عن الناس والأشياء .. وعن الحقيقة والوهم .. وعن المحسوس والمتخيل .. وعن اللحظة والتاريخ  وعن الممكن والمحال .. وعن القبح والجمال .. وعن الحال والمآل .. وعن الفعل والإنفعال ..
لقد اكتشفت في هذا المبدع بصره الحاد وبصيرته الصادقة وفراسته القوية .. واكتشفت جرأته وشجاعته الأدبية .. فهو مستعد لأن يقول كل شيء .. وأن ينطق كل شيء .. وأن يمسرح كل شئ .. وألا يخشى من أي شئ .. أو من أي أحد .. محافظا على رأس المبدع عاليا . واكتشفت فصاحته الغامضة وغموضه الفصيح .. وعرفت أنه من سلالة المبدعين المنقرضين .. الذين لم تبق منهم اليوم إلا قلة قليلة.  فهو لا يكف عن السفر والرحيل .. وهو دائم الاختراق والاحتراق .. وهو لا يكون إلا حيث تكون الاشياء أكثر صدقا وأكثر جمالا وأكثر نبلا وأكثر صفاء وأكثر فصاحة وأكثر بلاغة .
داخل هذا الإسم تسكن عواصف وزوابع ورياح هوجاء . رياح تهب في كل الاتجاهات وفي كل الأوقات واللحظات . هذا الغليان الداخلي لا يقدر أحد أن يحتويه .. أو أن يواجهه أو أن يدجنه أو أن يصنفه في الخانات والقوالب الجاهزة .. وهل يمكن اختزال أمواج الإبداع ومحيطاته اللامحدودة داخل الفناجين والأقداح الصغيرة والضيقة والمحدودة ؟
إنه واحد من سلالة المبدعين الحقيقيين .. ولا أظن كلمة أخرى – غير هذه – يمكن أن تعبر عن حقيقة هذا الرجل . هو مبدع في زمن المدرسية .. وهو موسوعي لا يؤمن بالاختصاص وبأحادية المعرفة والرؤية . يحدث هذا وهو يعايش و يجاور – رغما عنه وعنا جميعا – أهل الاختصاص المدرسي . و هو منفلت و غير منضبط وغير متموضع في موضع قار وغير منتظم أيضا . يحدث هذا في زمن المنتظمين في الصفوف .
وهو مشاغب في زمن الهادئين .. وهو مجنون في زمن ( العقلاء ) وهو – أيضا – ممتلئ – لحد الانفجار- وذلك في زمن الفارغين
لقد أسس هذا المبدع فرقا مسرحية .. وأنشأ محترفات  ودخل مختبرات ومارس فيها التجريب الحق . مارسه في المسرح وبالمسرح ومع المسرحيين .. وكان ذلك من أجل إنسانية الانسان ومن أجل مسرحة هذا المسرح .. وذلك حتى لا يخرج هذا الفن – العلم – الفكر من جلده ومن روحه  وأن يتم ذلك باسم الاجتهاد والتجريب والتجديد الشكلي ..
هذا الاسم ليس غريبا عن الكتابة وهو لايفعل ولا ينفعل إلا بها وفيها . وهي عنده تبدأ بالحروف والكلمات ولاتنتهي عند حدود العبارات . وهو لايقرأ النصوص ولايراها  ولا يتمثلها إلا بعين هذا الكاتب الذي يسكنه .. وهو بهذا يعيد ترتيب الكلمات وترتيب المشاهد وترتيب الاشياء .
إنه يجعل الروايات تصبح مسرحيات ويحول المقالات إلى مسرحيات و يترجم الأشعار الى مسرحيات … وفي كل عالمه لامكان إلا للمسرح واليوم .
يقدم هذا الاسم مسرحية من مسرحياته للقراءة ويشكل هذا الفعل – في ذاته – تجربة جديدة ومغايرة في مسيرته الإبداعية . و يفتتح هذا المشروع بنص مسرحي يحمل اسم   ” أهل المخابئ ” وهو نص جديد وغريب ومثير ومدهش في كل شيء . نص فيه سوريالية تقفز على الواقع .. وفيه شاعرية تتحدى النثرية .. وفيه عبثية تخاصم المنطق .. وفيه مشهدية تتجاوز الكتابة بالكلمات فقط .. وفيه شخصنة للأشياء .. وفيه أحلام تصل الى درجة الكوابيس .. وهي تعيد ترتيب هذا الواقع وتؤثثه وذلك بنفس عناصر هذا الواقع وبنفس المكونات والمفردات التي نعرفها ..
مثل هذا النص لايمكن أن نقدمه بالكلمات أو أن ننوب عنه في تقديمه الى الناس لأنه مكتوب بلغة أخرى وعليه  فإنه ترجمته لابد أن تكون .. خيانة ..

 
 
 
                                          
 
 
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت